بقلم الدكتور عبد الصبور شاهين
قليل جدا من الكتابات الإسلامية هو الذي يعد إسهاما في معالجة مشكلات عالمنا الإسلامي إسهاما جادا مخلصا من أجل عودته وتقدمه.
وكثير جدا ما نقرؤه من تلك الكتابات التقريرية أو الرثائية الوعظية التي تخطها أقلام إن كانت تتاجر بالدين فلا غرابة في عالم يقوم على المتاجرة حتى بالقيم فأما إذا كانت معروفة بالعلم والذكاء ، فذلك هو داعي الحسرة والإشفاق في أنفسنا على علمائنا الأذكياء.
أيمكن أن نتصور عالم الفكر الإسلامي مجرد أقاصيص تحكى للبهر ، أو مقالات يجتهد أصحابها في تدبيج مقدماتها وسياقاتها لننتهي بعد قر ائتها إلى هز الرءوس ولوك عبارات الثناء والإعجاب؟
هذا على حين يتشاغل كتاب الفلسفات المادية برسم تطلعات العصر وعلاج مشكلات التطبيق على مستوى عالمي ، حتى ليحس المرء بعد مطالعة بحث من هذه البحوث بحاجته إلى أن ينزوي نفسيا في ركن من أركان اليأس والقنوط ، لأنه غائب تماما عن المعركة الحاضرة! ! .
تلك محنة الوجدان والعقل المسلم الذي ينشد لدى كتابه ومفكريه مستوى من المبادرة والجد والإخلاص ، ولونا من الكتابة المباشرة التي تعيش عصرها وأفكاره وتطلعاته ، فإذا هم لا يزيدون على مضغ حكايات الأولياء واجترار بضعة خيالات محلقة في سماوات التيه ، ومجابهة الواقع الصارخ الملح بما يميعه في وعى الجماهير ثم يسرح بها بعيدا بعيدا في أحلام الماضي وتصوراته.
ومن البله أن نظن أن أخبار السلف هدف ثقافي يقصد لذاته كمتعة عقلية دون أن يكون من وراء ذلك مشروع إنهاض وخطة توعية من أجل صنع الحاضر والتأثير في الأجيال القادمة ، حسب هؤلاء السلف أنهم كانوا أمثلة مسهمة في صنع عصرهم وتوجيه معاصريهم ، ثم مضوا عليهم من الله رضوان ومن الناس سلام.
وجاء من بعدهم خلف أصبح بعد حين سلفا بعد أن مضى إلى الرفيق الأعلى مخلفا كذلك تركة من السلوك ومن الكفاح هي جزء من تاريخ أمتنا.
وجاء جيلنا ليتوهم أو ليراد له أن يتوهم أنه مجرد وارث لأجيال سابقة عليه أن يستغل تركتها في خلق ملذاته ، فإذا ما جوبه بتحديات عصره لجأ إلى المباهاة بتراثه ، المباهاة وحدها المتمثلة في أكثر الكتابات المنشورة التي لا تمل أن تحكى وتحكى ، حكايات في حكايات ، وتقف أحيانا مستعلية من فوق منبر لتمطر على الحضور وعظا في وعظ دون أن تبلغ في ظن الجماهير أن تهز وجدانا أو حتى تحرك قشة.
إن أخص صفات عصرنا هي أنه ينتج من الأفكار بقدر ما ينتج من الأشياء ، وليس من الضروري أن نتطلب من الأفكار المنتجة أن تكون نافعة دائما كالأشياء ، فإن المجتمعات التي تصدر إلينا أشياء الحضارة ترى في الأفكار سلعة ينبغي أن تتغير كل يوم كما تتغير طرز الأشياء ولذلك يقف مثقفونا مبهورين أمام موجودات الفكر الواردة من الخارج ماذا يأخذون ، وماذا يدعون؟ بل قل: ماذا يقرءون ، وماذا يترجمون؟ . . ولا شيء أكثر من هذا. . . يكفيهم أن يستطيعوا ملاحقة الأفكار دون أن يكون عليهم أن يواجهوها ، أو ينقدوها ، فهم إلى أن يصوغوا نقدا معينا لأحد الاتجاهات الجديدة نسبيا يكون الوقت قد فات ، وتقادم بمرور الزمن من ينقدون ، وغطت عليه أفكار أخرى أشد لمعانا وأكثر جاذبية وإشعاعا.
ومما لا شك فيه أن العالم الإسلامي هدف ثمين من أهداف-تصدير- الأفكار ، نظرا إلى موقعه وخطورة موقفه بين الكتل المتصارعة ، أو بعبارة أخرى: مراكز الإنتاج ، والهدف من وراء التصدير واحد لدى كل هذه المراكز: أن يبقى هذا العالم مفتقرا إليها على اختلافها ، وأن يحال بينه وبين أفكاره الأصيلة التي يمكن أن تغنيه عن الاستيراد ، وتحقق له الاكتفاء الذاتي.
ومن المعروف في دوائر الاقتصاد أن الاحتكار إذا تحقق لمركز إنتاجي في سوق معينة فإن من المتوقع أن يبدأ المنتج في إفساد السلعة ، بتقليل جودتها اعتادا على الاحتكار المتاح له وطمعا في ربح أوفر.
وسوق الأفكار أخطر أسواق المنتجات وأكثرها تقبلا للتزيف والإفساد ، ومن ثم حفلت أسواقنا بما هو أشد فتكا من السموم ، وأعظم انتشارا من الهواء يتخلل كل خلية وينخر في كل بناء. . أفكار ترتدي أثوابا أو تحمل شعارات أو ترفع مشاعل ليس الثوب فيها أو الشعار أو المشعل إلا قناعا يستر الزيف والخطر.
وليس من الممكن أن نفهم موجات السيطرة الخارجية على مجتمعاتنا إلا إذا لاحظنا مثلا تبعية الفتاة المسلمة في كثير من بلاد الشرق العربي لكل ما يظهر في أوروبا أو أمريكا من أزياء ، فما إن ترتدى الزي إحدى (المانيكان) قصيرا بمقدار سنتيمتر واحد حتى تبادر فتياتنا إلى تقصير أثوابهن بمقدار شبر واحد! !
ليس المهم ملاحظة أن تقصر الفتاة أو تطول ثوبها بحكم (الموضة) الشائعة فإذا لم تفعل عدت متخلفة وإنما المهم ملاحظة هذه السيطرة التي توفرت لملوك الأزياء وأكثرهم صهيونيون ، على فتياتنا المثقفات بخاصة ، حتى كأنهن جميعا أعضاء في جوقة موسيقية واحدة وأمامهن (مايسترو) كلما أشار بإصبعه أو بعصاه تحرك العازفون والعازفات في اتجاه العصا كالقطيع.
ودلالة هذه التبعية أخطر مما قد يبدو في ظاهر الأمر لأن تأثيرها كل القيم التي يقدسها المجتمع في شخص المرأة قيم الحياء ، والأنوثة الواعية ، والجسد غير المتعرض لذباب الأعين ، وقيم التماسك ، والالتزام في تربيتها ، وقيم الجيل الناشئ على يديها وهو الذي ننشده لغد هذه الأرض ومستقبل هذا الدين وبكلمة واحدة وبلا مغالاة: نحن هكذا محكومون من عمق مجتمعنا لملوك الأزياء ودولة المانيكان.
ومع ذلك قد يقال: إن مسألة الزي أقل خطرا من غيرها فهي على أية حال مسألة غلاف. . . أما غيرها كقضية المعتقدات التي تزيف للأجيال الناشئة وجوهرها تحطيم لدينها. . .
وقضية الروح المنهزمة أمام انتصارات العلم في غير بلاد الإسلام ، الروح التي تقف متضعضعة مبهورة أمام منجزات الإنسان الأوروبي أو الأمريكي.
وقضية الحرية الفكرية المعدومة في فلسفة التربية حتى أصبح كل هم المدارس إنتاج نماذج مصبوبة في بوتقة التبعية والتقليد. . وقضايا أخرى كثيرة كلها أهم من قضية المني جيب ؛ أو الميكرو جيب.
وبرعم ذلك لا نكاد نلمح أدنى فاصل بين هذه القضايا جميعا فالمصنع المنتج واحد وهدف التصدير واحد والمستهلك المستهلك واحد أيضا هو الإنسان المسلم.
والمشكلة بالإضافة إلى هذا كله أن أكثر كتابنا أصبحوا يرون في قيام هذه الحالات شيئا مألوفا غير جدير بالمناقشة إما زهدا في الدنيا وإما يأسا من الإصلاح وإما تعودوا على المشاهدة اليومية كما يتعود المدمن تأثير المخدر. وكأنهم المعنيون بقول الشاعر :
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجـرح بميـت إيـلام
وأقول: (أكثر كتابنا) لأن هنالك (قلة) نصبن أقلامها للذود عن المستقبل والدفاع ضد التيار المخرب متحملة في ذلك عنت الفساد وسلطانه ومتحدية في المجتمع مراكز استيراد الأفكار وعناصر اللامبالاة وهؤلاء القلة لا تكاد –والحمد لله- تخلو منهم أرض الإسلام ، يكتبون بكل لغة ويحاربون في كل معركة إيمانا منهم بوحدة المقاتلين أمام الخطر الزاحف.
ومن هؤلاء القلة مؤلفنا هذا الذي يدخل اسمه لأول مرة حقل اللغة العربية بنشر ذلك الكتاب: (الإسلام يتحدى) وإن كان لاسمه رنين مدو في شبه القارة الهندية باعتباره ثالث اثنين يتولون قضية الإسلام المعاصر في وجه الزحف الفكري: أبو الأعلى المودودى ، وأبو الحسن الندوي ، ووحيد الدين خان.
والحق أن علماء باكستان الهند المسلمين قد أتيح لهم أن يتصلوا اتصالا مباشرا بمصادر المعرفة الحديثة حتى أصبحوا من أعلامها ، وهم في هذا يضارعون أكثر علمائنا العرب اتصالا بثقافة الغرب مع فارق جوهري في رأينا هو أن الأولين الذين نشير إليهم لم يغرقوا أنفسهم في المعرفة الأكاديمية ، لتستولي من بعد على عقولهم وأقلامهم وليصبحوا مجرد ناشرين أو مفسرين أو حتى معلقين على ما يقدمون من فكر الغرب وعلومه.
لقد وقف هؤلاء عمالقة في وجه التيار وانغمسوا في مشكلات الجماهير وحاولوا أن يقدموا لهم تصوراتهم من أجل المستقبل و من أجل تحريك الثورة الفكرية في كيان الإنسان المسلم فهم في الحقيقة كتاب ثوريون ذوو أصالة ووعي وإيمان.
وليس من السهل أن نقول : إنهم جميعا يمثلون طريقة واحدة في الأداء برغم أن هدفهم واحد فإن لكل منهم أداءه الخاص وطريقته الفذة التي عرفته بها الجماهير المسلمة.
وحسبنا أن نقرأ هذا الكتاب الجديد لندرك أنه يمثل عقلا وثقافة ومنهجا يختلف بها مؤلفه عن جميع من عرفنا من الكتاب المعاصرين.
ولعل من المناسب أن أورد هنا ما كتبه المؤلف في صحيفته (الجمعيت الأسبوعية) في عدد 7 من فبراير 1969 ، موضحا الدور الذي يحاول أن يقوم به قال :
(إن المشكلات التي يواجهها الإسلام في هذا العصر ، منها ما هو علمي يوجه إليه بلغة العلم ومصطلحاته ولذلك كان لزاما أن نضع إجاباتنا في مواجهة هذه الحملات المسعورة بنفس المصطلحات العقلية والعلمية التي يستخدمها المعارضون للدين. ولازال هذا الميدان منذ أمد طويل مجالا لنشاطي واهتمامي حتى كان آخر ما كتبت : (الإسلام يتحدى). والميدان الثاني لنشاطي هو ما نسميه بميدان بناء الأمة الإسلامية وتعميرها والعمل على نهضتها وعلينا في هذا المجال أن نكشف العلل ونمحص الأسباب السياسية والاجتماعية التي أدت إلى سوء أحوال المسلمين ثم وضع خريطة للمستقبل بعد الوقوف على أسباب النكسة التي أصابتها وتقوية الشعور القومي لدى المسلمين (في شبه القارة الهندية) ليربط بين مختلف أنشطتهم فيجعلها مجموعة معنوية متكاملة وحثهم على مواصلة الجهد لتكون منهم أمة قوية جامعة في العالم.
(وبكلمة أخرى نحن نصبو إلى بعث الأحلام التي رآها أسلافنا خلال كفاحهم وتحقيقها لإعلاء شأن الأمة المسلمة وهى الأحلام التي لم تتحقق لسبب أو لآخر.
(وهذه هي المهمة الفكرية التي تضطلع بها صحيفتنا (الجمعيت الأسبوعية) ويمكننا أن نقول بحق: إن هذه المهمة قد أصبحت أكبر ميزة خاصة لجريدتنا في المجال الصحفي في هذا العصر على حين أصبحت الصحافة الإسلامية علما على الرثاء بل إن آخر ما تستطيعه هذه الصحافة هو مجرد التعليقات السياسية على الأحداث العامة وتقديم بعض المعلومات الطريفة التي يتشوق إليها العامة من القراء. ففي هذا المناخ الصحفي تعتبر (الجمعيت الأسبوعية9 الصحفية الوحيدة التي تعمل على إحياء وتقوية الشعور القومي لدى المسلمين ، باحثة عن مواطن الخطأ في كفاحهم الحضاري ونحن لا نجد كلمات نشكر الله بها على أنه-سبحانه- اختارنا بمشيئته لسد هذا الفراغ).
فالرجل كما نرى صاحب دعوة يريد إبلاغها إلى ضمير الأمة المسلمة بلاغا يحركها نحو أهدافها ويوحدها أمام الأخطار ، وهى دعوة ذات شقين ، أحدهما يستنفد العمر كله ولكنه يعمل لتحقيق كليهما بوسائله المتاحة: أن يكتب كتبا ، وأن يسخر مجلة أسبوعية.
والواقع أن كتابه هذا يعتبر تحقيقا لحلم طالما راود كتاب العقيدة والمدافعين عنها ، فقد كانت محاولات السابقين للبرهنة على وجود الله ، وإثبات الرسالة وما يتصل بهما من حقائق ميتافيزيقية-قد وقفت عند جهود علماء الكلام باستخدام الأقيسة المنطقية التي بليت لطول مالاكتها الألسن ، وأصبح مجرد التحدث بها داعية إلى الملل منها ، بل إن لغتها لم تعد مفهومة لشباب الإسلام ، الذي يعيش في هذا العصر ظروفا تتغير من يوم لآخر ، وتطالعه ثقافات ذات جدلية ماهرة ومناهج علمية تجريبية لم يعد العقل يقنع بدونها.
لقد أصبح كل شيء موضع شك ، وبذلك سقطت القضايا القائمة على المسلمات المنطقية ،لأنه لا شيء في العقل الحديث بمسلم منطقيا إلا وله نقيض منطقي يمكن أن يحتمله العقل. أما التجربة فهي الدليل الذي لا يدفع على قضيته وما ينتج عن التجربة ليس مسلما منطقيا ولكنه حقيقة نسبية موضوعية وهذا شأن العلم. ومن هنا كان لابد من تغيير المناهج الكلامية لإشباع رغبات متجددة في اليقين تريد أن تؤسس موقفها على أرض من المعرفة الجديدة التي اخترقت الآفاق وقاست أبعاد النجوم وتغلغلت في أسرار المادة حتى حطمتها واستخرجت منها طاقات لا حدود لها.
وإذا قيل: إن قضايا علم الكلام هي قضايا الغيب المطلق المحجوب الأسرار ، ولا يعقل أن يكون للتجربة دور في معالجتها. تذكرنا في رد هذا الرأي ما قاله عربي يعيش على فطرته وينطق على سجيته دون أن يكون قد ألم بشيء من منطق أرسطو: (البعرة تدل على البعير ، وأثر السير يدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، ألا يدل ذلك كله على الله اللطيف الخبير)؟ ؟
وكلمات هذا الأعرابي ألصق بالمنهج التجريبي القائم على الملاحظة وأقرب إلى التأثير في النفس وأقدر على إقناع العقل من أية صيغة قياسية-ما في ذلك شك.
لقد أصبح سيئا للغاية أن ينطق رجل الدين أمام الناس أو أمام الطلاب بقضايا متقادمة قال بها الأولون دون أن يحاول مزج المعرفة التقليدية بالجديد وأكثر ما تتجلى هذه المعرفة التقليدية في علم التوحيد أو الكلام أو مباحث العقيدة على اختلاف المصطلحات حيث يصر بعض الأساتذة على حكاية النزاع بين المعتزلة وأهل السنة ، والفرق بين الأشاعرة والماتريدية ، ووجهة نظر الخوارج والشيعة ، والخلاف بين الجبرية وغيرهم ، وتناقض ما بين العقل والنقل أو تساندهما ، وكل ذلك دائر فى حلقة مفرغة بعيدة عن مجال تفكير الشباب المتحول ، لأن هذا الكلام كله قد أدى وظيفته على خير وجه حين كان جزءا من صراع عصره حول المفاهيم والقيم ، فلما مضى عصره أصبح جزءا من تاريخ الفكر ، لا أساسا من أسس النقاش الحي النابعة من التجربة المعاشة.
ولذلك يعجز هذا الكلام عن إقناع ملحد حديث بخطئه لأن أسباب إلحاده ليست من موضوعات الكلام فالجدل الحديث لا يتناقش حول الجوهر والعرض ، ولا حول القدم والحدوث ، وإنما هو يتناقش حول حتمية المادة ووجود المادة الواقعية والمادة العقلية والعلاقة بين المادة والحركة ، حين ينتهي كل موجود مادي في حقيقته إلى حركة ، والاحتمالات الرياضية لتأثير الصدفة في نشأة الكون وامتداده حتمية التطور. وحقيقة الوجود في ضوء الإدراك الجديد لنسبية الظواهر الكونية وأهمها الزمان ، ذلك البعد الرابع الذي كشفه أينشتاين والتوقعات العلمية لوجود عالم أخرى غير عالمنا في سمائنا وفى السماوات الأخرى التي يدركها العلم أو يحدس بوجودها ويحاول معرفة شيء عنها. . .إلخ.
فإذا لم تكن هذه القضايا الجديدة هي محور النقاش في قاعات الدرس الجامعي. الذي يصوغ عقول الشباب فمعنى ذلك أن جامعاتنا تعمل في فراغ أيديولوجي وتخرج للمجتمع نماذج خربة واهنة أو مشوشة أو يائسة من جدوى العقيدة في بناء المجتمع الجديد ، نماذج تحس في أعماقها بالجفاف الروحي فهي لم تظفر بأرضية من الفكر الديني تقف عليها مطمئنة في مواجهة رياح التغيير العاصفة ، وإما لأنها محرومة من هذا اللون من الدراسة وإما-وهو الأخطر-لأنها غير مقتنعة بما عرض عليها من موضوعاته. وينتهى الأمر بهذه إلى أن تتبعثر في الفراغ ، وتحس باللامبالاة تجاه مسائل العقيدة ، لأن أسلم الطرق ألا تبالي ، فالهرب أسلم المسالك.
والغريب أن هذه الحال قد طفحت على سطح المجتمع منذ أوائل القرن التاسع عشر ، حين بدأ اللقاء والاصطدام بين ثقافتي الشرق والغرب يواجه مبعوثين إلى أوربا ، على عهد محمد على-في مصر-وتعرضت أعمال روائية منذ ذلك العهد وحتى يومنا هذا لتصوير التمزق الفكري الذي يعانيه هؤلاء المبعوثون ، من أمثال: تخليص الإبريز-لرفاعة الطهطاوى ، وعلم الدين- لعلى مبارك ، وحديث عيسى بن هشام-لمحمد المويلحى ، وقنديل أم هاشم-ليحيى حقي ، وعصفور من الشرق-لتوفيق الحكيم ، ومليم الأكبر-لعادل كامل فانوس ، أي أن المشكلة ثائرة وملحة من قديم ، دارت حولها روايات قديمة. ومع ذلك لم يبحث لها المفكرون الدينيون عن حل ولم يعرضوا لها بمناقشة لاستكناه أسبابها ، على حين اكتفت الأعمال الروائية بالتقاطها وتصويرها. والخطر بهذه السلبية إلى تفاقم ، والخراب إلى استفحال ، والضحية دائما هو الإنسان المسلم.
