وقال تعالى وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ - سورة آل عمران من الآية 134
حسن الخلق: ملكة للنفس يقتدر بها على صدور الأفعال الجميلة بسهولة، واختلف هل هو غريزي أو كسبي؟
عن أنس رضي الله عنه قال: »ما مسست ديباجًا ولا حريرًا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط أف، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟ « متفق عليه.
(ما مسست) المس هو الإفضاء باليد بلا حائل
(ديباجًا) هو ثوب سداه ولحمته إبريسم ويقال هو معرب
(ولا حريرًا) هو الإبريسم، وهو هنا من باب الترقي لأنه أنعم من الديباج
(ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم) لا ينافيه ما جاء في صفته صلى الله عليه وسلم أنه شثن الكف والقدمين؛ فالمقصود من هذه الصفة ميل الكف والقدمين إلى الغلظة من غير قصر ولا خشونة، أي غلظ العضو لا خشونة الجلد وهذا محمود عند الرجال، لأنه أشد لقبضهم، لا للنساء
(ولا شممت رائحة قط) أي في زمن من الأزمنة الماضية
(أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهي له عرض لازم غير منفك ومن ذاته غير مستمد من شيء خارج
(ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين) هي مدة توطنه صلى الله عليه وسلم المدينة بعد هجرته إليها جاء به أهله إليه صلى الله عليه وسلم ليخدمه
(فما قال لي قط أف) هو صوت يدل على التضجر
(ولا قال لشيء فعلته) جليلاً كان أو حقيرًا
(لم فعلته؟) سؤال عن سبب الفعل والباعث عليه
(ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟) وذلك منه صلى الله عليه وسلم كمال تسليم منه لمولاه سبحانه، وأن ما ترك ولم يظهر مما لم يرد الله عدم ظهوره لا سبيل لظهوره فلا فائدة لطلب حصول ما لم يحصل ولا للسؤال عن السبب الحامل. وفيه كمال حسن خلقه صلى الله عليه وسلم؛ فإن شأن المجاورة والمخالطة تقتضي السؤال عن ذلك، ولكن حسن خلقه حمله على ألا يسأل عما وقع من خادمه.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: »لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا« متفق عليه.
(لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشًا) أي ليس ذا فحش في كلامه وأفعاله، والفحش ما يشتد قبحه من الأقوال والأفعال
(ولا متفحشًا) أي متكلف ذلك ومتعمده
(وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا) وذلك لأن حسن الخلق يقتدر به صاحبه على محاسن الأفعال وترك رذائل الأعمال، ومن كان كذلك فلا شك في كونه من الخيار والأخيار. وقيل المراد منه هو صلى الله عليه وسلم لأنه الأحسن خلقًا فيكون عامًا مراد به خاص، والأول لما فيه من حث على التخلق بذلك أنسب
عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق. وإن الله يبغض الفاحش البذي« رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح.
(ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق) وهذا الحديث ظاهر في أن نفس العمل يوزن بأن يجسد، وتجسيد المعاني جائز كما جاء »يؤتى بالموت في صورة كبش« الحديث. وفي التقييد بالمؤمن إيماء إلى أن الكافر لا يوزن عمله لأنه لا طاعة له لتوزن في مقابلة كفره، وفيه إشارة إلى سوء خلق الكافر؛ وذلك لأنه ترك عبادة خالق كل شيء إلى عبادة من لا يخلق من شيء
(وإن الله يبغض) أي لا يثني عليه في عال الملكوت خيرًا أو لا يثيبه أو لا يوفقه
(البذي) هو الذي يتكلم بالفحش ورديء الكلام، وقيل البذي هو السئ الخلق، وهو ملازم لما قبله أي الفاحش لأن الفحش إنما يصدر عنه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: »سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: الفم والفرج« رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
(عن أكثر ما يدخل الناس الجنة) أي من الأعمال والأقوال والفعال
(فقال: تقوى الله وحسن الخلق) قال ابن القيم: جمع بينهما لأم تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه
(وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: الفم والفرج) وذلك لأنه يصدر من الفم الكفر والغيبة والنميمة ورمي الغير في المهالك وإبطال الحق وإبداء الباطل وغير ذلك مما أشار إليه الشارع بقوله »هل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم« وبقوله »وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفا« أما الفرج فيصدر منه الزنى واللواط
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم« رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
(أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا) أي فكلما كان العبد أحسن أخلاقًا كان أكمل إيمانًا، وفيه دليل زيادة الإيمان ونقصانه
(وخياركم) أي عند الله سبحانه وتعالى
(خياركم) أي في الظاهر
(لنسائهم) وذلك بالبشاشة وطلاقة الوجه وكف الأذى وبذل الندى الصبر على إيذائها.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: »إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم« رواه أبو داود.
(إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه) قيل حسن الخلق هو بسط الوجه وبذل الندى وكف الأذى، وقيل هو ألا يخاصم ولا يخاصم من شدة معرفته بالله تعالى. والمعنى أي ليبلغ بحسن الخلق الداعي له إلى التحلي بالمحامد والتخلي عن المذام
(درجة الصائم القائم) أي أعلى الدرجات؛ فإن أعلى درجات الليل درجات القائم في التهجد، وأعلى درجات النهار درجات الصائم في حر الهواجر.
عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: »إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون« رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
(إن من أحبكم إلي) أي أكثركم حبًا إلي، أي اتباعًا لسنتي
(وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة) أي في الجنة فإنها دار الراحة والجلوس، أما الموقف فالناس فيه قيام لرب العالمين، والنبي صلى الله عليه وسلم حينئذ قائم للشفاعة للعباد وتخليصهم مما هم فيه من الكرب إذ هو المقام المحمود الذي أعطيه يومئذ
(أحاسنكم أخلاقًا) أي أفضلكم خلقًا
(وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني) حذف الظرف لدلالة ما قبله عليه أو لزيادة التفظيع للمعصية وشناعتها بتعميم البعد للمجلس والموقف
(الثرثارون) الثرثار هو كثير الكلام تكلفًا
(والمتشدقون) المتشدق هو المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيه تفاصحًا وتعاظمًا لكلامه
(قالوا) أي الحاضرون من الصحابة
(يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون) أي عرفنا المراد منهما
(فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون) المتفيهق أصله من الفهق وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه، بالإتيان الزائد على الحاجة على سبيل الإطناب والإسهاب، ويغرب به، أي يأتي بالألفاظ الوحشية الاستعمال والغير مألوفة في الكلام، تكبرًا وارتفاعًا وإظهارًا للفضيلة على غيره.
--------------------------------------------------------------------------------
0 التعليقات:
إرسال تعليق