أليس غريبا أن يكون عتاة الملاحدة في مجتمعاتنا ممن يمتون إلى أسر ذات اتصال بالدراسات الدينية؟ ! ! وأن تنشر مجلة أسبوعية أن إحدى المانيكان تمثل جامعة الأزهر الشريف ثم تأتى بصورتها فإذا هي ترتدى ما ترتديه بنات باريس(1) ! ! ودعك من أن تكون إحداهن فتاة غلاف تنشر لها صورة عارية أشبه بصور السابحات الفاتنات ، وهى من بنات العلماء؟ (2) إنهم جميعا وأضرابهم نتاج هذا الانفصام بين الفكر الديني وقضايا العصر بحيث لم يأخذ هذا الفكر شكل ثقافة حية تجمع بين المعرفة والسلوك ، أي أن هناك عجزا شائنا في الثقافة المستخدمة للإقناع ، على حين استطاعت الثقافات الأخرى أن تحتازهم لمعسكرها لأنها صادفت فراغا فتمكنت ، بصرف النظر عن جدية الأشخاص أو هزليتهم وتفاهتهم ، وأحد أسباب هذا الانفصام أيضا أن من يتولون سدانة الفكر الديني لم ينهضوا لمواجهة تحدى العصر ربما لأنهم فعلا غير فاهمين لرسالاتهم إلا على أنها استحضار لماض أثرى لا علاقة له بحاضر ، وربما لتوهمهم أنه لا تحدى أصلا ، بل كل شيء هادئ على الجبهة! ! والدنيا بخير والحمد لله! ! . . فالمشكلة من هذه الوجهة أزمة في الشعور الذي يؤدى حين يكون سويا إلى الأرق المنتج ، والقلق الخلاق ، فأما حين يكون هناك شعور فإن الدين يتحول عند بعض رجاله إلى باب سخي للوجاهة والارتزاق ، وعند بعضهم إلى سلبية قاتلة ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ولست أنكر أن محاولات جادة قام بها بعض العلماء القلقين على مصير الإنسان في الشرق والغرب من أجل البرهنة على وجود الله على أساس علمي ، ولكن قضية الدين ليست هي قضية (وجود الله) فحسب. لا مراء في أن الإيمان بوجود الله سبحانه أساس ومنبع ولكنه يستتبع الإيمان بقيم أخرى ومبادئ دعا إليها الرسل. وحثت عليها الأديان وأهمها ضرورة الإيمان بوجود كائنات غير الإنسان ، دل عليها الدين وسماها (الملائكة) الملهمين الخير ، وكائنات أخرى غير الإنسان والملائكة دل عليها الدين وسماها الجن ومنهم (الشياطين)-النازغون بالشر وضرورة الإيمان بالغيب ، وباليوم الآخر. وما يتصل به من جنة ونار وحساب وثواب وعقاب ، بل ما يسبق ذلك من قيامة هي في حقيقتها دمار للدنيا وتحطم للكواكب والنجوم ، وضرورة التزام شريعة الله الى جاء بها الرسل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، متى صح الإيمان بوجود الله مالك الملك ، ومنزل التشريع بالحلال والحرام وفى كلمة واحدة: ضرورة إقرار ما علم من الدين بالضرورة.
وهكذا نجدنا أمام كل مترابط لا يمكن انفصام أجزائه إلا على طريقة بنى إسرائيل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
ولقد وجد في المجتمع الإسلامي فعلا هذا الصنف من الناس الذين يحدثونك بأنهم مؤمنون بالله ، وكفى ولا داعي لمطالبتهم بأكثر من هذا! ! وهم يواجهون من يدعوهم إلى الالتزام بأوامر الله ونواهيه: بأن الهدف من هذه هو تزكية النفس وعدم إيذاء العباد ، فإذا تحقق هذا الهدف بوسيلة أخرى كالثقافة مثلا كان في ذلك غنى عن الالتزام بالتكاليف لأن هذه هي روح الدين! ! . . وغاب عنهم أو تجاهلوا أن العبادة في حقيقتها ثمرة الإيمان بالله وتأكيد لعبودية الإنسان له ، وأن الله سبحانه قد اختار لعباده أن يخاطبوه ويقدسوه بكيفية معينة لا خيار لهم فيها ، بصرف النظر عن تحقيق مصلحة معينة لهم من العبادة أو عدم تحققها: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)(3) فمصلحة الإنسان العليا في أن يرضى خالقه بإنفاذ أمره والتزام طاعته.
فهذا صنف من الناس يجتزئ من الدين بما لا يقتضيه تكلفة : أن يقول : آمنت بالله-فحسب ، وهو يستعمل مسألة تسليمه بوجود الله-عز وجل- ذريعة إلى التحلل والانعتاق من سائر قضايا الدين والصدود عنها وهو أمر ينبغي أن يلحظ على أنه من صميم أزمة الدين في أنفس المثقفين المعاصرين ، لأن الثقافات الإلحادية قد اتخذت لنفسها خطة لئيمة ، فحواها أن دعوة المسلم إلى الفكر تلقى نفورا في المجتمع الإسلامي ، ويكاد يكون من المحال إحراز تقدم فيه باعتناق هذه الدعوة ، ولذا ينبغي أن تكون الخطة –أولا- تجريد شخص المسلم من الالتزام بالتكاليف ، وتحطيم قيم الدين الأساسية في نفسه بدعوى العلمية والتقدم دون مساس بقضية الإلهية مؤقتا لأنها ذات حساسية خاصة ، وبمرور الزمن ، ومع إلف المسلم لهذا التجريد يسهل في نهاية الأمر تحطيم فكرة الإلهية أساسا في عقله ووجدانه –وإذا بقيت افتراضا فلا ضرر منها ولا خطر ، لأنها حينئذ لن تكون إلا بقايا دين كان موجودا ذات يوم بعيد.
وهكذا يحكم أعداء الإسلام مخططاتهم ويدبرون لتدمير الدين ومبادئه ، ابتداء من أبسط السنن والواجبات وانتهاء إلى قضية القضايا : وجود الله ذاته.
فإذا أفرد بعض العلماء مسألة وجود الخالق بالعلاج العلمي فقليل منهم- فيما أعلم- من تصدى لعلاج هذه القضايا جميعا ، وبخاصة هذا الكتاب : (الإسلام يتحدى) . وأحسب أنه من هذه الناحية سوف يصبح – متى بلغ عمق المجتمع – دستور الإقناع الديني ، أو كما يعبر العنوان الفرعي الذي تخيرناه له : (مدخلا علميا إلى الإيمان).
وقد كان المؤلف منطقيا مع عصره إلى أبعد الحدود ، فإذا كان أقطاب الإلحاد في الفلسفة الحديثة قد وضعوا لضحاياهم مدخلا علميا إلى الفكر ، فلا مناص من أن يحاول هو بحسه الصادق ، ووعيه بحاجة المسلمين – وضع مدخل علمي إلى الإيمان يعتبر أساسا لعلم الكلام ، أو علم توحيد جديد. وهذا هو الاعتبار الذي كان من وراء الحماس المخلص ، بذله مترجم الكتاب الأستاذ ظفر الإسلام خان ، نجل المؤلف ، واقتضاني أن أعكف شهورا تبلغ سنوات على مراجعته وتحقيق نصوصه الدينية.
ولذلك سوف نجده يعرض (قضية معارضي الدين) بكل حيدة وأمانة ، حتى لا يتهم من أول لحظة بمخالفة المنهج العلمي ، ثم يبدأ في مناقشتها معتمدا في الأساس على الإنتاج الفكري الغربي من باب (وشهد شاهد من أهلها)(4) ، مرجئا مسألة استخدام الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية في آراء الأعداء قبل الأصدقاء.
ولا يتبادر إلى ذهن القارئ أن المؤلف رجل دين متحمس ، يبشر بدعوة الإسلام بأسلوب جديد ، إنه مفكر مصلح يعمل بالصحافة ، رئيسا لتحرير مجلة (الجمعيت الأسبوعية) وما عرضته هنا هو نتيجة تأمل واهتمام مؤرق بمشكلات الشباب المسلم ، حتى أصدر كتابه هذا عام 1966 ، ومازال وفيا لقضيته ، مجاهدا في سبيلها.
ولئن كنا قد ألمحنا قبل بضعة أسطر إلى بعض ملامح منهجه ، فإن تنظيم هذا المنهج قد اقتضاه أن يضع قضاياه في ترتيب منطقي :
فهو قد وضع كتابه علاجا للمشكلات العقيدية التي تواجه البشر ، ولما كان المتوارد على مسرح الأحداث ، مبدأ الدين ، ومبدأ الإلحاد ، وكان هو من معسكر الدين – وجب عليه أن يدلف إلى هدفه من خلال دعاوى الخصوم ، حتى لا يتهم بتجاهلها ، فعرض فكرة معارضي الدين وبين أسسها البيولوجية والنفسية والتاريخية. ومعنى ذلك أنه يعرض جوهر فلسفات ثلاثة : الداروينية ، والفرويدية ، والماركسية ، وهي المبادئ التي قادت في مجموعها قطعانا من البشر في وادي الإلحاد ، وإنكار وجود الله ، وتأليه المادة.
فإذا بدأ بمناقشة هذه المبادئ سلك نفس السبيل التي سلكتها. فاستقى أدلته من الطبيعة ، ومن البحوث النفسية ، والتاريخية.
وإذا كان أعظم قضايا الدين ، بعد الإيمان بالله ، الإيمان باليوم الآخر ، حقيقة غيبية ، لا مراء فيها ، وكانت أهم دعاوى الإلحاد قائمة على إنكار هذا اللقاء مع الخالق –فإن إثبات إمكان الآخرة بالأدلة الطبيعية والبيولوجية والتاريخية- هو أيضا من الأدلة القاطعة بصحة الدين وبوجود الله ومن ثم نجده متألقا في تبيان الحاجة إلى الآخرة نفسيا وأخلاقيا وسلوكيا ،حتى إذا استقر في وعي القارئ ضرورة الآخرة كان ذلك طريقا إلى إقرار ضرورة الإيمان بالله من جانب آخر ، فالآخرة إذن قضية وبرهان في آن.
والمؤلف لا يكتفي في هذا الباب بدليل واحد ، بل هو يقدم بحوثا قيمة في ضرورة الآخرة من الناحية الكونية ، ويسوق شهادات تجريبية ، وبحوثا نفسية وروحية ، تؤكد هذه الضرورة ، كما يزيد القارئ ثروة في المفاهيم ويفسح له آفاق الاقتناع.
ويأتي بعد ذلك دور الرسالة ، وهي الدليل التاريخي على الحقيقتين السالفتين لأن الرسل هم الذين دلوا عليهما ، قبل أن يخطو الإنسان هذه الخطوات الجبارة في ميدان العلم والتجربة.
ومن الضروري أن نلفت النظر هنا إلى أن المؤلف لا يعني بكلمة (الدين) إلا ما عناه الحق سبحانه بها في قوله : (إن الدين عند الله الإسلام)(5) ، فإذا تناول قضية الرسالة فمقصده قطعا قضية الإسلام ، وكتابها المعجز: القرآن.
ويعقد في هذا الباب عدة فصول يتحدث فيها عن إعجاز القرآن التاريخي والعلمي ، ويورد لمحات كثيرة عن تنبؤات القرآن ، وما تضمنته آياته من حقائق لم يكشف عنها إلا في العصر الحديث ، في الفلك ، وطبقات الأرض وغيرهما.
فإذا انتهى من إثبات هذه الصفة العلوية للقرآن ، وأكد به الحقيقة الأولى ، وهي وجود الله ، عقد بابا خاصا بعلاقة الدين بمشكلات الحضارة ، فتناول في جانب منه مشكلات التشريع ، وعناصره الأساسية ، وتحديدالدين لمفهوم الجريمة ، وعلاقة القانون بالأخلاق ، وبالفرد ، وبالعدل.
ولا يفوته أن يتحدث عن بعض مشكلات الحضارة الحديثة ، كمشكلة المرأة ، والتمدن، والملكية ، مقارنا في كل ذلك نظام الإسلام بنظامي الحكم المعاصرين: الرأسمالية والشيوعية.
ويأتي أخيرا حديثه عن مستقبل هذا العالم الإسلامي ، وما ينشده أبناؤه من أهداف سامية ، وما ينبغي أن يكون لهم من رسالة في هذا العالم الحائر ، بين مذاهب الإلحاد الواهية المتهاوية ، ودين الفطرة الذي جعله الله ختام الأديان ، وجعل نبيه خاتم المرسلين ، مبينا كيف أدى الإلحاد في المجتمعات الأوروبية إلى التحلل، والتمزق الأسري ، وتكون طبقات من المجرمين والشواذ ، وانتشار أعصى الأمراض النفسية والعصبية ، جراء الحرمان من الإيمان بالله ، خالقنا ومالكنا ، ويختار لخاتم كتابه كلمة قبسها عن الأستاذ أ.كريسي موريسون ، إذ قال:
(إن الاحتشام والاحترام والسخاء وعظمة الأخلاق والقيم والمشاعر السامية وكل ما يمكن اعتباره نفحات إلهية – لا يمكن الحصول عليها من طريق الإلحاد ، فالإلحاد نوع من الأنانية حيث يجلس (الإنسان) على كرسي (الله).)
(لسوف تقضى هذه الحضارة بدون العقيدة والدين.)
(سوف يتحول النظام إلى فوضى.)
(سوف ينعدم التوازن وضبط النفس والتمسك.)
(سوف يتفشى الشر في كل مكان.)
(إنها لحاجة ملحة أن نقوي من صلتنا وعلاقتنا بالله.)
فهذا هو منهج الكتاب في إيجاز شديد ، وهو منهج يشدني إلى ملاحظة هامة أحب أن أضعها بين يدي القارئ. ذلك أن خطوات هذا المنهج ، بنفس الترتيب تكاد تكون طبق الأصل من كتاب أخرجته من قبل مترجما عن الفرنسية ، هو كتاب ( الظاهرة القرآنية) ، للمفكر الجزائري مالك بن نبى ، وهي ملاحظة غريبة في المنهج ، لا تنصرف إلى مادة الكتابين ، لأن المؤلفين مختلفان في عقليتهما ، وثقافتهما ، وطريقة معالجتهما لهذه القضايا الدقيقة ، حتى إني أكاد أقطع بأن المحاولتين من حيث المصادر والمادة والأسلوب متباعدتان تماما ، إحداهما عن الأخرى ، بعد ما بين الجزائر والهند ، ولم يحدث أن التقى الرجلان في صعيد واحد ، فيما أعلم ، وتفسير هذا التوافق ينحصر في توارد الأفكار على مشكلة واحدة.
بيد أن ذلك لا يمنعني من إقرار أن كلا الكتابين صادر عن نفس الإحساس بضرورة وضع منهج جديد للإقناع الديني ، وكلاهما توفرت فيه المنهجية الحديثة ، وموضوعهما مشترك كذلك ، والروح الكامنة في مضمونهما روح ثائرة مؤمنة.
وحسب الشباب المسلم من هذه الملاحظة دليلا على أن روح الإسلام طاقة لا يمكن أن تخمد ، وستظل تصنع المعجزات ، برغم التفوق الماد الذي حققته مجتمعات الملاحدة المعاصرين.
نعم . . إن هذا التوافق العجيب بين مفكرين من أكابر مفكرينا يكاد أن يكون من بدائع الروح الخالدة ، روحالإسلام ، وأقول: الخالدة ، لأن الروح طاقة ، والطاقة لا تفنى ، وذلك وعد الله: (إنا نحن أنزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(6).
والحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
وصلى الله على محمد خاتم النبيين.
عبد الصبور شاهين
الكويت – ديسمبر 1969
والعصر الحديث يسمى : (عصر الإلحاد)، لإنكاره الدين. وهذا الإلحاد ليس محض ادعاء. بل يثرى أصحاب نظريته أنها طريقة بحث ودراسة ، اهتدى إليها الإنسان ، بعد التطور الحديث فى ميادين العلم المختلفة ، وهذه(الدراسة التطورية) لا تهدف إلى إثبات نظرية ما أو إنكارها ، وإنما هى منهج خالص فى البحث ، أثبت لأصحابه أن الدين باطل ، ويمكن أن نفهم هذه الطريقة الجديدة فيما قاله ت.ر..مايلز:
(إن الدراسة الجديدة هى تكنيك ومنهج ونمط معين لمواجهة الأسئلة ، وهى لا تستهدف وضع إجابات قطعية. وهو –من هذا الوجه- تغير هام طرأ على الفلسفة فى النصف الأخير من هذا القرن ، ولسوف يبقى هذا التغير مستمرا ، دون أمل فى توقفه على المدى(1) البعيد).
ولابد لباحثينا إذا ما أرادوا البحث فى العلوم الحديثة ، دفاعا عن الدين ، ألا يغيب عن أذهانهم هذا التفسير ، سواء اعتبرناه تفسيرا علميا محضا توصل إليه المفكرون المحدثون ، أو اعتبرناه مجرد ملجأ جميل ركنوا إليه حين أخفقوا فى البحث عن التفسير المادي للكون بعد إنكار الدين.
وعلى سبيل المثال : إن الأعمال التى قام بها علماؤنا لإثبات النبوة تفترض مقدما أن العصر الحديث يدعى : أن محمدا صلى الله عليه وسلم (كان نبيا كاذبا) ، فيبدءون فى جمع كميات كبيرة من المواد التى تثبت أن محمدا كان (نبيا صادقا). ومغزى القول :(كان محمد نبيا كاذبا) هو أن هناك أنبياء آخرين صادقين ؛ على حين يشك الإنسان الجديد فى المبدأ نفسه فهو لا يؤمن بالنبوة أصلا. فأما (النبي الكاذب) False Prophet فهو اعتراض قديم جاء به اليهود والنصارى الذين يؤمنون بأنبيائهم وينكرون نبى الإسلام. وأما العقل الحديث فلا يبحث عما إذا كان محمد نبيا(صادقا أو كاذبا) ، وإنما يبحث عن منبع كلامه النبوي وينتهي اعتمادا على المناهج المعروفة إلى أن مصدر هذا الكلام الغريب هو : (اللاشعور). . . وهو يرى أن التعبير عن كلام اللاشعور بالوحى والإلهام يصلح أن يكون استعارة جميلة ولكنه يستحيل اعتباره واقعا حقيقيا.
ولذا فإن مهمتنا لا تنتهي عند إثبات صدق نبوة رسول الإسلام ، بل علينا أن نضطلع بالبحث عن الوحي والإلهام ونثبت أن الوحي ينزل على أناس معينين ، من بينهم نبي الإسلام.
* * *
كان هذا موقف من يتصدى لنقد الفكر الحديث دون فهم موقفه من القضية. وهناك نوع آخر من علمائنا يدركون موقف الفكر الحديث من قضية الدين ، ولكنه لشدة تأثرهم بالفكر الحديث يرون أن كل ما توصل إليه أئمة الغرب يعد من (المسلمات العلمية) ، ومن ثم تقتصر بطولتهم على إثبات أن هذه النظريات التى سلم بها علماء الغرب هى نفس ما ورد فى القرآن الكريم وكتب الأحاديث الأخرى. وهذه الطريقة فى التطبيق والتوفيق بين الإسلام وغيره هى نفس الطريقة التى تتبعها شعوب الحضارات المقهورة تجاه الحضارات القاهرة. وأية نظرية تقدم على هذا النحو يمكنها أن تكون تابعة ولكنها لا يمكن أن تكون رائدة! ولو خيل إلى أحدنا أنه يستطيع أن يغير مجال الفكر فى العالم بمثل هذه المحاولات التوفيقية ليشرق على البشرية نور الحق فهو هائم ولا شك فى عالم خيالي لا يمت إلى الحقائق بسبب. .فإن تغيير الأفكار والمعتقدات لا يأتي من طريق التلفيق ، بل عن طريق الثورة الفكرية.
وهذه الحالة تورطنا بصورة أكبر عندما تتعلق المسألة بجانب أساسي وهام من أفكار الدين ، فلا بأس بأن يقوم أحدنا بتفسير جديد لظاهرة (الشهاب الثاقب) التي وردت فى القرآن حين يجد كشفا جديدا فى علم الفلك الحديث ولكننا لو قبلنا نظرية كلية شاملة وذات علاقة بالمشكلات الأخرى التى تثار حول الدين فسوف يكون لذلك تأثير عميق وكلى فى هيكل الفلسفة الدينية نفسه.
وأوضح مثال فى هذا هو تلك الجماعة من علمائنا الذين قبلوا (نظرية النشوء والارتقاء) لأن علماء الغرب أعلنوا اقتناعهم الكامل بصدقها بعد دراستهم ومشاهدتهم. . واضطروا بناء على هذا إلى تفسير جديد للإسلام فى ضوء النظرية الجديدة ، وحين احتاجوا إلى لباس جديد قاموا بتفصيل ثوب الإسلام مرة أخرى ولكنه ثوب مشوه المعالم لا أثر فيه من روح الإسلام التي ضاعت مع الأجزاء المقطعة فى عملية التلفيق الجديدة.
إن نظرية النشوء والارتقاء تستهدف إقرار فكرة التطور بصفة مستمرة بحيث تبلغ الحياة أوجها عند النهاية. وبناء على هذا: لابد من أن تحدث الأحوال السيئة فى الماضي لا فى المستقبل. ويروق لهذه النظرية حياة الخلود فى الجنة ولكنها لا تقبل الخلود فى نار الجحيم. ولذا ادعى العلماء المسلمون الذين قبلوا هذه النظرية أن الجحيم ليست مكانا للعذاب وإنما هى مركز للتربية والتزكية. فالحياة تواصل مسيرتها فى مواجهة الصعاب والمشكلات. والذين لم يستطيعوا مواصلة مسيرتهم بسبب عوائق الذنوب سوف يمرون بأحوال الجحيم الصعبة حتى يواصلوا رحلتهم التطورية خلال الحياة القادمة. ومن هنا ترى هذه الطائفة أن قوانين الملكية-مثلا-فى الإسلام ليست إلا (أحكاما مؤقتة) فإن هذه القوانين لا تتفق ونظرية التطور الاجتماعي.
ويمكن فهم نوعية الأعمال التى قام بها بعض علماؤنا من المثالين المذكورين ، فهى أعمال ناقصة رغم الجهود التى بذلت فى صوغها. ولا يدعى المؤلف أن محاولته تخلوا من النقائص ولكنه يقول: إن المحرك الحقيقي لمحاولته هو شعوره بأن عملا من هذا القبيل كان لابد أن يكون.
* * *
إن الطريقة التى يتبعها الكتاب للدفاع عن الدين ذات وجهين: فكرية وتجريبية ؛ وبعبارة أخرى: فلسفية وعلمية إن صح التعبير. وقد راعى المؤلف الطريقة الثانية وهى التجريبية أو العلمية. والسبب فى دلك أن مكتبتنا تذخر بمجلدات ضخمة من الكتب التى وضعت على المنهج الأول على حين يوجد نقص شديد فى الكتب من المنهج الثاني.
وإنني لأشعر بأن المضمار الفسيح الذى هيأته الدراسات العلمية الحديثة لإثبات الدين هو تصديق لما جاء فى القرآن فى سورة النمل:(وقل الحمد لله ، سيريكم آياته فتعرفونها). وهذا الكتاب محاولة لاستغلال الإمكانات الجديدة لصالح الدين بطريقة منتظمة.
* * *
وهذا الكتاب ليس دراسة موضوعية بل هو دراسة ذاتية بناء على التقسيم الجديد للكتب. وهذا الواقع كما يرى العقل الحديث هو من تلقاء نفسه صوت ضد الكتاب! فكيف يمكن الاعتماد على دراسة ذاتية قدمها عقل يستهدف اتجاها معينا؟ و جوابا على هذا الاعتراض الذى قد يثار ، أنقل هنا عبارة للمستشرق النمسوي المسلم محمد أسد فى مقدمة أحد كتبه:
(إن هذا الكتاب لا يستهدف مسحا محايدا للمسائل بل هو عرض لقضية هي قضية الإسلام في مواجهة الحضارة الغربية)(2).
وعلى الرغم من الأحكام التى قدمها علم النفس حول إمكان أن يكون المرء محايدا فى أبحاثه أو لا ، فإنني أسلم-نظريا-بأنه لابد لكل مؤلف أن يبذل قصارى جهده لكى يكون محايدا من أجل الوصول إلى نتيجة ما ، وهذا هو ما يقصده كل كاتب أمين. لكن هذا الكاتب نفسه عندما يجلس إلى مكتبه-فى الواقع-لا نجده باحثا عن الحقيقة أثناء كتابته بل يكون قد توصل إلى أحكام محددة المعالم.
وهناك طريقة أخرى هى أن يسرد المؤلف قصة بحثه بجميع مراحلها غير أن اعتبار مثل هذا الكتاب محايدا لا يعدو أن يكون قناعا مزركشا تختبئ تحته أهداف المؤلف. فليس هناك من كاتب يبدأ دراسته عندما يبدأ الكتابة ، وإنما هو يعرض نتائج بحثه في كتابه. فالكتاب إنما يكون ذاتيا أو موضوعيا بالنظر إلي طريقة ترتيبه للموضوعات ولا علاقة لهذا الترتيب بحياد البحث أو موضوعيته.
* * *
لقد وردت كلمة (الدين) كثيرا فى هذا الكتاب وليس لأحد أن يغالط فى هذا الموضوع. . فإن الكتاب يدور حول موضوع عام ولذلك كان لاستعمال الكلمة العامة أهميته. أما ذهن المؤلف فإنه لا يقصد بالكلمة شيئا وهميا وإنما يعنى (الدين) المعتمد عند الله تعالى الآن وهو دين الإسلام. وأنا حين أطالب مواطنا هنديا بمراعاة القانون فليس معنى ذلك أنه تكفيه مراعاة قانون ما أو أى جزء من دستور الهند ، وإنما عليه مراعاة ذلك القانون الذى يعتبر دستور البلاد الرسمي. وهكذا فالمراد بالدين العملي اليوم هو الإسلام مع أنه من الممكن إطلاقه على أى شيء عرف فى التاريخ بذلك الاسم ولكن الدين الذى يجلب رضا الله تبارك وتعالى والذي يكفل لمعتنقيه نجاة الآخرة ، هو الإسلام لا غير. .
* * *
لقد تعرضت لسؤال بعد محاضرة ألقيتها فى إحدى الجامعات ذات مرة ، وكنت أشرت فى محاضرتي إلى مقال لفرويد ، فوقف أستاذ فى علم النفس أثناء فترة الأسئلة وقال: (لقد أشرتم فى مقال لفرويد تأييدا لنظرية دينية على حين يعارض (فرويد) معارضة كاملة تلك النظرية التى تمثلونها)
ومن الممكن إثارة هذا السؤال حول هذا الكتاب على نطاق واسع ، فهناك اقتباسات كثيرة وردت فيه ومن الجائز ألا يوافق أصحابها على النتائج التي توصلت إليها. وعلى سبيل المثال:الاقتباس الذي ورد في آخر الباب الخامس (دليل الآخرة) ، ولكن هذا الاعتراض غير ذي موضوع ، لأن المؤلف لا يدعى أن هذه الشخصيات تؤيد قضاياه ، وبكلمة أخرى لم يقل المؤلف: إن هذه القضية أو تلك صادقة لأن فلانا يصدقها أو يؤيدها. وعلى العكس من ذلك فإن جميع هذه الاقتباسات قد استعملت توضيحا لدليل أو قضية ، فقد يعبر المؤلف عن قضية معينة بألفاظه تارة وقد يستعير ألفاظ الآخرين حتى يتبين الموضوع تارة أخرى.
والاتجاهات التى تمثلها هذه الاقتباسات ليست بآراء ذاتية لأصحابها وإنما هى كشوف علمية يمنحها الملحدون معاني مختلفة. أما نحن فقد جمعناها حين شعرنا أنها فى صالح الدين ، وأما الاقتباسات التى تؤيدالدين صراحة فأكثرها لعلماء يدينون بالمسيحية ؛ ولا عجب فهم يشاركوننا فى كثير من العقائد السماوية.
* * *
وواضح من عنوان الكتاب أنه يهدف إلى إثبات أحقية الدين أمام الفكر المادي الجديد. وهذا الإثبات يتخذ لنفسه أسلوبين ، أولهما: أن نستدل بأن الدين ليس (ماديا) بل فوق المادة ن وبناء على ذلك ليس للعلوم المادية أن تعترض طريق الدين ، وقد أصبح هذا الاستدلال في غاية القوة ؛ حيث إن العلماء قد اعترفوا في هذا القرن: (بأن العلوم المادية لا تعطى إلا علما جزئيا عن الحقائق) ، ومغزاه أنه بناء على اعتراف هذه العلوم نفسها هناك حقائق أخرى لا تستطيع العلوم المادية الوصول إليها ، ومنها حقائق الدين. ويعتبر كتاب (ج.و.ن. سوليفان) خير محاولة في هذا الموضوع وسوف نستعرضه في الباب السابع من هذا الكتاب.
وأما الطريقة الأخرى لإثبات حقائق الدين فهي اتباع نفس الطرق العلمية التي يتبعها العلماء الملحدون لإثبات معتقداتهم. وقد ركز المؤلف أهمية أكثر على هذا الجانب ، فهو يرى أنه لابد من اتباع نفس أساليب الاستدلال التي يستغلها الملحدون حتى يمكن إثبات حقية الدين.
* * *
وهناك ناحية أخرى لابد من توضيحها هي أن الأسلوب الذي سلكه الكتاب قد يكون غريبا على بعض الأذهان من علماء الدين ، وإذا كان الأمر كذلك فإنى أقول: إنه لابد من مراعاة حقيقة هي أن هذا الكتاب لا يستهدف تفسير الدين بل هو وليد ضرورة كلامية ؛ فالأسلوب الذي يسلك عند تفسير الدين أمام أصحاب الفطر الدينية المؤمنة غير الاسلوب الذي يستخدم عندما يكون الحاضرون ممن يزعمون أن الدين خدعة وأضحوكة وتخدير للشعوب ، فكلما أردنا مواجهة الأسئلة التي تثار ضد الدين ، كان لابد من تغيير لهجتنا ولغتنا بتلك التي يستغلها الأعداء حتى نستطيع أن نقف أمام العواصف. وعلينا ألا ننسى أن طريقة الكلام وأسلوبه قد تغيرا بتغير الزمن ، ولذلك علينا أن نأتي بعلم كلام جديد لمواجهة تحدى العصر الحديث. .
* * *
وقبل أن أختم هذا الحديث أرى لزاما على أن أعترف بجميل زميلين من الرفاق-مهديا إليهما هذا الكتاب- وهما من الشخصيات اللامعة التي عرفت بخدمة الإسلام في الربع الأخير من هذا القرن. . وهما:مولانا أبو الأعلى المودودى ، ومولانا السيد أبو الحسن على الحسنى الندوى. فالفضل يرجع إلى الأستاذ المودودى في أنه كان المحرك الذي حثني- بطريقة غير مباشرة-على أن أضحى بحياتي لخدمة الإسلام منذ خمسة عشر عاما ، في أدق مرحلة من مراحل حياتي. . وأما الأستاذ الندوى فهو الذي حملني على القيام بهذا العمل ، فجزاهما الله خير جزاء. .
لكناؤ
في 26 أغسطس 1964
وحيد الدين خان
قضية معارضي الدين
(سنريهم آياتنا في الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)(4).
* * *
والدين كما يزعم الملحدون من العلماء شيء لا حقيقة له ، وهو مظهر للغريزة الإنسانية الباحثة عن حقائق الكون والتي تحاول تفسيره. إن هذه الغريزة الإنسانية في ذاتها شيء مستحسن ، ولكن المعلومات والوسائل المحدودة قد انتهت بأجدادنا إلى إجابات غير صحيحة وهى التي تحتويها الآن أفكارهم عن الإله والدين. أما اليوم وبعدما توفرت لدينا الوسائل العلمية وأصلحت المعلومات الحديثة شئ كثيرا من معتقداتنا الاجتماعية والحضارية ، فقد حان الوقت لنعيد النظر في جميع ما وصل إليه أجدادنا من أفكار.
* * *
ويذهب الفيلسوف الفرنسي (أوجست كونت) –الذي نشأ في النصف الأول من القرن التاسع عشر- إلى أن تاريخ تطور الفكر الإنساني ينقسم إلى ثلاث مراحل:
الأولى: المرحلة اللاهوتية (Theological Stage) والتي فسرت الأحداث فيها باسم الإله.
والثانية: المرحلة الميتافيزيقية وفيها فسر الإنسان الأحداث باسم (عناصر خارجية) لا يعلمها ولكنه لا يذكر اسم الإله.
والثالثة: المرحلة الوضعية (Positive Stage) التي أخذ الإنسان يفسر فيها الأحداث باعتبارها عناصر خاضعة لقوانين عامة يمكن إدراكها بالمطالعة أو بالمشاهدة العلمية. وفى هذه المرحلة لا تذكر (الأرواح والآلهة والقوى المطلقة). ونحن بناء على هذا نعيش في المرحلة الثالثة التي تسمى في الفلسفة الحديثة بالوضعية المنطقية (Logical Positivisn). إن نظرية (الوضعية المنطقية) أو التجريبية العلمية (Scientific Empiricism) لم تعرف كحركة علمية عالمية إلا خلال العقد الرابع من القرن الحاضر ولكنها كفكرة نشأت قبل ذلك بسنين طويلة. وعلى ظهر هذه الفكرة نجد أسماء كبار العلماء والفلاسفة من أمثال: هيوم ، وميل ، إلى برتراندرسل. وقد أصبحت هذه الفكرة اليوم بفضل العدد الكبير من المؤسسات العلمية التي تقوم بدور فعال في الدعاية لها من أهم الحركات العلمية الحديثة. ويقول أحد الباحثين:
(كل معرفة حقة مرتبطة بالتجارب بحيث يمكن فحصها أو إثباتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة)(5).
وبناء على هذا يدعى معارضو الدين أن التطور الذي بلغ به الإنسان اليوم أعلى مستوى من الإنسانية هو نفى للدين من تلقاء نفسه. والسر في ذلك أن الأفكار المتطورة الحديثة تؤكد أن (الحقيقة) ليست إلا مل يمكن فحصه وتجربته علميا ، وبعبارة أخرى إن التفسير اللاهوتي للأحداث والوقائع لا يمكن إثباته بالوسائل العلمية فهو باطل لا حقيقة له. ويترتب على هذا القول بأن: (الدين تفسير زائف لوقائع حقيقية) ؛ ذلك أن علم الإنسان القديم المحدود لم يقدم التفسير الحقيقي للأحداث ، على حين أن القانون العام للتطور أتاح لنا أن نبحث عن الحقائق بالوسائل التجريبية الصحيحة.
ويمكن أن نقول هذا الكلام بأسلوب آخر: إن موقف علماء الأديان القديمة أشبه برجل يكتب (شيكا لا رصيد له في المصرف) فهم قد صاغوا عبارات ليس ورائها حقائق علمية ، فعبارة (الحقيقة العليا غير المتغيرة) صحيحة نحوا ولكن ليس لها أي أساس علمي (6).
(لقد أثبت (نيوتن) أنه لا وجود لإله يحكم النجوم. وأكد (لابلاس) بفكرته الشهيرة أن النظام الفلكي لا يحتاج إلى أي أسطورة لاهوتية. وقام بهذا الدور العالمان العظيمان (دارون) و (باستور) في ميدان البيولوجيا. وقد ذهب كل من علم النفس المتطور والمعلومات التاريخية الثمينة التي حصلناها في هذا القرن بمكان الإله الذي كان مفروضا أنه هو مدير شئون الحياة الإنسانية والتاريخ)(7).
لقد قامت قضية معارضي الدين على أسس ثلاثة:
الأساس الأول: بطل هذا الانقلاب في البيولوجيا هو (نيوتن) الذي عرض على الدنيا فكرة تثبت أن الكون مرتبط بقوانين ثابتة تتحرك في نطاقها الأجرام السماوية. ثم جاء بعده آخرون فأعطوا هذه الفكرة مجالا علميا أوسع حتى قيل: إن كل ما يحدث في الكون من الأرض إلى السماء خاضع لقانون معلوم سموه (قانون الطبيعة). فلم يبق للعلماء ما يقولون بعد هذا الكشف ، ويرى أن الإله كان هو المحرك الأول لهذا الكون. وضرب (والتير) مثلا في هذا الصدد: أن الكون كالساعة يرتب صانعها آلاتها الدقيقة في هيئة خاصة ويحركها ثم تنقطع صلته بها. ثم جاء (هيوم) فتخلص من هذا الإله الميت ، وعلى حد قوله: (لقد رأينا الساعات وهى تصنع في المصانع ولكننا لم نرى الكون وهو يصنع فكيف نسلم بأن له صانعا)؟
* * *
لقد جلى التطور العلمي للإنسان كثيرا من سلسلة الأحداث التي لم يشاهدها من قبل ، فهو لم يكن على علم بأسباب شروق الشمس وغروبها حتى زعم أن هناك قوة فوق الطبيعة تجعلها تشرق وتغرب. و ها قد عرفنا اليوم أن شروق الشمس وغروبها يحدث لدوران الأرض حول نفسها ، وبذلك انتهت ضرورة القول بهذه الطاقة تلقائيا بعدما عرفنا الأسباب المؤدية إلى هذه الحركة الكونية. (فإذا كان قوس قزح مظهرا لانكسار أشعة الشمس على المطر ، فماذا يدعونا إلى القول بأنها آية الله في السماء).
من أجل هذا كله وغيره قال هكسلى:
(إذا كانت الحوادث تصدر عن قوانين طبيعية فلا ينبغي أن ننسبها إلى أسباب فوق الطبيعة)(8).
* * *
والأساس الثاني: وقد ازداد العلماء يقينا بعد البحوث العلمية في ميدان علم النفس حين توصلوا إلى نتائج تثبت أن الدين نتاج اللا شعور الإنساني وليس انكشافا لواقع خارجي. ويقول عالم كبير من علماء النفس:
(God is nothing but a projection of man on a cosmic screen)
(ليس الإله سوى انعكاس للشخصية الإنسانية على شاشة الكون). وما عقيدة الدنيا والآخرة إلا صورة مثالية للأمانى الإنسانية ، وما الوحي والإلهام إلا إظهار غير عادى لأساطير الأطفال المكبوتة (Childhood Repression)(9).
* * *
ويرى علم النفس الحديث أن العقل الإنساني مركب من شيئين هما: (الشعور) وهو مركز الأفكار التي تخطر على قلوبنا في ظروف عادية ، و( اللاشعور) وهو مخزن الأفكار التي مرت بنا ونسيناها ولا تظهر إلا في أحوال غير عادية كالجنون والهستيريا. وهذا القسم الثاني أكبر بكثير من الأول ، ويمكن أن نمثل لهما بجبل من الجليد فلو قسمناه تسعة أجزاء لكان منها ثمانية في جوف البحر ولظهر جزء واحد على السطح.
اكتشف فرويد بعد جهد طويل أن اللا شعور قد يقبل أفكارا في الطفولة وتؤدى إلى أعمال غير عقلية وهذا ما يحدث بالنسبة إلى العقائد الدينية: فإن فكرة الجحيم والجنة ترجع إلى صدى الأماني التي تنشأ لدى الإنسان إبان طفولته ولكن لم تسنح له الفرصة لتحقيقها فتبقى دفينة في اللاشعور ثم يفرض اللاشعور بدوره حياة أخرى يتيسر له فيها تحصيل ما كان يتمناه شأن الرجل الذي قد لا يظفر بما يحب في الواقع فيحصله في المنام. وهكذا خرجت عقدة التفرقة بين الصغير والكبير(Father complex) من الجرائم الاجتماعية ، فصاغوا منها نظرية على مستوى الكون والسماء.
ويقول رالف لينتون:
(عن عقيدة القادر المطلق الظالم في نهاية الأمر الذي لا يرضى إلا بالطاعة الكاملة والوفاء ، كانت أول ما أنتجه نضام المجتمع السامي ، لقد خلق هذا النظام جبروتا غير عادى ، وكانت نتيجة أن شريعة موسى خرجت بقوائم ضخمة مفصلة عن المحرمات في كل مجال من الحياة الإنسانية ، وقد آمن بهذه القوائم الطويلة العوام الذين كانوا يتقبلون أحكام آبائهم العمياء ويطيعونها ، وما التصور الإلهي (اليهودي) إلا خيال مثالي لأب سامي ، مع شيء من المبالغة والتجريد في الأوصاف والطاقات)(10).
والأساس الثالث: لقضية معارضي الدين هو: (التاريخ) ، يقولون: إن القضية الدينية وجدت لأسباب تاريخية أحاطت بالإنسان ، فلم يكن في استطاعته أن يفلت من السهول والأعاصير والطوفانات والزلازل والأمراض فأوجد (قوى فرضية) يستغيثها لتنقذه من البلايا النازلة ، وهكذا ظهرت الحاجة إلى شيء يجتمع الناس حوله ولا يفترقون ، فاستغل اسم (الإله) الذي تفوق قوته قوة الإنسان ويهرع الجميع إلى رضاه.
يقول محرر دائرة معارف العلوم الاجتماعية تحت اسم (الدين):
(وبجانب المؤثرات الأخرى التي ساعدت في خلق الدين فإن إسهام الأحوال السياسية والمدنية عظيم جدا لهذا المجال. إن الأسماء الإلهية وصفاتها خرجت من الأحوال التي كانت تسود على ظهر الأرض ، فعقيدة كون الإله (الملك الأكبر) صورة أخرى للملكية الإنسانية ، كذلك الملكية السماوية صورة طبق الأصل للملكية الأرضية. وكان الملك الأرضي القاضي الأكبر ، فأصبح الإله يحمل هذه الصفات ولقب (بالقاضي الأكبر الأخير) الذي يجازى الإنسان على الخير والشر من أعماله ، وهذه العقيدة القضائية التي تؤمن بكون الإله محاسبا ومجازيا لا توجد في اليهودية فحسب ، وإنما لها مقامها الأساسي في العقائد الدينية المسيحية والإسلامية) (11).
* * *
(لقد خلق العقل الإنساني الدين وأتم خلقه في حالة جهل الإنسان وعجزه عن مواجهة القوى الخارجية). ويضيف جوليان هكسلى إلى هذا قوله:
(فالدين نتيجة لتعامل خاص بين الإنسان وبيئته)(12). ويقول أيضا:
(إن هذه البيئة قد فات أوانها أو كاد وقد كانت هي المسئولة عن هذا التعامل ، فأما بعد فنائها وانتهاء التعامل معها فلا داعي للدين) ، ويضيف: (لقد انتهت العقيدة الإلهية إلى آخر نقطة تفيدنا وهى لا تستطيع أن تقبل الآن أية تطورات ؛ لقد اخترع الإنسان قوة ما وراء الطبيعة لتحمل عبء الدين ؛ جاء بالسحر ثم بالعمليات الروحية ثم بالعقيدة الإلهية ، حتى اخترع فكرة (الإله الواحد). وقد وصل الدين بهذه التطورات إلى آخر مراحل حياته. ولا شك أن هذه العقائد كانت في وقت ما جزءا مفيدا من حضارتنا ، بيد أن هذه الأجزاء قد فقدت اليوم ضرورتها ومدى إفادتها للمجتمع الحاضر المتطور(13).)
* * *
وترى الفلسفة الشيوعية أن الدين (خدعة تاريخية) وهى تركز الأسباب في عوامل اقتصادية لأنها تنظر إلى التاريخ في ضوء الاقتصاد. وهى ترى أن العوامل التاريخية التي خلقت النظام البورجوازي الاستعماري القديم ، وهذا النظام القديم يلقى اليوم حتفه فلندع الدين أيضا يذهب معه.
يقول فيلسوف الشيوعية انجلز:
(إن كل القيم الأخلاقية هي في تحليلها الأخير من خلق الظروف الاقتصادية)(14)
فالتاريخ الإنساني هو تاريخ حروب الطبقات التي امتص فيها البورجوازيون دماء الفقراء وقد كانت الغاية من وضع الدين والأسس الأخلاقية حماية حقوق البورجوازيين.
ويقول البيان الشيوعي :(Communist Menifesto)
(إن الدستور والأخلاق والدين كلها خدعة البورجوازية ، وهى تتستر وراءها من أجل مطامعها).
ويقول لينين في خطاب له ألقاه في المؤتمر الثالث لمنظمة الشباب الشيوعي في أكتوبر سنة 1920 :
(إننا لا نؤمن بالإله ونحن نعرف كل المعرفة أن أرباب الكنيسة والإقطاعيين والبورجوازيين لا يخاطبوننا باسم الإله إلا استغلالا ومحافظة على مصالحهم ، إننا ننكر بشدة جميع هذه الأسس الأخلاقية التي صدرت عن طاقات وراء الطبيعة غير الإنسان والتي لا تتفق مع أفكارنا الطبقية ونؤكد أن كل هذا مكر وخداع وهو ستار على عقول الفلاحين والعمال لصالح الاستعمار والإقطاع ، ونعلن أن نظامنا لا يتبع إلا ثمرة النضال البروليتارى فمبدأ جميع نظمنا الأخلاقية هو الحفاظ على الجهود الطبقية البروليتارية)(15).
كانت هذه هي قضية معارضي الدين التي يزعم بعض العلماء الجدد بناء عليها ما يمكن تلخيصه في كلمة أستاذ أمريكي في طب الأعضاء:
(Scince has shown religion to be history s crueliest and wicke-diest hoax)
(لقد أثبت العلم أن الدين كان أقسى وأسوأ خدعة في التاريخ)(16).
ولسوف ننظر في مدى صحة هذه القضية على أسس علمية في الباب الآ تى ، إن شاء الله.
* * *
نقد قضية المعاضين
وإليكم نقدا عاما لقضية المعارضين:
أولا: حقيقة الطبيعة:
لنتكلم أولا في الدليل الذي يعرض باسم البيولوجيا وهو أن الحوادث تحدث طبقا (لقانون الطبيعة) فلا حاجة لأن نفترض لهذه
الحوادث إلاها مجهولا. إن أحسن ما قيل في هذا الصدد ما قاله عالم مسيحي:
(Nature is Fact, Not An Explanation.)
(إن الطبيعة حقيقة (من حقائق الكون) وليست تفسيرا (له)). لأن ما كشفتم ليس بيانا لأسباب وجود الدين ، فالدين يبين لنا الأسباب والدوافع الحقيقية التي تدور (وراء الكون) وما كشفتموه هو الهيكل الظاهر للكون. إن العلم الحديث تفصيل لما يحدث وليس بتفسير لهذا الأمر الواقع فكل مضمون العلم هو إجابة عن السؤال: (ما هذا؟) وليس لديه إجابة عن السؤال:(ولكن لماذا؟). وإن التفسير الذي نحن بصدده هنا يتعلق بالأمر الثاني.
* * *
لنفهم هذا من مثال بسيط ، فالكتكوت يعيش أيامه الأولى داخل قشرة البيضة القوية ويخرج منها بعدما تنكسر مضغة لحم ، كان الإنسان القديم يؤمن بأن الله أخرجه. ولكننا اليوم بالمنظار أنه في اليوم إلحادي والعشرين يظهر قرن صغير على منقار الكتكوت يستعمله في تكسير البيضة لينطلق خارجا منها ثم يزول هذا القرن بعد بضعة أيام من خروجه من البيضة.
هذه المشاهدة كما يزعم المعارضون أبطلت الفكرة القديمة القائلة:بأن الإله يخرج الكتكوت من البيضة ، إذ قد رأينا يقينا أن قانونا لواحد وعشرين يوما يحدث هذه العملية. والحقيقة أن المشاهدة الجديدة لا تدلنا إلا على حلقات جديدة للحادث ولا تكشف عن سببه الحقيقي فقد تغير الوضع الآن فأصبح السؤال لا عن تكسر البيضة بل عن (القرن)؟ إن السبب الحقيقي سوف يتجلى لأعيننا حين نبحث عن العلة التي جائت بهذا القرن ، العلة التي كانت على معرفة كاملة بأن الكتكوت سوف يحتاج إلى هذا القرن ليخرج من البيضة ، فنحن لا نستطيع أن نعتبر الوضع الأخير (وهو مشاهدتنا بالمنظار) إلا أنه (مشاهدة للواقع على نطاق أوسع) ولكنه ليس تفسيرا له.
يقول البروفيسور (سيسيل بايس هامان) وهو أستاذ أمريكي في البيولوجيا:
(كانت العملية المدهشة في صيرورة الغذاء جزءا من البدن تنسب من قبل إلى الإله ، فأصبحت اليوم بالمشاهدة الجديدة تفاعلا كيماويا ، هل أبطل هذا وجود الإله؟ فما القوة التي أخضعت العناصر الكيماوية لتصبح تفاعلا مفيدا؟ . . . إن الغذاء بعد دخوله فى الجسم الإنساني يمر بمراحل كثيرة خلال نظام ذاتي ومن المستحيل أن يتحقق وجود هذا النظام المدهش باتفاق محض. فقد صار حتما علينا بعد هذه المشاهدات أن نؤمن بأن الله يعمل بقوانينه العظمى التي خلق بها الحياة!). (17)
كان الإنسان القديم يعرف أن السماء تمطر ، لكننا اليوم نعرف كل شيء عن عملية تبخر الماء في البحر ، حتى نزول قطرات الماء على الأرض وكل هذه المشاهدات صور للوقائع وليست في ذاتها تفسيرا لها ، فالعلم لا يكشف لنا كيف صارت هذه الوقائع قوانين؟ وكيف قامت بين الأرض والسماء على هذه الصورة المفيدة المدهشة ، حتى أن العلماء يستنبطون منها قوانين علمية؟ والحقيقة أن ادعاء الإنسان بعد كشفه لنظام الطبيعة أنه قد كشف تفسير الكون-ليس سوى خدعة لنفسه ، فإنه قد وضع بهذا الادعاء حلقة من وسط السلسلة مكان الحلقة الأخيرة.
ويضيف العالم الأمريكي سيسيل قائلا:
(Nature does not explain, she is herself in need of explanation.)
(إن الطبيعة لا تفسر شيئا (من الكون) وإنما هي نفسها بحاجة إلى تفسير).
فلو أنك سألت طبيبا: ما السبب وراء احمرار الدم؟
لأجاب: لأن في الدم خلايا حمراء ، حجم كل خلية منها من البوصة!
- حسنا ولكن لماذا تكون هذه الخلايا حمراء؟
- في هذه الخلايا مادة تسمى (الهميوجلوبين) وهى مادة تحدث لها الحمرة حين تختلط بالأكسجين فى القلب.
- هذا جميل. ولكن من أين تأتى هذه الخلايا التي تحمل الهميوجلوبين؟
- إنها تصنع في كبدك.
- عجيب! ولكن كيف ترتبط هذه الأشياء الكثيرة من الدم والخلايا والكبد وغيرها بعضها ببعض ارتباطا كليا ، وتسير نحو أداء واجبها المطلوب بهذه الدقة الفائقة؟
- هذا ما نسميه بقانون الطبيعة.
- ولكن ما المراد بقانون الطبيعة هذا ، يا سيدي الطبيب؟
- المراد بهذا القانون هو الحركات الداخلية العمياء للقوى الطبيعية والكيماوية.
- ولكن لماذا تهدف هذه القوى دائما إلى نتيجة معلومة؟ وكيف تنظم نشاطها حتى تطير الطيور في الهواء ، ويعيش السمك في الماء ، ويوجد إنسان في الدنيا بجميع ما لديه من الإمكانات والكفاءات العجيبة المثيرة؟
- لا تسألني عن هذا ، فإن علمي لا يتكلم إلا عن: (ما يحدث) وليس له أن يجيب:(لماذا يحدث؟).
يتضح من هذه الأسئلة مدى صلاحية العلم الحديث لشرح العلل والأسباب وراء هذا الكون. ولا شك أنه قد أبان لنا عن كثير من الأشياء آلتي لم نكن على معرفة بها ، ولكن الدين جواب لسؤال آخر لا يتعلق بهذه الكشوف الحديثة العلمية فلو أن هذه الكشوف زادت مليون ضعف عنها اليوم فسوف تبقى الإنسانية بحاجة إلى الدين ، إن جميع هذه الكشوف (حلقات ثمينة من السلسلة) ، ولكن ما يحل محل الدين لابد أن يشرح الكون شرحا كليا وكاملا.فما الكون على حاله هذه إلا كمثل ماكينة تدور تحت غطائها لا نعلم عنها إلا أنها (تدور) ، ولكنا لو فتحنا غطاءها فسوف نشاهد كيف ترتبط هذه الماكينة بدوائر وتروس كثيرة يدور بعضها بعضا ، ونشاهد حركاتها كلها. هل معنى هذا أننا قد علمنا خالق هذه الماكينة بمجرد مشاهدتنا لما يدور داخلها؟ هل يفهم منطقيا أن مشاهدتنا هذه أثبتت أن الماكينة جاءت ن تلقاء ذاتها ، وتقوم بدورها ذاتيا؟ لو لم يكن هذا الاستدلال منطقيا فكيف إذن نثبت بعد مشاهدة بعض عمليات الكون- أنه جاء تلقائيا ويتحرك ذاتيا؟ . . .
لقد استغل البروفيسور هريز (A.Harris) هذا الاستدلال حين نقد فكرة داروين عن النشوء والارتقاء فقال:
(إن الاستدلال بقانون الانتخاب الطبيعي يفسر عملية (بقاء الأصلح) ، ولكنه لا يستطيع أن يفسر حدوث هذا الأصلح)(18).
ثانيا: اللاشعور ودليل علم النفس:
لنعالج الآن الدليل الذي يقدمه علم النفس والقائل بأن الإله والآخرة قياس للشخصية الإنسانية وأمانيها على مستوى الكون. ولست بمستطيع أن أدرك نقطة الاستدلال في هذا الدليل. ولو أنني ادعيت-بدوري-أن الشخصية الإنسانية وأمانيها موجودة فعلا على مستوى الكون فلست أدرى ما عسى أن يبطل ادعائي هذا من منطق المعارضين؟ !
ونحن نعرف أن المادة (الجنين) التي لا تشاهد إلا بالمنظار تنبئ في ذاتها عن إنسان طوله 72 بوصة ، وأن (الذرة) التي لا تقبل المشاهدة تحتوى نظاما رياضيا كونيا يدور عليه النظام الشمسي ، فلا عجب إذن أن يكون النظام الذي نشاهده على مستوى الإنسان في الجنين ، وعلى مستوى النظام الشمسي في الذرة موجودا أيضا ، وبصورة أكمل على مستوى الكون. إن ضمير الإنسان وفطرته ينشدان عالما متطورا كاملا ، فلو كان هذا الأمل صدى لعالم حقيقي فلست أرى في ذلك أي ضرب من ضروب الاستحالة ! !
(أ) لا شك في قول العلماء: إن الذهن الإنساني يحتفظ بأفكار قد تظهر فيما بعد في صورة غير عادية. ولكن سوف يكون قياسا مع الفارق أن نعتمد على هذه الفكرة كي نبطل الدين. فهو قياس في غير محله ، وهو يعتبر استدلالا غير عادى من واقع عادى. فهو أشبه بمن يشاهد مثالا يصنع صنما فيصرخ: هذا الذي قام بعملية خلق الإنسان.
ومن معايب الفكر الحديث أنه يستنبط من حادث عادي دليلا غير عاديا فهذا الدليل لا وزن له من الناحية المنطقية ، ولو افترضنا أن رجلا يسير في شارع اخذ يهذي بكلام غريب نتيجة لأفكار مختزنه في ذهنه فهل يمكن أن نستغل هذا الحادث في البحث في كلام الأنبياء وهو الكلام الذي يكشف سر هذا الكون . .؟ ؟ سوف يكون هذا الاستدلال غير علمي وغير منطقي ولسوف يدل على أن صاحبه يفتقر الى القيم حتى يستطيع التفرقة بين كلام رجل الشارع وكلام الأنبياء فلا يدعى أن هذا الهذيان هو المسئول عما جاء به الدين.
فالقيم تتغير ذاتيا بتغير الأوضاع ومن الخطأ الظن [أنها لا توجد عند أصحاب الفكر الحديث ولنتخيل أن رهطا من سكان بعض النجوم هبط الأرض وهم يسمعون ولكنهم لا يقدرون على الكلام ولنتصور أنهم يذهبون فيبحثون عن الأسباب المؤدية إلى تكلم الإنسان وبينما هم في طريقهم إلى هذا البحث هبت الرياح واحتك غصنان أحدهما مع الآخر فنتج صوت وتكررت العملية غير مرة حتى توقفت الرياح ، وإذا بهم يعلن كبيرهم: لقد عرفنا سر كلام الإنسان وهو أن فمه يحتوى على فكين من الأسنان ن فإذا احتك الفك الأعلى بالأسفل صوت! ولا شك أنه إذا احتك شيء بالآخر يحدث صوتا ، ولكن هذا الواقع لا يكشف عن سر الكلام الإنساني كما لا يصح تفسير أسرار النبوة بكلام غريب-كهذيان رجل الشارع ، في حال الجنون أو الهستيريا.
(ب) واللا شعور الإنساني-من الوجهة العلمية- فراغ في أصله ، لا شك فيه قبل مولد الإنسان ، وإنما يستقر فيه عن طريق الشعور ما يشغله الآن ، لأن(اللاشعور) ليس سوى مخزن للمعلومات والمشاهدات التي شاهدها الإنسان في حياته ولو مرة ومن المستحيل أن يختزن حقائق لم يعلمها من قبل. والذي يثير الدهشة أن الدين الذي جاء على لسان الأنبياء يشتمل على حقائق أبدية لم تخطر على بال أحد من الناس في أي زمان فلو كان اللاشعور هو مخزن هذه المعلومات ، فمن أين يأتى بها هؤلاء الذين يتكلمون عن أشياء لا طريق لهم إلى العلم بها؟
إن الدين الذي جاء به الأنبياء يتصل من ناحية أو أخرى بجميع العلوم المعاصرة-الطبيعة ، والفلك ، وعلم الحياة ، وعلم الإنسان ، وعلم النفس ن والتاريخ والحضارة والسياسة والاجتماع وغيرها من العلوم ، وكل حديث في التاريخ الإنساني مصدره (الشعور) ، فضلا عن اللاشعور ، لا يخلو من الأغلاط والأكاذيب والأدلة الباطلة. أما الكلام النبوي فإنه بريء ولا شك من كل هذه العيوب رغم اتصاله بجميع العلوم ، ولقد مرت قرون إثر قرون أبطل فيها الآخرون ما ادعاه الأولون ، وما زال صدق كلام النبوة باقيا على الزمان ، ولم يستطع أحد أن يدل على باطل جاء به وكل من حاول ذلك أخفق.
وإليكم مثالا من هذا القبيل اعتمد عليه فلكي كبير ، حتى ادعى أنه كشف غلطة علمية في القرآن الكريم.
يقول (جيمز هنري بريستد):
(لقد راج التقويم القمري في الدنيا لكثرة تداوله في غرب آسيا ، ولغلبة الإسلام سياسيا بوجه خاص ولقد مضى محمد (صلى الله عليه وسلم) بالاختلاف بين التقويم القمري والشمسي إلى أقصى حد من العبث يمكن تصوره ، حتى إنه أبطل إضافة الشهر الكبيسة (Intercalary months ). إن السنة القمرية المزعومة تشتمل على354 يوما ، وتقل أحد عشر يوما عن السنة الشمسية. وهكذا تزيد السنة القمرية سنة كل33 سنة ، وثلاث سنين في كل قرن. فلو حل رمضان في يونيو في هذه السنة فسوف يحل بعد ست سنين في أبريل).
لقد مضى 1313عاما منذ(19) الهجرة ، حيث إن قرننا (الميلادي) هو بمثابة مائة سنة وثلاث سنين في تقويم المسلمين ، وقد سجل تقويمهم واحدا وأربعين عاما زائدا في هذه المدة من قرننا. وقد ألغت كنيسة اليهود الشرقية هذه السخافة واختارت طريقة إضافة الشهور(Intercalation ) لتجعل تقويمها مثل التقويم الشمسي ، وهذا هو السبب في أن غرب آسيا يعانى حتى الآن لعنة هذه الطريقة القديمة-التقويم القمري )(20).
لسنا هنا بصدد مناقشة الفرق بين التقويم القمري والشمسي ، ولكن لابد من توضيح أن ما نسبه المؤلف إلى رسول الإسلام هو في الحقيقة غفلة شديدة ترجع إلى المؤلف نفسه ، ولم يمنع القرآن الكريم إضافة (الشهور الكبيسة) ، وإنما حرم النسيء (التوبة:38) ومعناه في اللغة: (التأخير) ، ومنه: (نسأ الدابة) عن الحوض لكي تشرب الأخرى ومعناه في الاصطلاح: (تأخير شهر وتقديم شهر آخر عليه).
لقد كان من بين العادات الكريمة التي دعا إليها إبراهيم عليه السلام العرب تحريم أربعة أشهر لا قتال فيها ولا جدال ، وهى: ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب ، وقد كان العرب يسافرون في هذه الأشهر بكل حرية لكي يؤدوا فريضة الحج والعمرة. وحين دب الفساد في بعض القبائل ، اخترعوا بدعة (النسيء) وهى أن يضعوا شهرا غير حرام محل الشهر الحرام كأن يجعلوا صفر في مكان المحرم ، وذلك لكي يحاربوا قبيلة يلزم قتالها في الشهر الحرام. وهذه هي البدعة المقيتة التي وصفها القرآن الكريم بأنها: (زيادة في الكفر).
وقال العلماء: إن الشهور الكبيسة كانت رائجة في العرب ، وكانوا يضيفون عدد الشهور في السنة للتقويم.
وقال مفسر للقرآن الكريم في هذا الموضوع ، وهو مولانا شبير أحمد العثماني في تفسيره: (إن بعض القبائل تضيف الشهور الكبيسة كل ثلاثة أعوام ليستقيم التقويم القمري ولا يدخل هذا العمل في النسيء).
إن ما قاله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم في عهد الظلام لم يكن من الجهالة ، ولا يدخل قطعا في نطاق ما أورده (جيمز هنري بريستد) طعنا عليه ولو كان كلامه صلى الله عليه وسلم صادرا عن الشعور أو اللاشعور لوقعت فيه أخطاء ما من ذلك بد.
* * *
ثالثا: الاستدلال والاجتماع:
إن الذين يستدلون بالتاريخ أو الاجتماع خطأهم الأساسي أنهم لا يدرسون الدين من وجه صحيح ولهذا يبدو لهم الدين شيئا غريبا ، ومثال ذلك أن ترى شيئا مربعا من زاوية منحرفة فيترائي لك مثلثا. إن الخطأ الذي يقعون فيه هو أنهم يتناولون الدين على أنه (مشكلة موضوعية Objective Problem) فهم يجمعون في سلة واحدة كل ما أطلق عليه اسم (الدين) من رطب ويابس ، في أي مرحلة من التاريخ ، ثم يتأملون في ضوء هذا المحصول حقيقة الدين! ! إن موقفهم ينحرف من أولى مراحله فيبدو لهم الدين –جزاء هذا الموقف الفاسد-عملا اجتماعيا لا كشفا لحقيقة ، ومن المعلوم أن لكل ما يكشف عن حقيقة من الحقائق مثلا أعلى ، ولا بد عند البحث عن هذه الحقائق أن ندرس مظاهرها وتاريخها في ضوء مثله الأعلى. أما الأمور التي تأتى بها أعمال اجتماعية فليس لها مثل أعلى. وبقائها رهن بحاجة المجتمع إليها.
والدين يختلف عن ذلك كل الاختلاف ، فليس من الممكن البحث عن حقائقه ، كما يبحث عن تطورات فنون العمارة والنسيج والحياكة والسيارات لأن الدين علم على حقيقة يقبلها المجتمع أو يرفضها ، أو يقبلها في شكل ناقص ، ويبقى الدين في جميع هذه الأحوال حقيقة واحدة في ذاتها وإنما يختلف في أشكاله المقبولة، ولهذا لا يمكن أن نفهم حقائق (الدين) بمجرد فهرسة مماثلة لجميع الأشكال الموجودة في المجتمعات باسم الدين.
ولنأخذ-على سبيل المثال-لفظ (الجمهورية). فهي قيمة سياسية لنظام خاص بالحكم ، وفى ضوء هذه القيمة نستطيع أن نحكم على بلاد بأنها جمهورية أو بأنها ليست كذلك. لكنا لو ذهبنا نبحث عن معاني (الجمهورية) في النماذج السياسية التي توجد عبر القارات ويلتصق بها لفظ (الجمهورية) ، زعمنا أن كل هذه البلاد قائمة (على أسس جمهورية). فسوف تصبح كلمة (الجمهورية) بلا معنى. ففي هذه الحالة ستختلف (جمهورية) الصين عن (جمهورية) الولايات المتحدة الأمريكية ، وستعارض (جمهورية) إنجلترا (الجمهورية) العربية المتحدة ، كما أن (جمهورية) باكستان ستصطدم (بالجمهورية) التي تلتزم بها الهند. فإذا تأملنا كل هذه المشاهدات في ضوء (فلسفة التطور) فإن هذه الكلمة سوف تفقد معناها حتما ؛ لأن فرنسا التي أنجبت النظام الجمهوري سوف تبرهن على أن (الجمهورية) بعد (نشوئها وارتقائها) تتمثل في ديكتاتورية ديجول العسكرية.
وهذا النهج في التناول يؤدى إلى نتيجة غريبة هي أنه لا حاجة إلى (الإله) في الأديان! !
إذ يوجد مثال لهذا في تاريخ الأديان وهو مثال البوذية التي تخلو تماما من فكرة (الإله). ومن ثم آمنت جماعة من الناس بضرورة البحث عن دين مجرد من الإله ، ولو أننا سلمنا بالفكرة القائلة بأن شيئا مثل (الدين) لابد منه للإنسان لحاجته إلى الوعي الخلقي والتنظيم الاجتماعي ، فلا داعي إذن للإله أن يوجد ، وربما قيل: (إن الدين الذي يصح لهذا العصر يلزم أن يكون مثل البوذية ، فإن إله العصر الحاضر هو (مجتمعه وأهدافه السياسية9 ، ورسول هذا الإله هو (البرلمان) الذي يوجه الشعب إلى ما يرضيه ، ومعابد هذا الإله العصري ليست المساجد أو الكنائس القديمة وإنما هي المصانع الكبيرة والسدود العظيمة)(21)
إن لهؤلاء الباحثين الاجتماعيين المزعومين قدرة كبيرة على خلق هذه الأفكار الجديدة ، التي تنتقل من (دين الإله) إلى فكرة (الدين بغير الإله). وذلك ناشئ عن الطريق المعوجة التي سلكها بحثهم وهم يغمضون أعينهم عن جميع النواحي العلمية الأخرى التي تلقى ظلالا من الشكوك حول جداولهم الارتقائية. ومثاله أن علماء الاجتماع والإنسان قد توصلوا بعد أبحاثهم الفنية الدقيقة إلى أن (نظرية الإله) شكل ارتقائي لفكرة تعدد الآلهة ، غير أن هذا الارتقاء ضل طريقه واتجه إلى طريق غريبة وحير العلماء كما شوش أمره على نفسه بارتقائه الباطل من فكرة تعدد الآلهة إلى فكرة الإله الواحد.
إن فكرة تعدد الآلهة كانت تحمل قيما اجتماعية مؤداها أن يعيش مؤمنو الآلهة المختلفة في سلام باعتراف متبادل ما بينهم ، (ولكن فكرة الإله الواحد أبطلت حتما هذا الإمكان بخلقها نظرية الدين الأعلى (Higher Religion) ونتيجتها أن بدأت حروب ضارية لا نهاية لها بين شعوب الدنيا ، وهكذا سعت فكرة الإله الواحد إلى حتفها بظلفها ، لارتقائها في اتجاه مناقض وهذا هو قانون النشوء والارتقاء)(22).
ولكننا-فعلا- قد تركنا الواقع الحقيقي في هذا الجدول ، فالتاريخ المعلوم يثبت أن أول رسول معلوم كان سيدنا نوحا عليه السلام وكان يدعو إلى الله الواحد ، كما أن تعدد الآلهة (Polytheisn) ليس في درجة واحدة وإنما معناه: أن يشرك الإنسان مع الإله الأكبر آلهة آخرين يقربونه إليه ويشفعون له ، وفى وجود هذه الحقائق تتحول نظرية النشوء والارتقاء إلى ادعاء لا دليل عليه.
* * *
وفكرة (ماركس) هي أكثر نظريات هذه المجموعة عبثا ، فهي تقول:إن الأحوال الاجتماعية هي التي تقوم ببناء الإنسانية وتكميلها ، ومن ثم كان العصر الذي وجد فيه الدين عصر الإقطاع والرأسمالية وهو عصر الانتهازيين اللصوص كما أن الأفكار الدينية والأخلاقية التي تولدت في هذا العصر تحمل نفس الطابع الانتهازي الاستعماري.
والحق أن هذه الفكرة ليست لها قيمة من الناحية العلمية ، كما أنها عند التحليل العلمي والتجربة العملية لا طريق إلى تصديقها.
فالفكرة الماركسية تنفى بشدة إرادة الإنسان وهى تحيل الأحداث إلى تأثير عوامل الزمن الاقتصادية ، ومعنى ذلك أن الإنسان لا شخصية له فهو يصاغ في مجتمعه كما يصاغ الصابون في المصنع ولا طريق أمامه كي يشق أفكارا وطرقا جديدة وإنما هو ينطلق مفكرا على النهج الذي سمحت له به حياته الاقتصادية ، فإذا كانت هذه القضية صحيحة فكيف تمكن كارل ماركس –وليد النظام الرأسمالي- من أن يفكر ضد العوامل الاقتصادية الرائجة في عصره ؛ هل صعد القمر لكي يبحث في أحوال الأرض؟
وبعبارة أخرى: لو صح أن الدين وليد عصر مخصوص فكيف لم تكن الماركسية وليدة النظام الاقتصادي لعصرها؟؟.. وإذا لم نسغ هذا الوضع فيما يتعلق بالماركسية فكيف نسيغه بالنسبة إلى الدين؟.. الحق أن هذه الفكرة عبث مثير لا يحمل على ظهره أي دليل علمي أو عقلي.
هذا وقد اتضحت أخطاء هذه الفكرة بالتجارب العملية. وحسبنا روسيا ، هنالك حيث سادت الماركسية نصف قرن من الزمان ادعت روسيا خلاله أحوال البلاد المادية قد تغيرت تماما وأن النظام الزراعي ، والمبادلة ، وتقسيم الأموال ، قد جرت على أسس غير استغلالية ولكنا وجدنا حين مات ستالين أن قادة الروس أنفسهم قد أقروا بأن الظلم والفساد كانا رائجين في عهده ، وأنه كان يستغل الشعب كما يستغله الحكام في البلاد الاستعمارية. ولو وضعنا في اعتبارنا واقع الرقابة الشديدة على الصحف ووسائل الإعلام وهى التي تمكن بها ستالين من أن يذيع على العالم أن عهده هو عهد العدل والإنصاف ، فلا ريب أن هذه الرقابة موجودة اليوم أيضا ،ومن هنا نستطيع أن نفهم أن الأمور تجرى وراء ستائر الدعايا الجميلة على ما كانت عليه في عهد ستالين. وإن كان المؤتمر العشرون (1956) للحزب الشيوعي الروسي قد أفشى مظالم ستالين فلا غرابة أن يجيء المؤتمر الأربعون للحزب الشيوعي بإفشاء أسرار حكام روسيا اليوم(23).
إن هذا النظام التي استغرقت تجربته نصف قرن من الزمان ليدلنا على أن الإنسان لا يتغير بتغيير نظام الزراعة والمبادلة المزعوم ، ولو كان العقل الإنساني تابعا للنظام الاقتصادي فلماذا نجد الظلم والفساد والاستغلال في نظام روسيا الشيوعي؟
إن قضية العصر الحاضر لا تعدو أن تكون (سفسطة علمية Scientific Sophism) ذلك أن علماء هذا العصر يعالجون قضاياهم في ضوء العلم الحديث ، غير أن هذه المعالجة لاتجدى نفعا لأنها قائمة على العلم المحض وحسب ، على حين لابد من اعتبار أشياء أخرى ومثال ذلك: أن نشرع في دراسة علمية لأشياء علمية ناقصة فسوف تؤدى هذه المطالعة العلمية إلى نتائج غير علمية ، ناقصة باطلة.
لقد عقد في دلهي في يناير 1964مؤتمر دولي للمستشرقين ، اشترك فيه ألف ومائتان من العلماء من جميع أنحاء العالم. وقدم أحدهم في هذا المؤتمر بحثا يدعى فيه مآثر كثيرة لمسلمي الهند ليست من عمل المسلمين ، وإنما هي من عمل الملوك الهندوس.
وضرب لذلك مثلا بمنارة قطب في دلهي المنسوبة إلى الملك قطب الدين أيبك على حين بناها الملك الهندوسي سامو درا جوبت قبل 23قرنا ، لقد أخطأ المؤرخون المسلمون فنسبوها إلى الملك قطب الدين. ويستدل هذا البحث بأن في المنارة المذكورة بعض أحجار قديمة نحتت قبل عصر الملك قطب الدين.
وهذا –كما يبدو- استدلال علمي إذ أن بعض أحجار المنارة فعلا ن الصنف الذي ذكره العالم ولكن هل يكفى مشاهدة بعض أحجار المنارة للبت في أمر بانيها ؟ أو أنه لابد من نواح أخرى كثيرة لنشاهدها في هذا الصدد. ومن هنا فإن هذا التفسير لا يصدق على منارة قطب –ككل- هذا تفسير. وهناك تفسير آخر هو أن هذه الأحجار القديمة التي يوجد بعضها في المنارة. إنما جاءت من أنقاض أبنية قديمة كما هو معروف في كثير من الأبنية التاريخية الحجرية. ولا مناص من أن نقبل هذا التفسير الثاني حين نشاهد منارة قطب الدين في ضوء طابعها المعماري ورسومها وتصميمها. والمسجد الناقص بجوارها والمنارة الثانية التي لم تكمل ، ثم ننتهي إلى أن التفسير الأول ليس إلا قياسا خاطئا قائما على المغالطات.
والدليل الذي يقنعني بصدق الدين هو أن عقولا مثالية منا –بعد أن تركت الدين- قد أخذت تهذي بكلمات لا حقائق وراءها وتعمه في تيه الظلام ، ذلك أن الإنسان بعد أن يفقد أساس (الدين) لايجد أساسا آخر لأفكاره. والأسماء التي تأتى في قوائم المعارضين أكثرها من عقولنا الكبيرة ولكنهم بعد أن تخلوا عن الدين راحوا يكتبون ضروبا من اللغو غاية في الإهمال والتمزق ، حتى إننى أتحير –أحيانا- فلا أفهم كيف صدرت هذه الكلمات عن قلم رجل من العلماء؟.. وإن السجل الذي أنتجه هؤلاء ليشتمل على خرافات وآراء متناقضة واعترافات بجهل الحقيقة كما يشتمل على أدلة أشبه بالسفسطة. فبطولة هؤلاء تكمن في أنهم أغمضوا أعينهم عن الحقائق الظاهرة ، وشادوا قناطر خالية من الادعاء ، كما تتمثل في استدلالهم بالشاذ من الأمور. وذلك من سمات القضايا الباطلة ، أما القضايا الصحيحة فإنها تقوم على أسس علمية ثابتة لا على الشواذ.
* * *
وتتجلى حقيقة الدين وسفسطة قضية المعارضين أكثر من ذلك حين نطالع صورة الحياة الإنسانية في ضوء الدين ، إنها صورة جميلة لطيفة تتوافق مع أفكار الإنسان السامية كما يتوافق الكون المادي مع القوانين الرياضية ، بعكس تلك الصورة التي يرسمها المعارضون فهي صورة جد قبيحة وهى لا تتفق أبدا مع الذهن الإنساني ، وانظر إلى ما يقوله برتراند رسل:
(والإنسان وليد عوامل ليست بذات أهداف ، إن بدأه ونشوءه وأمانيه ومخاوفه وحبه وعقائده كلها جاءت نتيجة ترتيب رياضي اتفاقي في نظام الذرة ، والقبر ينهى حياة الإنسان. ولا تستطيع أية قوة إحياءه مرة أخرى. إن هذه المجهودات الطويلة والتضحيات والأفكار الجميلة والبطولات العبقرية كلها سوف تدفن تحت أنقاض الكون ، ولو لم تكن هذه الأفكار قطعية فإنها أقرب ما تكون إلى الحقيقة ، حتى إن أية فلسفة تحاول إنكارها ستلقى فنائها تلقائيا)(24)
ويكاد هذا الاقتباس أن يكون خلاصة الفكر المادي فالكون -في ضوء هذا الفكر المادي –يكاد يفقد أهدافه ولا يبقى غير الظلام الحالك ؛ الظلام الذي تتلاشى فيه معايير الخير والشر حتى إن إبادة الناس بالقنابل لا تعد ظلما لأنهم سوف يلقون حتفهم على أية حال يوما ما. أما الفكر الدين فهو فكر الضوء والأمل. الموت والحياة مرتبطان فيه بأهداف معينة وكل القيم والأفكار الإنسانية السامية تجد لها مكانا فيه وإن كان بعض العلماء بمجرد تصديق القوانين الرياضية لأفكاره يطمئن إلى أنه قد توصل إلى الحقيقة فإن تصديق العقل الإنساني الفكر الديني دليل قطعي على أنه قد توصل إلى الحقيقة التي طالما بحثت عنها الفطرة الإنسانية ، وعندئذ لا نجد أساسا واقعيا لإنكار قيمة الفكر الديني ، هذا وهو (المقياس) العلمي الذي يشير إليه الرياضي الأمريكي البروفيسور (ارل تشستر ريكس) قائلا:
(إننى أستخدم في أبحاثي ذلك المقياس العلمي المسلم الذي يستخدم في ترجيح إحدى فكرتين مختلفتين أو أكثر عن حقيقة واحدة. وهو المقياس الذي نرجح بناء عليه الفكرة التي تفسر المسائل المتنازع فيها بطريقة أكثر بساطة وسهولة. لقد استخدم العلماء هذا المقياس لاختيار إحدى نظريتي بطليموس و كوبرنيك : كانت الأولى تزعم أن الأرض هي مركز النظام الشمسي ، على حين أكدت الثانية أن النظام الشمسي هو مركز الأرض. وكانت نظرية بطليموس غاية في التعقيد حتى رفضها العلماء)(25).
ولا بأس من الاعتراف بأن هذه الأدلة لن تقنع بعض الناس ، فإن أبواب عقولهم المادية موصدة دون أي كلام –مهما يكن علميا- عن الإله أو الدين ومن المؤكد أن موقفهم هذا ليس لأن استدلالنا ضعيف وإنما هو راجع إلى تعصبهم المقيت ضد الأفكار الدينية ، ولقد صدق عالم بريطانيا العظيم سير جيمس جينز –الذي يعتبر ولا شك أعظم علماء العصر الحديث- حيث قال في كتابه الشهير (عالم الأسرار):
(إن في عقولنا الجديدة تعصبا يرجح التفسير المادي للحقائق)(26).
وذكر (ويتكر شامبرز) في كتابه (الشهادة) Witness حادثا كان من الممكن أن يصبح نقطة تحول في حياته. ذكر أنه بينما كان ينظر إلى ابنته الصغيرة استلفتت أذناها نظره فأخذ يفكر في أنه من المستحيل أن يوجد شيء معقد ودقيق كهذه الأذن بمحض اتفاق بل لابد من أنه وجد نتيجة إرادة مدبرة. لكن (ويتكر شامبرز) طرد هذه الوسوسة عن قلبه حتى لا يضطر أن يؤمن –منطقيا- بالذات التي أرادت فدبرت ، لأن ذهنه لم يكن على استعداد لتقبل هذه الفكرة الأخيرة.
ويقول الأستاذ الدكتور (تامس ديود باركس) بعد أن يذكر هذا الحادث:
(إننى أعرف عددا كبيرا من أساتذتي في الجامعة. ومن رفقائي العلماء الذين تعرضوا مرارا لمثل هذه المشاعر وهم يقومون بعمليات كيماوية وطبيعية في المعامل)(27).
لقد أجمع علماء هذا العصر على صدق نظرية النشوء والارتقاء. . وقد بدأت هذه النظرية تسود فعلا جميع فروع العلوم الحديثة. فكل مشكلة تحتاج (إلها) في تفسيرها توضع مكانه هذه النظرية بغير تردد.
هذا جانب من النظرية وأما الجانب الثاني –وهو الجانب المظلم منها- الذي يقرر (فكرة التطور العضوي) Organic Evolution الذي استنبطت منه فكرة الارتقاء ، فقد بقى إلى يوم الناس هذا بلا براهين وبلا أدلة علمية ! ! حتى قال كثير من العلماء (إنهم لا يؤمنون بهذه النظرية ، إلا لأنه لا يوجد أي بديل لها سوى الإيمان بالله مباشرة).
وكتب سير آرثر كيث يقول:
(إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميا ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان ونحن لا نؤمن بها إلا لأن الخيار الوحيد بعد ذلك هو (الإيمان بالخلق الخاص المباشر) وهذا ما لا يمكن حتى التفكير فيه(28)) ! !
إننى أقر هنا بعجزي عن إقناع أولئك الذين ينطوون على التعصب الأعمى للتفسير المادي بحقية الدين ، ولهذا التعصب جذور عميقة كما يقول عالم أمريكي: (إن كون العقيدة الإلهية معقولة وكون إنكار الإله سفسطة لا يكفى ليختار الإنسان جانب العقيدة الإلهية فالناس يظنون أن الإيمان بالله سوف يقضى على حريتهم ، تلك الحرية العقلية التي استعبدت عقول العلماء واستهوت قلوبهم ، فأية فكرة عن تحديد هذه الحرية مثيرة للوحشة عندهم (29).
وبناء على هذا يدعى جوليان هكسلى أن فكرة النبوة (هي إظهار للتفوق بطريقة شاذة لا يمكن احتمالها) ؛ إذ أن معنى الإيمان بنبى أن نؤمن بكلامه على أنه كلام الإله ، ثم نمتثل-طوعا أو كرها-لكل ما يأمر به.
ولكن إذا كان الإنسان مخلوقا وليس خالقا ، عابدا وليس معبودا. فكيف يستطيع أن يقضى على الحقائق بمجرد أفكار نبتت في عقله؟ . . إننا لا نستطيع أن نغير الحقائق وإنما نستطيع أن نعترف-أو نؤمن بها-فحسب. وإذا كنا لا نحب أن تكون عاقبتنا عاقبة النعامة ، فأفضل خيار لنا أن نسلم بالحقيقة قبل أن تفوت الفرصة نهائيا.
إن كفرنا بالحقيقة لن يسيء إلى قضيتها ولكن الخسران كله سوف يكون من حظنا في الآخرة.
* * *
طريقة الاستدلال العلمي
وقضية العصر الحاضر باطلة لأنها لا تقوم على أسس علمية ، فالطريقة الجديدة لا تنفى وجود أشياء لم تجرب مباشرة كما لا تنفي قياس أشياء لم نشاهدها على أشياء شاهدناها تجريبيا وهو ما يسمى (قياسا علميا) ، ويعتبر كالتجربة المباشرة فالتجربة لا تعد حقيقة علمية لمجرد أنها شوهدت ، كما أن القياس ليس باطلا لمجرد أنه قياس ، فإن كان الصحة والبطلان موجود فيهما على السواء.
كان الناس في القديم يصنعون السفن الشراعية من الخشب اعتقادا منهم أن الماء لا يحمل إلا ما يكون أخف منه وزنا ، وحين قال بعضهم: إن السفن الحديدية سوف تطفو على سطح الماء كالتي من الخشب ، أنكر الناس عليه مقالته واتخذوه هزوا ، وجاء نحاس فألقى بنعل من حديد في دلو مملوء بالماء ليشهد الناس على أن هذه القطعة الحديدية -بدل أن تطفو على سطح الماء-استقرت في القاع ، كان هذا العمل تجربة ، ولكننا جميعا نعتقد اليوم أنها كانت تجربة باطلة فلو كان النحاس قد ألقى بطبق من حديد وشاهد بعينه صدق ما قيل من طفو السفن الحديدية.
في بداية القرن العشرين كنا كذلك نملك تلسكوبا ضعيفا ، فلما شاهدنا السماء بهذا النظار وجدنا أجراما كثيرة كالنور فاستنبطنا أنها سحب من البخار والغاز تمر بمرحلة قبل أن تصير نجوما ، ولكنا حين تمكنا من صناعة منظار قوى وشاهدنا هذه الأجرام مرة ثانية ، علمنا أن هذه الأجرام الكثيرة المضيئة هي مجموعة من نجوم كثيرة شوهدت كالسحب نتيجة البعد الهائل بينها وبين الأرض.
وهكذا نجد أن التجربة والمشاهدة ليستا وسيلتي العلم القطعيتين ، وأن العلم لا ينحصر في الأمور التي شوهدت بالتجربة المباشرة. لقد اخترعنا الكثير من الآلات والوسائل الحديثة للملاحظة الواسعة النطاق ، ولكن الأشياء التي نلاحظها بهذه الوسائل كثيرا ما تكون أمورا سطحية وغير مهمة نسبيا ، أما النظريات التي يتوصل إليها بناء على هذه المشاهدات فهي أمور لا سبيل إلى ملاحظتها ، والذي يطالع العلم الحديث يجد أن أكثر آرائه (تفسير للملاحظات) وأن هذه الآراء لم تجرب مباشرة ، ذلك أن بعض الملاحظات يحمل العلماء على الإيمان بوجود بعض الحقائق غير مشاهدة قطعيا ، فأي عالم من علماء عصرنا لا يستطيع أن يخطو خطوة دون الاعتماد على ألفاظ مثل: (القوة) Force ، و(الطاقة) Energy ، و(الطبيعة) Nature ، و(قانون الطبيعة)Law of Nature ، وما إلى ذلك. ولكن هذا العالم لا يدرى ما (القوة والطاقة والطبيعة وقانونها)؟ فهو قد صاغ كلمات تعبر عن وقائع معلومة ، لكي يبين عن علل غير معلومة ، وهذا العالم لا يقدر على تفسير هذه الألفاظ تماما كرجل الدين ن لا يستطيع تفسير صفات الإله ، وكلاهما يؤمن-بدوره-بعلل غير معلومة.
* * *
يقول الدكتور ( الكسيس كيرل):
(إن الكون الرياضي شبكة عجيبة من القياسات والفروض لا تشتمل على شيء غير (معادلة الرموز) ؛ الرموز التي تحتوى على مجردات لا سبيل إلى تفسيرها)(31).
والعلم الحديث لا يدعى ولا يستطيع أن يدعى أن الحقيقة محصورة فيما علمناه من التجربة المباشرة ، فالحقيقة أن (الماء سائل). ونستطيع مشاهدة هذه الحقيقة بأعيننا المجردة ، ولكن الواقع أن كل (جزيء) من الماء يشتمل على ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأكسجين وليس من الممكن أن نلاحظ هذه الحقيقة العلمية ، ولو أتينا بأقوى ميكروسكوب في العالم ، غير أنها ثبتت لدى العلماء لإيمانهم بالاستدلال المنطقي.
* * *
ويقول البروفيسور ا. ى. ماندير:
(إن الحقائق التي نتعرفها مباشرة تسمى (الحقائق المحسوسةPercieved Facts) ، بيد أن الحقائق التي توصلنا إلى معرفتها لا تنحصر في (الحقائق المحسوسة) ؛ فهناك حقائق أخرى كثيرة لم نتعرف عليها مباشرة ولكننا عثرنا عليها على كل حال ، ووسيلتنا في هذه السبيل هي الاستنباط فهذا النوع من الحقائق هو ما نسميه (بالحقائق المستنبطةInferred Facts)والأهم هنا أن نفهم أنه لا فرق بين الحقيقتين وإنما الفرق هو في التسمية ، من حيث تعرفنا على الأولى مباشرة وعلى الثانية بالواسطة ، والحقيقة دائما هي الحقيقة سواء عرفناها بالملاحظة أو بالاستنباط)(32).
ويضيف ماندير قائلا:
(إن حقائق الكون لا تدرك الحواس منها غير القليل فكيف يمكن أن نعرف شيئا عن الكثير الآخر؟ . .هناك وسيلة وهى الاستنباط أو التعليل. وكلاهما طريق فكرى ، نبتدئ به بوساطة حقائق معلومة حتى ننتهي بنظرية: 0أن الشيء الفلانى يوجد هنا ولم نشاهده مطلقا)(33).
وهنا نتساءل: كيف يصح الاستنباط المنطقي لأشياء لم نشاهدها قط؟ وكيف يمكن أن نسمى هذا الاستنباط بناء على طلب العقل: حقيقة علمية؟ ويجب ماندير بنفسه عن هذا السؤال:
(إن المنهج التعليلي صحيح لأن (الكون) نفسه عقلي).
فالكون كله مرتبط بعضه بالآخر ؛ حقائقه المتطابقة ، ونظامه عجيب ، ولهذا فإن أية دراسة للكون لا تسفر عن ترابط حقائقه وتوازنها-هي دراسة باطلة. ويقول ماندير في هذا الصدد:
(إن الوقائع المحسوسة هي أجزاء من حقائق الكون غير أن هذه الحقائق التي ندركها بالحواس قد تكون جزئية ، وغير مرتبطة بالأخرى. فلو طالعناها فذة مجردة عن أخواتها فقدت معناها مطلقا. فأما إذا درسناها في ضوء الحقائق الكثيرة مما علمناه مباشرة أو بلا مباشرة فإننا سندرك حقيقتها).
ثم يأتى بمثال سليم يفسر ذلك فيقول:
(إننا نرى أن الطير عندما يموت يقع على الأرض ، ونعرف أن رفع الحجر على الظهر أصعب ويتطلب جهدا ونلاحظ أن القمر يدور في الفلك ، ونعلم أن الصعود في الجبل أشق من النزول منه. ونلاحظ حقائق كثيرة كل يوم لا علاقة لإحداها بالأخرى ظاهرا ، ثم نتعرف على حقيقة استنباطية-هي (قانون الجاذبية) وهنا ترتبط جميع هذه الحقائق فنعرف للمرة الأولى أنها كلها مرتبطة إحداها بالأخرى ارتباطا كاملا داخل النظام. وكذلك الحال لو طالعنا الوقائع المحسوسة مجردة ، فلن نجد بينها أي ترتيب ، فهي متفرقة وغير مترابطة ولكن حين نربط الوقائع المحسوسة بالحقائق الاستنباطية فستخرج صورة منظمة للحقائق)(34).
* * *
إن قانون (الجاذبية) لا يمكن ملاحظته قطعا ، وكل ما شاهده العلماء لا يمثل في ذاته قانون الجاذبية وإنما هي أشياء أخرى ، اضطروا لأجلها-منطقيا- أن يؤمنوا بوجود هذا القانون.
واليوم يلقى هذا القانون قبولا علميا عظيما ، وهو الذي كشف عنه نيوتن لأول مرة ، ولكن . . ما حقيقة هذا القانون من الناحية التجريبية؟ . . ها هو ذا نيوتن يتحدث في خطاب أرسله إلى (بنتلى) فيقول:
(إنه لأمر غير مفهوم أن نجد مادة لا حياة فيها ولا إحساس وهى تؤثر على مادة أخرى مع أنه لا توجد أية علاقة بينهما)(35)
* * *
فنظرية معقدة غير مفهومة ولا طريق إلى مشاهدتها ، تعتبر اليوم بلا جدال حقيقة علمية! ! ! لماذا؟ . . لأنها تفسر بعض ملاحظاتنا فليس بلازم إذن أن تكون الحقيقة هي ما علمناه مباشرة بالتجربة ، ومن ثم نمضى إلى القول بأن العقيدة الغيبية التي تربط بعض ما نلاحظه ، وتفسر لنا مضمونه العام-تعتبر حقيقة علمية من نفس الدرجة! . .
* * *
يقول البروفيسور ماندير:
(القول بأننا عرفنا الحقيقة يعنى: أننا عرفنا معناها ، وبعبارة أخرى: أننا بحثنا عن وجود شيء وعن أحواله ففسرناها ، وأكثر عقائدنا تدخل في هذا النطاق فهي في الحقيقة: (تفسيرات للملاحظة).
ويستطرد ماندير فيتكلم عن (الحقائق الملحوظة):
(عندما نذكر (ملاحظة) فإننا نقصد شيئا أكثر من المشاهدة الحسية المحضة فمعناها: (الملاحظة الحسية) و (التعرف) بما يشمل جانب التفسير)(36).
نظرية التطور العضوي:
هذه هي القاعدة العلمية التي على أساسها وافق العلماء على حقيقة نظرية (التطور العضوي) كما قال ماندير: (لقد ثبت صدق هذه النظرية ، حتى إننا نستطيع أن نعتبرها أقرب شيء إلى الحقيقة)(37).
ويقول سمبسن في هذا الصدد:
(إن نظرية النشوء والارتقاء حقيقة ثابتة أخيرا وكليا وليست بقياس أو (فرض بديل) صيغ للبحث العلمي)(38).
ويعتقد محرر دائرة المعارف البريطانية (1958):أن نظرية الارتقاء في الحيوانات (حقيقة) وأن هذه النظرية قد حظيت بموافقة عامة بين العلماء والمثقفين بعد داروين.
وقال ر. س لل:
(ظلت نظرية الارتقاء تحصل على تأييد متزايد يوما بعد يوم بعد داروين ، حتى إنه لم يبق شك لدى المفكرين والعلماء في أن هذه هي الوسيلة المنطقية الوحيدة التي تستطيع أن تفسر عملية الخلق وتشرحها).(39)
* * *
هذه النظرية التي أجمع العلماء على صحتها هل لاحظها أحدهم أو جربها في معمله؟ . .والجواب: لا! فذلك ضرب من المستحيل ، إن مزعومة الارتقاء معقدة وهى تتعلق بماض بعيد جدا حتى إنه لا سؤال عن تجربتها وملاحظتها. وهى على ما أكده (لل) في كلمته السابقة (وسيلة منطقية) لتفسير مظاهر الخلق وليست بملاحظة واقعية. وأرى أن هذا هو السبب الذي دفع (السير آرثر كيث)-الذي يعتبر محاميا متحمسا لنظرية الارتقاء- أن يسلم بأن هذه النظرية ليست بملاحظة أو تجربة وإنما هي مجرد عقيدة. ومن كلماته:
(إن نظرية الارتقاء (عقيدة أساسية) في المذهب العقلي)(40).
وعرف أحد المعاجم العلمية نظرية داروين بأنها نظرية قائمة على تفسير بلا برهان)(41).
* * *
فما الذي يجعل شيئا غير ملاحظ وغير قابل للتجربة (حقيقة علمية)؟ يذكر (ماندير) أسباب ذلك فيقول:
1-هذه النظرية توافق جميع الحقائق المعلومة.
2-في هذه النظرية تفسير لكثير من الوقائع لا يمكن فهمها إلا من طريقها.
3-ولم تظهر بعد نظرية تناسب وتوافق الحقائق بهذه الدقة(42).
فإذا كانت هذه الأدلة كافية لتصبح نظرية الارتقاء حقيقة علمية فهي كذلك موجودة في جانب الدين على وجه أتم وأكمل. والقول بصدق نظرية الارتقاء وإبطال الدين في نظر الذهن العلمي لا يعنى مطلقا أن قضية المعارضين هي قضية الاستدلال العلمي وإنما هذه القضية تتعلق (بالنتيجة) فلو أثبت نفس الاستدلال أمرا (طبيعيا محضا) فسيقبله المعارضون وسيرفضونه لو أثبت أمرا إلهيا-لأنه غير مرغوب فيه عندهم.
* * *
أما الوجه الأول فيشاهده العلم ويشاهده لمدى بعيد جدا ولكنه لا يستطيع أن يدعى أنه يشاهد الوجه الآخر. وطريقة العلم الحديث أنه يقدم رأيا عن شيء بعد مشاهدة مظاهره. وأما (الميدان الثاني) فهو ميدان معرفة حقائق الأشياء وتعيينها ، و (العلم) في هذا الميدان البحث عن حقائق غير معلومة بوساطة حقائق معلومة.
وعندما يجتمع لدى عالم من العلماء قدر مناسب من (الحقائق الملحوظة) فإنه يحس بضرورة وضع نظرية أو فرض علمي. وبعبارة أدق: ضرورة فكرة اعتقادية ووجدانية ، تقوم بتفسير الملاحظات وربط بعضها ببعض فإذا نجحت هذه الفكرة الاعتقادية في تفسير الحقائق تفسيرا كاملا عدت حقيقة علمية رغم أنها لم تلاحظ قط كما لوحظت الحقائق الأخرى التي نعرفها بالمشاهدة أو بالملاحظة العلمية.
ومعنى ذلك أن العالم يؤمن بوجود شيء غائب بمجرد ظهور نتائجه وآثاره ، فكل حقيقة نؤمن بها تكون دائما (فرضا) في أول أمرها إلى أن نكشف حقائق جديدة تدعم صدقها فنزداد يقينا بها. حتى نبلغ اليقين: وإذا لم تؤيدها الملاحظات اللاحقة تخلينا عنها. ومن أمثلة هذه (الحقائق): حقيقة (الذرة) التي لا سبيل إلى إنكارها برغم أنها لم تشاهد قط بالمعنى المعروف ، ولكنها تعتبر أكبر حقيقة علمية كشفت في هذا العصر. وهذا هو السبب الذي دفع أحد العلماء أن يعرف (النظريات) العلمية بالألفاظ التالية:
(Theories are Mental Pictures, That Explain Known Laws)
(النظريات صور ذهنية تفسر القوانين المعلومة).
* * *
حقيقة النظريات العلمية:وإن الحقائق التي تعرف في العلم باسم (الحقائق الملحوظة) ليست بحقائق شوهدت فعلا وإنما هي تفسيرات لبعض المشاهدات ، لأن المشاهدة الإنسانية لايمكن أن توصف بأنها (كاملة) ولذا فإن جميع هذه التفسيرات تعد (إضافية) ومن الممكن أن تتغير بتطور الملاحظة.
ويقول البروفيسور سوليفان بعد نقد وجهه إلى النظريات العلمية:
(هذا العرض للنظريات العلمية يثبت أن معنى (نظرية علمية صحيحة) أنها (فروض عملية ناجحة) Successful Working Hypothesis ، ومن الممكن تماما أن يكون سائر النظريات العلمية باطلا ؛ ذلك أن النظريات التي نعتبرها اليوم (حقيقة) ليست إلا (قياسا على وسائلنا المحدودة للملاحظة) ولاتزال قضية الحقيقة في عالم العلم (قضية عملية نفعية Pragmatic Affair).(44)
* * *
ولا يزال العلماء بعد هذا يعتبرون أن الفرض الذي يفسر ملاحظاتهم لا يقل في قيمته عن (الحقيقة الملحوظة) نفسها فهم لا يستطيعون أن يقولوا: إن الحقائق الملحوظة هي وحدها ( العلم) ، وإن ما سواها من النظريات الشارحة لا تدخل في نطاق (العلم) لأنها غير ملحوظة . . والحق أن هذا هو ما نسميه (الإيمان بالغيب) وهو بالنسبة إلى المؤمنين ليس سوى الإيمان بحقائق غير ملحوظة فهو ليس بعقيدة عمياء وإنما هو خير تفسير للحقائق التي يشاهدها العلماء . .
* * *
وكما رفض العلماء نظرية الضوء التي قدمها نيوتن وتعرف باسم Corpuscular Theory of light لأنها لم تنجح في تفسير مظاهر حديثة للضوء ؛ فإننا نرفض أفكار الفلاسفة الملحدين لأنها فشلت في تفسير مظاهر الطبيعة.
إن مأخذ حقائق الدين هو نفس المأخذ الذي يستقي منه العلم الحديث ملاحظاته لكي يثبت نظرية علمية. ولقد انتهينا بعد دراسة الحقائق الملحوظة إلى أن تفسير الدين للطبيعة هو عين الحق حتى إن هذا التفسير لم يتغير ولن يتغير على مر الدهور على حين أن كل نظرية صاغها الإنسان منذ قرن أو أكثر أو أقل ، قد رفضت أو أصبحت موضع شك الآن.
وإن صدق الدين ليتجلى بعد كل خطوة نخطوها في الملاحظة حتى ليصبح كل كشف علمي جديد تصديقا لحقائق الدين!
ولسوف نطالع أفكار الدين من هذه الناحية في الأبواب التالية.
الطبيعة تشهد بوجود الإله
أصدرت الكنيسة المسيحية في كيرالا جنوبي الهند كتيبا بعنوان:
(Nature and Science Speak about God)
(الطبيعة والعلم يتحدثان عن الله).. وأعتقد أن هذه الكلمات هي أفضل عنوان لهذا الباب.
إن أكبر دليل على وجود الإله هو مخلوقه ، هذا الذي نجده أمامنا وأوثق ما علمنا من حقائق الطبيعة يدعونا إلى الإيمان بأنه لا ريب أن لهذه الدنيا إلها واحدا. ونحن لا نستطيع أن نفهم أنفسنا وأن نفسرها بله الكون كله- مجردين من الإيمان بوجود الإله.
إن وجود الكون والنظام العجيب الذي اشتمل عليه وأسراره الدقيقة لا يمكن تفسير ذلك كله إلا بأنه قد خلقته (قوة) وأن هذه القوة (عقل) لا حدود له وأنها ليست بقوة عمياء.
أولا-نظرية التشكيك في الوجود:
هناك جماعة من المفكرين هزيلة العدد جدا ، (تشك) في مجرد وجود مثل هذه القوة. وتعتقد هذه الجماعة أنه لا وجود للإنسان ولا للكون وأن الوجود عبارة عن عدم محض و لا شيء غير ذلك.
فلو سلمنا بهذه الفكرة لالتبس علينا أمر الإله دون شك . . ولكننا حين نؤمن بأن الكون موجود نضطر تلقائيا أن نؤمن بالإله أو بالقوى الخالقة - كما نسميها- فليس بمعقول أن نؤمن بالوجود من العدم المحض ، ذلك قياس باطل ! !
فهذا التشكيك في وجود الكون والذي يتخذ أحيانا شكل نظرية الـ(لا أدرية)(45)- يمكن أن يعد نكتة فلسفية لا علاقة لها بالحقيقة. فنحن حين نفكر يكون فكرنا هذا دليلا قاطعا في ذاته على أن لنا وجودا(46). وحين نصطدم في الطريق بحجارة ثم نتألم فهذا الواقع دليل في ذاته على أن هناك عالما موجودا وجودا ذاتيا خارج وجودنا. وهكذا تدرك حواسنا في كل وقت أشياء كثيرة من الفرح والألم والتذوق ، فهذا الإحساس والشعور دليل لكل شخص على أنه موجود في كون ، وعلى أنه يملك وجوده الذاتي وحينئذ فلو قام أحد يشكك نفسه في وجوده الذاتي ووجود الكون فسوف نعتبر ذلك حالة استثنائية مفردة ، لا ترتبط بتجربة الملايين من جماهير الناس. وسوف نقول عن هذا الرجل الفذ: إنه غاب في عالمه الذهني ، حتى نسى نفسه. . .
بل إننا لو سلمنا-جدلا-بأنه ليس للكون في ذاته وجود خارج ذاتنا فلست أعتبر هذا دليلا ملزما بأنه لا وجود للإله.
وعلى كل حال فهذه هي الفكرة الوحيدة التي ترى وجود الإله مشكوكا فيه ، بكل ما تتضمن من السفسطة والجهالة وانعدام الواقعية وهى فكرة لا معنى لها في ذاتها وليست مفهومة لدى جمهور الناس كما أنها لم تحظ بقبول في دنيا العلم.
* * *
الوجود والخلق:
إن الإنسان العادي والعالم العادي يؤمن على كل حال بأن (له) وجودا وبأن للكون أيضا وجودا وعلى هذا الأساس من العلم والإيمان تقوم جميع ألوان النشاط العلمي والحيوي.
فإذا آمنا بوجود الكون فلا بد أن نؤمن بإله هذا الكون منطقيا: إذ لا معنى لأن نؤمن بالمخلوق ونرفض وجود الخالق ، ونحن لا نعلم شيئا جاء إلى الوجود من العدم دون أن يخلق فكل شيء مهما بلغ حجمه عظم أو صغر ، جل أو دق ورائه علة فكيف بنا نؤمن بأن كونا عظيما –مثل كوننا- جاء إلى الوجود ذاتيا دون خالق؟ ؟
ذكر (جون ستيوارت ميل) في سيرة حياته: أن أباه قد علمه أن سؤال (من الذي خلقني؟) لا يكفي لإثبات وجود الإله ، إذ ينجم تلقائيا سؤال: (فمن ذا الذي خلق الإله؟) ، وقد اعتد (برتراند رسل) هذا الاعتراض الثاني كافيا لرفض مدلول السؤال الأول(47).
ونحن نعرف أن هذا الاستدلال قديم جدا لدى الملحدين ؛ ومقتضاه:أننا لو افترضنا خالقا للكون فسوف نضطر أن نتصوره أزليا! !
الأزلي: الخالق أم المادة؟
وإذا كان لا مناص من افتراض أزلية هذا الخالق فلماذا لا نؤمن بأزلية هذا الكون؟ وهذا الكلام لا معنى له ، لأننا لم نعثر على صفات للكون أية كانت تثبت أنه خالق نفسه.
ولقد كان لهذا الاستدلال حسنه ورواؤه حتى القرن التاسع عشر ولكنا اليوم وبعد كشف (القانون الثاني للحرارة الديناميكية)Second Law of Thermo Dynamics نجد أن هذا الاستدلال فقد كل أساس كان يقوم عليه.
وهذا القانون الذي نسميه (قانون الطاقة المتاحة) أو (ضابط التغير)Law of Entropy يثبت أنه لا يمكن أن يكون وجود الكون أزليا ، فهو يصف لنا أن الحرارة تنتقل دائما من (وجود حراري) إلى (عدم حراري) ، والعكس غير ممكن وهو أن تنتقل هذه الحرارة من (وجود حراري قليل) أو (وجود حراري عدم) إلى (وجود حراري أكثر ) ، فإن ضابط التغير هو التناسب بين (الطاقة المتاحة) و (الطاقة غير المتاحة).
وبناء على هذا الكشف العلمي الهام فإن (عدم كفاءة عمل الكون) يزداد يوما بعد يوم ، ولابد من وقت تتساوى فيه حرارة جميع الموجودات ، وحينذاك لا تبقى أية طاقة مفيدة (للحياة والعمل) ، وسيترتب على ذلك أن تنتهي العمليات
الكيماوية والطبيعية ، وتنتهي-تلقائيا-مع هذه النتيجة (الحياة).
وانطلاقا من هذه الحقيقة القائلة بأن العمليات الكيماوية والطبيعية جارية وأن الحياة قائمة ، يثبت لدينا قطعا أن الكون ليس بأزلي ، إذ لو كان الكون أزليا لكان من اللازم أن يفقد طاقته منذ زمن بعيد بناء على هذا القانون ، ولما بقى في الكون بصيص من الحياة.
يذكر هذا التحقيق العلمي الحديث عالم أمريكي في علم الحيوان ، هو الأستاذ (إدوارد لوثر كسيل) فيقول:
(وهكذا أثبتت البحوث العلمية -دون قصد-أن لهذا الكون (بداية) فأثبتت تلقائيا وجود الإله ، لأن كل شيء ذي بداية لا يمكن أن يبتدئ بذاته ، ولابد أن يحتاج إلى المحرك الأول-الخالق الإله)(48).
وقد قال نفس الكلام السير جيمس: (تؤمن العلوم الحديثة بأن عملية تغيير الحرارة) Entropy سوف تستمر حتى تنتهي طاقتها كلية ، ولم تصل هذه العملية حتى الآن إلى آخر درجاتها ، لأنه لو حدث شيء مثل هذا لما كنا موجودين على ظهر الأرض حتى نفكر فيها. إن هذه العملية تتقدم بسرعة مع الزمن ومن ثم لابد لها من بداية ولابد أنه قد حدثت عملية فى الكون ، يمكن أن نسميها (خلقا في وقت ما) حيث لا يمكن أن يكون هذا الكون أزليا)(49).
* * *
وهناك شواهد طبيعية كثيرة تثبت أن الكون لم يكن موجودا منذ الأزل وأن له عمرا محدودا ، وعلى سبيل المثال نجد (علم الفلك) يقرر أن الكون يتسع بالتسلسل الدائم ، وأن كل مجاميع النجوم والأجرام والأجسام الفلكية تتباعد بسرعة مدهشة بعضها عن بعض. ويمكن أن نفسر هذه الحالة تفسيرا جيدا إذا نحن سلمنا بوقت للبدء ، كانت فيه كل الأجزاء التركيبية مركزة ومجتمعة بعضها مع بعض ثم بدأت الحركة والحرارة. ويقدر العلماء أن هذا الكون قد وجد نتيجة (لانفجار) فوق العادة ، وقع منذ 5000.000.000.000 سنة.
فالإيمان بهذا الكشف العلمي ، وهو أن للكون عمرا محدودا يتعارض مع إنكار موجده ، ومثل من يؤمن بحدوث الكون مع إنكاره لوجود خالقه كمثل من يزعم أن (تاج محل) قام بنفسه من غير بنائين ومهندسين ، مع تسليمه بأنه بني فى القرن السابع عشر الميلادي ولم يكن موجودا منذ الأزل.
* * *
ثانيا- الكشوف الفلكية:
يدلنا علم الفلك على أن عدد نجوم السماء مثل عدد ذرات الرمال الموجودة على سواحل البحار في الدنيا كلها ، منها ما هو أكبر بقليل من الأرض ولكن أكثرها كبير جدا حتى يمكن أن نضع في واحد منها ملايين النجوم في مثل حجم الأرض التي نعيش عليها ولسوف يبقى فيه مع ذلك مكان خال ! !
إن كوننا هذا فسيح جدا. ولكي نفهمه نتصور طائرة خيالية تسير بسرعة (186.000) ميلا في الثانية الواحدة وأن هذه الطائرة الخيالية تطوف بنا حول الكون الموجود الآن. إن هذه الرحلة الخيالية سوف تستغرق (1000.000.000) سنة ، يضاف إلى ذلك أن هذا الكون ليس بمتجمد ، وإنما هو يتسع كل لحظة حتى إنه بعد (1.300.000.000) سنة تصير هذه المسافات الكونية ضعفين ! ! وهكذا لن تستطيع هذه الطائرة الخارقة في سرعتها الخيالية أن تكمل دورانها حول هذا الكون أبدا ، وإنما سوف تظل تواصل رحلتها في نطاق هذا التوسع الدائم في الكون(50).
عندما تكون السماء صافية نستطيع أن نرى بالعين المجردة خمسة آلاف من النجوم ، ولكن هذا العدد يتضاعف إلى أكثر من (2.000.000) من النجوم حيث نستعمل تلسكوبا عاديا. وأقوى تلسكوب في العالم هو الذي يوجد في مرصد ماؤنت بالومار) في الولايات المتحدة الأمريكية ويستطيع أن يشاهد بلايين من النجوم.
إن الفضاء الكوني فسيح جدا ، تتحرك فيه كواكب لا حصر لها بسرعة خارقة ، بعضها يواصل رحلته وحده ومنها أزواج تسير مثنى مثنى ومنها ما يتحرك في شكل مجموعات. ولو انك لاحظت ضوء الشمس الذي يدخل غرفتك من الشباك فسترى أن هناك ذرات كثيرة من الغبار تتحرك وتسير في الهواء ، فلو استطعت أن تتخيل هذا في شكل أعظم لأمكنك أن تحظى من الفهم بشيء عن السيارات والكواكب في الكون مع الفرق الهائل المتمثل في أن ذرات الغبار تتحرك ويتصادم بعضها مع بعض ، ولكن الكواكب مع كثرتها يواصل كل واحد منها سفره على بعد عظيم يفصله عن الكواكب الأخرى. ومثلها مثل بواخر عديدة تمشى في أعالي البحار متباعدة حتى إن إحداها لا تعرف شيئا عن الأخرى. إن هذا الكون يتألف من مجموعات كثيرة من الكواكب والنجوم ، تسمى (مجاميع النجوم) وكلها تتحرك دائما.
* * *
وأقرب حركة منا هي حركة القمر التي تبعد عنا (240.000) ميلا ، وهو يدور حول الأرض ويكمل دورته في مدة تسعة وعشرين يوما ونصف يوم. وكذلك تبعد أرضنا هذه عن الشمس (93.000.000) ميلا وهى تدور في محورها بسرعة ألف ميل في الساعة في دائرة (190.000.000) ميلا وتستكمل هذه الدائرة مرة واحدة في سنة كاملة. وكذلك توجد تسعة كواكب مع الأرض وكلها تدور حول الشمس بسرعة فائقة. وأبعد هذه الكواكب السيار (بلوتو) الذي يدور في دائرة (7.500.000.000) ميلا حول الشمس وحول هذه الكواكب يدور واحد وثلاثون قمرا أخرى ، وتوجد غير هذه الكواكب حلقة من ثلاثين ألفا من (النجيمات) وآلاف من النجوم ذوات الأذناب ، وشهب لا حصر لها ، وكلها تدور وفى وسطها ذلك السيار العملاق (الشمس) وقطرها (865.000) ميلا وهى أكبر من الأرض (1.200.000) مرة ! !
ثم إن هذه الشمس ليست بثابتة أو واقفة في مكان ما وإنما هي بدورها مع كل هذه السيارات والنجيمات تدور في النظام الرائع بسرعة (600.000) ميلا في الساعة.وهناك آلاف من الأنظمة غير هذا النظام الشمسي ، يتكون منها ذلكم النظام الذي نسميه (مجاميع النجوم) ، أو المجرات وكأنها جميعا طبق عظيم تدور عليه النجوم والكواكب منفردة ومجتمعة ، كما يدور الخذروف الذي يلعب به الأطفال.. ومجرات النجوم هذه تتحرك بدورها أيضا ، والمجرة التي يقع فيها نظامنا الشمسي تدور على محورها بحيث تكمل (دورة واحدة) في(200.000.000) سنة ضوئية.
* * *
ويقدر علماء الفلك أن هذا الكون يتألف من خمسمائة مليون من مجاميع النجوم مضروبا هذا العدد في (500.000.000.000.000) من الملايين وفي كل مجموعة منها يوجد (مائة مليار) من النجوم ، أو أكثر أو أقل ويقدرون أن أقرب مجموعة من النجوم وهي التي نراها في الليل كخيوط بيضاء دقيقة تضم حيزا مداه ألف سنة ضوئية. ونحن –سكان الأرض- نبعد عن مركز هذه المجموعة بمقدار ثلاثين ألف سنة ضوئية ، وهذه المجموعة جزء من مجموعة كبيرة تتألف من سبع عشرة مجموعة وقطر هذه المجموعة الكبيرة (ذات السبع عشرة) مليونان من السنين الضوئية.
ومع هذا الدوران تجري حركة أخرى وهي أن هذا الكون يتسع من كل جوانبه كالبالون المتخذ من المطاط حين ينفخ فيه الأطفال ، وشمسنا هذه –وهي تدور حول نفسها- تدور بنا أيضا على الحاشية الخارجية للمجرة وهي تتباعد عن هذه الحاشية الخارجية بمقدار اثني عشر ميلا كل ثانية كما تتبعها في هذه العملية جميع النجوم الداخلة في النظام الشمسي. وهكذا جميع السيارات تسير إلى جانب أو آخر مع دورانها الخاص طبقا لنظامها ، فمنها ما يسير بسرعة ثمانية أميال في الثانية ، ومنها ما يسير بسرعة ثلاثة وثلاثين ميلا في الثانية ، ومنها ما يسير بسرعة أربعة وثمانين ميلا في الثانية. وجميع النجوم على هذا النحو تبتعد في كل ثانية بسرعة فائقة عن مكانها. هذه الحركة المدهشة تحدث طبقا لنظام وقواعد محكمة بحيث لا يصطدم بعضها ببعض ولا يحدث اختلاف في سرعتها.
* * *
إن حركة الأرض حول الشمس منضبطة تمام الانضباط بحيث لا يمكن أن يحدث أدنى تغير في سرعة دورانها حتى بعد مرور قرن من الزمان. وهذا القمر الذي يتبع في حركته الأرض يدور في فلك مقرر ومنضبط مع تفاوت يسير جدا ، يتكرر بعد كل ثمانية عشر عاما ونصف عام بدقة فائقة ، وتلك هي حال جميع الأجرام السماوية. ويرى علماء الفلك أن مجرات النجوم يتداخل بعضها في بعض فتدخل مجرة تشتمل على بلايين من السيارات المتحركة في مجرة أخرى مثلها (وتتحرك سياراتها هي الأخرى) ثم تخرج منها بسياراتها جميعا دون أن يحدث أي تصادم بين سيارات المجرتين.
وإن العقل حين ينظر إلى هذا النظام العجيب والتنظيم الدقيق الغريب ، لا يلبث أن يحكم باستحالة أن يكون هذا كله قائما بنفسه ، بل إن هنالك طاقة غير عادية هي التي تقيم هذا النظام العظيم وتهيمن عليه.
* * *
الأنظمة المعقدة :
إن هذا النظام الذي يوجد في العوالم الكبرى نجده –في صورته الكاملة- في أصغر عالم عرفناه ، فنحن نعرف –طبقا لأحدث معلوماتنا- أن الذرة أصغر عالم وأنها قد تناهت في صغرها حتى لايمكن أن نشاهدها بالمنظار الذي يكبر الأشياء ملايين المرات فهي –بناء على هذا- ليست شيئا ، بل إنها (لا شيء) بالنسبة إلى أدنى ما يستطيع البصر الإنساني أن يراه ولكن هذه الذرة –مع ما وصفناها به- تحتوي بصورة رائعة على نظام الدوران العجيب الموجود في النظام الشمسي ؛ فالذرة اسم لمجموعة من الإلكترونات وهذه الإلكترونات لا يتصل بعضها ببعض وإنما يوجد بينها فراغ كبير الحجم (نسبيا). ولنأخذ مثلا قطعة من الحديد التي توجد فيها الذرات متصلا بعضها ببعض اتصالا شديدا. وسنجد أن هذه الإلكترونات لا تشغل أكثر من 1/1.000.000.000 من مساحة الذرة وبقية المجال يكون خاليا ، ولو أننا أخذنا صورة مكبرة لجزيئين من الإلكترون والبروتون فسوف يكون الفاصل بينهما ما يقرب من ثلاثمائة وخمسين ياردة. ولقد نتصور الذرة من حيث هي في الغبار غير مرئية ومع هذا فإن حجم دوران الإلكترون داخلها يبلغ حجم كرة قدم قطرها ثمانية أقدام.
والإلكترون –الذي هو الجزيء السلبي في الذرة- يدور حول البروتون-الذي هو الجزيء الإيجابي فيها-وهذه الجزيئات التي لا حقيقة لها أكثر من نقط وهمية سابحة في الشعاع ، تدور حول مركزها بنفس النظام الذي تتبعه الأرض في مدارها حول الشمس بحيث لا يمكن تصور وجود الإلكترون في مكان محدود لسرعة دورانه وإنما هو يتخيل فقط موجودا على طول مداره في وقت واحد. وذلك لأنه يدور حول مداره بلايين المرات في الثانية الواحدة ! !
هذا النظام الذري يستحيل قيامه بنفسه ولا طريق إلى مشاهدته ولا يمكن تفسير عمله داخل الذرة بغير العلم أما وقد تبناه العلن فعلا فلماذا لا نأخذ منه دليلا على وجود منظم قائم على هذا التنظيم؟ إنه يستحيل قيام هذا التنظيم في الذرة دون منظم قائم عليه.
* * *
إننا نتحير إذا رأينا النظام المعقد لأسلاك التليفون و نتحير إذا وجدنا أن مكالمة من لندن إلى ملبورن باستراليا تتم في بضع ثوان ؛ فإذا كان تعقيد نظام أسلاك التليفون يوقعنا في هذه الحيرة فما بالنا بنظامنا العصبي وهو أوسع من هذا النظام وأشد تعقيدا؟ ! إن ملايين الأخبار تجري على أسلاك نظامنا العصبي –الذي أوجدته الطبيعة- من جانب إلى آخر ليل نهار. وهذه الأخبار التي توجه القلب في تدفقها وفي حركتها وتتحكم في حركات الأعضاء المختلفة وتتحكم في الحركات الرئوية. ولو لم يكن هذا النظام موجودا في أجسامنا لصارت الأجسام تلفيقا لأشياء مبعثرة تسلك كل منها مسلكها الخاص.
ومركز هذا النظام للمواصلات مع مخ الإنسان ، وفي هذا المخ يوجد ألف مليون خلية عصبية ومن كل هذه الخلايا تخرج أسلاك تنتشر في سائر الجسم وتسمى هذه الأسلاك (الأنسجة العصبية) وفي هذه الأنسجة يجري نظام استقبال وإرسال للأخبار بسرعة سبعين ميلا في الساعة. وبوساطة هذه الأنسجة نتذوق ، ونسمع ، ونرى ، ونباشر سائر أعمالنا ؛ بل إن هنالك ثلاثة آلاف من الشعيرات المتذوقة وتسمى Taste Buds . ولكل منها سلك عصبي خاص متصل بالمخ. وبوساطة هذه الشعيرات يحس بالمذاقات المختلفة. وتوجد في الأذن عشرة آلاف خلية سمعية. ومن خلال نظام معقد يسري من هذه الخلايا يسمع مخنا. وفي كل عين مائة وثلاثون مليونا من الخلايا الملتقطة للضوء Light Roceptors ، وتقوم بمهمة إرسال المجموعة التصويرية إلى المخ وهناك شبكة من الأنسجة الحسية على امتداد جلدنا فإذا قربنا إلى الجلد شيئا حارا ، فإن ثلاثين ألفا من الخلايا الملتقطة للحرارة تحس بهذه العملية وترسلها فورا إلى المخ. وإذا قربنا إلى الجلد شيئا باردا فإن ربع مليون من الخلايا التي تلتقط الأشياء الباردة تحس به وعندئذ يمتلئ المخ بأثرها ويرتعد الجسم وتتسع الشرايين الجلدية فيسرع مزيد من الدم إليها ويزودها بالحرارة وإذا أحست هذه الخلايا بحرارة شديدة فإن مخابرات الحرارة توصلها إلى الدماغ وحينئذ تفرز ثلاثة ملايين من الغدد العرقية –تلقائيا- عرقا باردا إلى خارج الجسم.
والنظام العصبي يشتمل على عدة فروع. منها: (الفرع المتحرك ذاتيا)Autonomic Branch ويقوم بأعمال تحدث ذاتيا في الجسم كعملية الهضم والتنفس وحركات القلب. ويندرج تحت هذا الفرع نظامان: أحدهما:(النظام الخالق للحركة)Sympathetic System والآخر هو المانع لها Payasympathetic . وهذا الأخير يقوم بعملية المقاومة والدفاع. ولو ترك الأمر للنظام الأول لازدادت حركة القلب زيادة يترتب عليها موت صحبه ولو سيطر النظام الثاني لتوقفت حركة القلب توقفا تاما. وأقسام هذين النظامين تباشر أعمالها في دقة فائقة وفي توازن عام ، ولكن هنالك حالات يزداد فيها نشاط أحد النظامين ، فالنظام الأول يتغلب عند الضغط واحتياج القلب إلى قوة مسعفة وعندئذ تزيد سرعة عمليات القلب والرئة ، والنظام الثاني يتغلب عند النوم. فيسود السكون جميع الحركات الجسمية.
تقليد الطبيعة:
إن أحسن الآلات من صناعة الإنسان لا يمكن أن تقف أمام النظام العجيب الذي يوجد في الكون. ولهذا فإن تقليد نظام الطبيعة قد أصبح اليوم موضوعا خاصا في العلم ، يولى أهمية خاصة للسير بالآلات الميكانيكية وفق ذلك النظام.وأصبحنا نرى علما جديدا يسمى (بيونيكس)Bionics لهذه الدراسة. وكانت مقتصرة من قبل على اكتشاف القوى الكامنة في الطبيعة واستغلالها.
واليوم يسلك النظام البيولوجي سبلا كثيرة للحصول على معلومات تساعد على حل مسائل الهندسة.
ومن أمثلة استغلال نظام الطبيعة في الصناعة آلة التصوير ، وهى في الواقع تقليد ميكانيكي لعين الإنسان ، فعدسة الكاميراLens هي كالشبكة الخارجية للعين ، والحجاب الحاجز Diaphragm هو قزحية العينIris والفيلم الذي يتأثر بالضوء. إنما هو شاشة العين التي توجد فيها خطوط وأشكال مخروطية ترى الأشياء معكوسة(51).
لقد ابتكرت جامعة موسكو آلة نموذجية لالتقاط وقياس (الذبذبات تحت الصوتية) Infra-Sonic Vibrations. وهذه الآلة تستقبل وتلتقط أخبار الفيضانات والزلازل وما أشبهها من الكوارث قبل حدوثها بمدة تتراوح بين اثنتي عشرة ساعة. وهى أقوى من الآلات المستعملة خمس مرات. فمن أين جاء هذا التفكير إلى العلماء؟ لقد استنبطوه من سمكة قنديل البحر التي تسمى (هلامي)Jelly Fish فقلد المهندسون أعضائها وهى شديدة الحساسية حتى لتحس بالذبذبات تحت الصوتية(52)!
وهناك أمثلة كثيرة جدا غير هذه يمكن عرضها وهى تؤكد أن علماء الطبيعة والتكنولوجيا يقلدون- في تفكيرهم الحديث- النماذج الحية في الطبيعة.
وقد شغلت بال العلماء مسائل كثيرة من أزمان مضت على حين حلتها الطبيعة منذ زمن بعيد. وإن كانت أجهزة التصوير وتلقى الأخبار (التليبرنتر) لا يمكن وجودها بغير عقل إنسانى ، فمن المستحيل أن نتصور أن نظام الكون-الذي هو أكثر تعقيدا من أي نظام-قد قام بنفسه بغير عقل وراءه ؛ بل لابد أن له مهندسا منظما-هو الإله ولا يمكن أن يتصور العقل نظاما دون منظم ، فليس من اللامعقول أن نعتقد بوجود منظم للكون ، بل إن من اللامعقول أن ننكر خالق هذا النظام ، فالحقيقة أن العقل الإنساني لا يملك أساسا عقليا لإنكار الإله.
ثالثا-روح الكون الغريبة:
ليس الكون كسلة المهملات وإنما هو منطو على روح غريبة. وهذه الروح لا يمكن أن تصدر إلا عن عقل قام بخلق الكون ويقوم بتدبيره.
وليس من الممكن أن يوجد نظام وروح في عملية مادية عمياء ، حدثت اتفاقا فالكون متوازن ومتناسب إلى حد لا يمكن تصوره. لقد قال (شادفاشChadvalsh : (إن من الممكن أن نسأل أي رجل- مؤمنا بالله كان أو منكرا له-نسأله أن يثبت كيف يمكن أن يكون هذا التوازن في صالحه إذا كان الكون قد وجد بمحض الصدفة؟)(53).
لابد للحياة فوق الأرض من أحوال كثيرة يستحيل اجتماعها بنسبها الخاصة رياضيا. ولكننا نجد أن هذه الحالات المستحيل اجتماعها رياضيا موجودة على سطح الأرض فعلا. وذلك يحتم علينا أن نؤمن بأن هنالك طاقة عظيمة عاقلة وراء الكون ؛ هي المتسببة في وجود هذه الحالات.
* * *
التوازن المدهش في الأرض:
الأرض أهم عالم عرفناه إذ توجد فيها أحوال لا توجد في شيء من هذا الكون الواسع ، وهى في ضخامتها (كما تبدو لنا) لا تساوى ذرة من هذا الكون العظيم ، ولو أن حجمها كان أقل أو أكثر مما هي عليه الآن لاستحالت الحياة فوقها ، فلو أنها كانت في حجم القمر مثلا ؛ بأن كان قطرها ربع قطرها الموجود فعلا. لكانت جاذبيتها سدس جاذبيتها الحالية ، ونتيجة لذلك لا يمكن أن تمسك الماء والهواء من حولها ، كما هي الحال في القمر الذي لا يوجد فيه ماء ولا يحوطه غلاف هوائي لضعف قوة الجاذبية فيه. وانخفاض الجاذبية في الأرض إلى مستوى جاذبية القمر سيترتب عليها اشتداد البرودة ليلا حتى يتجمد كل ما فيها واشتداد الحرارة نهارا حتى يحترق كل ما عليها.
وكذلك يترتب على نقص حجم الأرض إلى مستوى حجم القمر أنها لن تمسك مقدارا كبيرا من الماء. وكثرة الماء أمر ضروري لاستمرار الاعتدال الموسمي على الأرض ومن ثم أطلق أحد العلماء على هذه العملية لقب (عجلة التوازن العظيمة)Great Balance Wheel (54) وكذلك سيرتفع الغلاف الهوائي للأرض في الفضاء ثم يتلاشى. ويتبع ذلك أن تبلغ درجة حرارة الأرض أقصى معدلها ، ثم تنخفض إلى أدنى درجاتها على ما سبق ذكره.
وعلى العكس من ذلك إذا كان قطر الأرض ضعف قطرها الحالي لتضاعف جاذبيتها الحالية ، وحينئذ ينكمش غلافها الجوى-الذي هو على بعد خمسمائة ميل-إلى ما دون ذلك. وسيرتب على هذا أن يزيد تحمل كل بوصة مربعة من خمسة عشر رطلا إلى ثلاثين من الضغط الجوى وهو ضغط يؤثر أسوأ الأثر في الحياة.
ولو أن الأرض تضاعف حجمها فصارت مثل حجم الشمس مثلا لبلغت قوة الجاذبية فيها مثل جاذبيتها الحالية مائة وخمسين مرة ، ولاقترب غلافها الهوائي حتى يصير منها على بعد أربعة أميال فقط بدلا من خمسمائة ميل ، ولارتفع الضغط الجوى إلى معدل طن واحد على كل بوصة مربعة. وذلك يؤدى إلى استحالة نشأة الأجسام الحية. وهو من الناحية النظرية يعنى أن يصير وزن الحيوان الذي يزيد رطلا واحدا –تحت الكثافة الهوائية الحالية- خمسمائة رطل. كما يهبط حجم الإنسان حتى يصير في حجم فأر كبير ، ولاستحال وجود العقل في الإنسان ، لأنه لابد للعقل الإنساني من أنسجة عصبية كثيرة في الجسم ، ولا يوجد هذا النظام إلا إذا كان حجم الجسم بقدر معين.
* * *
نحن قائمون على الأرض ظاهرا ولكن الأصح أن نقول: نحن ملقون على رؤوسنا ، ولتوضيح ذلك نقول: إن الأرض مثل كرة معلقة يسكنها الإنسان فوضع الناس بعضهم بالنسبة إلى بعض على هذه الكرة ، أن سكان أمريكا سيكونون تحت سكان أهالي الهند ، وسكان الهند سيكونون تحت أقدام سكان أمريكا.
فأرضنا هذه ليست بثابتة وإنما هي تدور بسرعة مقدارها ألف ميل في الساعة ، وذلك يجعل وضعنا فوقها أشبه بحصاة وضعت على محيط عجلة تدور بسرعة ، يوشك أن تقذف بها في الفضاء ولكن الأرض لا تقذفنا ؛ بل نحن مستقرون عليها فكيف تمسكنا وهى تدور بهذه السرعة؟ ! ! . .
إن في الأرض جاذبية غير عادية وهى بهذه الجاذبية تشد كل شيء إليها فجاذبية الأرض وضغط الهواء المستمر يمسكانا فوقها بنسبة معلومة ، وهكذا صرنا مشدودين بهاتين العمليتين إلى كرة الأرض من كل ناحية.
وضغط الهواء الذي يكون على كل بوصة مربعة ما يقرب من 15 رطلا معناه: أن كل إنسان يتحمل ما يقرب من 228.40 رطلا من الضغط الجوى على جسمه ، ولكن الإنسان لا يحس بهذا الوزن ، لأن الهواء يضغطه من كل ناحية كما يحدث عندما نسبح في الماء. ثم أن الهواء-وهو علم على مركب معين من الغازات-ذو فوائد كثيرة ، لا يمكن حصرها فى كتاب.
* * *
لقد توصل نيوتن ، من خلال مشاهداته ومطالعاته إلى أن الأجسام يجر بعضها بعضا ، ولكنه لم يستطع تعليل هذا ، ولذا سلم بأنه لا تفسير لديه لهذه العملية.
ولقد ذكر هذه المسألة (وهايت هيد) قائلا:
( لقد كشف نيوتن-حين سلم بهذا-عن حقيقة فلسفية عظيمة ؛ هي أن الطبيعة لو كانت بغير روح فلن تفسر نفسها ، كما أن الشخص الميت لا يستطيع أن يحكى لنا واقعا. إن جميع التفسيرات الطبيعية والمنطقية لم تزد أخيرا على أن تكون إظهارا لهدف ، لأن الميت لا يمكن أن يكون حامل(55) أهداف).
وسوف أدفع حديث (وهايت هيد) إلى الأمام ، قائلا: إنه إذا لم يكن هذا الكون تحت سلطان (وجود ذي إدراك) فلماذا توجد فيه هذه الروح المدهشة؟
* * *
إن الأرض تتم دورة واحدة حول محورها ، في كل أربع وعشرين ساعة. ومعنى ذلك أنها تسير حول محورها بسرعة ألف ميل في الساعة ، فإذا فرضنا أن هذه السرعة انخفضت إلى مائتي ميل في الساعة ، لطالت أوقات ليلنا ونهارنا عشر مرات بالنسبة إلى ما هي عليه الآن ، ويترتب على ذلك أن تحرق الشمس-بشدة حرارتها- كل شيء فوق الأرض ، وما بقى بعد ذلك ستقضى عليه البرودة الشديدة في الليل.
وهذه الشمس التي نعدها اليوم وسيلة حياتنا تبلغ حرارة سطحها اثني عشر ألف درجة فهرنهيت ؛ والمسافة بينها وبين الأرض تبلغ ما يقرب من 93.000.000 ميلا ، وهذا البون الهائل دائم لا يتغير أبدا لزيادة أو نقص وفى ذلك عبرة عظيمة لنا ؛ لأنه لو نقص واقتربت الشمس من الأرض بمقدار النصف مثلا من الفاصل الحالي فسوف يحترق الورق على الفور من حرارتها ، ولو بعد هذا الفاصل فصار ضعف ما هو عليه الآن فإن البرودة الشديدة التي تنجم عن هذا البعد سوف تقضى على الحياة في الأرض ، ولو أنه حل محل الشمس سيار آخر غير عادى يحمل حرارة تزيد على حرارة الشمس عشرة آلاف مرة فسوف يجعل من الأرض تنورا رهيبا. .
ثم إن هذه الأرض دائرة في الفضاء وهى تؤدى عملها بزاوية 33ْ درجة ، الأمر الذي تنشأ عنه المواسم ، ويترتب عليه صلاحية أكثر مناطق الأرض للزراعة والسكنى ، فلو لم تكن الأرض على هذه الزاوية لغمر الظلام القطبين طول السنة ؛ ولسار بخار البحار شمالا وجنوبا ، ولما بقي على الأرض غير جبال الثلج ، وفيافي الصحراوات ؛ وهكذا تنجم مؤثرات كثيرة تجعل الحياة على ظهر الأرض مستحيلة.
* * *
فلو كان قياس العلماء صحيحا وهو: أن المادة قد نظمت ذاتها على هذه الهيئة المناسبة المتوازنة ، فما أعجب هذا القياس وما أكثر إثارته للدهشة! ! . يقولون: إن الأرض انشقت من الشمس ومعنى هذا: أن درجة حرارتها كانت في مبدأ أمرها ، نفس حرارة الشمس ، وهى اثنا عشر ألف درجة فهرنهيت ثم بدأت الأرض تبرد ؛ إذ لا يمكن اتصال الأوكسجين بالهيدروجين إلا بعد أن تنخفض الحرارة إلى أربعة آلاف فهرنهيت-وفى هذه المرحلة وجد الماء ، وهكذا استمرت عمليات التقلب على سطح الأرض ملايين السنين حتى جائت الأرض في صورتها الحالية منذ أكثر من بليون سنة مضت ، وذهبت الغازات من فضاء الأرض إلى فضاء الكون وتحولت بقايا الغازات بعد ذلك إلى المركب المائي أو انجذبت إلى الأشياء الأرضية أو بقيت في صورة الهواء ؛ وأكثرها في صورة الأوكسجين أو النتروجين. وهذا الهواء في كثافته يعد جزءا واحدا من 2.000.000 من أجزاء الأرض. ولم تنجذب كل الغازات إلى الأرض كما أنها كلها لم تتحول إلى (هواء).ولو أنه حدث ، لاستحالت حياة الإنسان ، فلو أننا فرضنا المستحيل ووجدت الحياة في ظروف كهذه-تتحمل فيها البوصة المربعة آلاف الأرطال من الضغط الجوى- لكان من المستحيل أن توجد الحياة في صورة الإنسان الحالية.
ولو كانت قشرة الأرض أكثر سمكا بمقدار عشرة أقدام من سمكها الحالي ، لما وجد الأوكسجين (56) ، وبدونه تستحيل الحياة الحيوانية.
وكذلك لو كانت البحار أعمق بضعة أقدام ، أكثر من القاع الحالي ، لانجذب (ثاني أكسيد الكربون) ، والأوكسجين (57) ، ولاستحال وجود النباتات على الأرض ؛ فضلا عن الحياة.
ولو كان الغلاف الهوائي للأرض ألطف مما هو عليه الآن ، لاخترقت النيازك كل يوم غلاف الأرض الخارجى ،ولرأيناها مضيئة في الليل ولسقطت على كل بقعة من الأرض وأحرقتها ، فهذه النيازك تواصل رحلتها بسرعة أربعين ميلا في الثانية ، ونتيجة لهذه السرعة العظيمة ، فإنها ستحرق كل شيء يمكن احتراقه على الأرض ، حتى تصبح الأرض غربالا فى وقت ليس ببعيد. .
فلولا أن غلاف الأرض الهوائي يقينا من هذه الشهب لاحترقنا. فإن سرعتها أكثر من سرعة طلقة البندقية تسعين مرة كما أن حرارتها الشديدة كافية لإهلاك كل شيء بما فيه الإنسان. فنحن إذن في حماية هذا الغلاف الكثيف الموزون الذي لا تخترقه (الأشعة الشمسية ذات الأهمية الكيماوية)Actinic Rays إلا بالقدر الذي يكفي لحياة النبات وإيجاد الفيتامينات والقضاء على الجراثيم الضارة وما إلى ذلك. .
إن هذا التوازن للكميات المحتاج إليها عجيب جدا ؛ فالغلاف الذي فوق الأرض مكون من ستة غازات ؛ منها 78 في المائة من النتروجين ، و 21 في المائة من الأوكسجين ، والغازات الأخرى توجد بنسب قليلة ، وهذا الغلاف يضغط الأرض بنسبة 15 رطلا في البوصة المربعة ، ونسبة الأوكسجين الموجود اليوم قد انجذبت إلى الأرض ، وهي تمثل 0.8 من الماء الموجود على سطح الأرض ، والأوكسجين هو الوسيلة الوحيدة لتنفس سائر حيوانات الأرض ولا طريق إلى ذلك من غير الفضاء.
* * *
قانون الضغط والتوازن:
وهنا يظهر سؤال هام ، وهو : كيف تجمعت هذه الغازات الشديدة الحركة ، مع احتفاظها بمقاديرها المتناسبة التي لابد منها للحياة في الفضاء؟
والجواب: أنه لو كانت نسبة الأوكسجين 50% أو أكثر بدلا من 21% لزادت قابلية الاحتراق بما يساوي ارتفاع هذه النسبة . . . فإذا احترقت شجرة واحدة في غابة حينما تكون نسبة الأوكسجين 21% فإن الانفجار الخاطف الناجم عن ارتفاع هذه النسبة إلى 50% يجعل احتراق الغابة كلها أمرا حتميا في لحظات!
ولو أن هذه النسبة انخفضت فأصبحت 10% لكان من الممكن على مدى القرون أن تعتاد الحيوانات الحياة مع انخفاض نسبة الأوكسجين إلى هذا الحد ، ولكنه يكون من المستحيل أن تزدهر الحضارة الإنسانية كما هي عليه في الظروف الحالية (58).
ولو أن الأوكسجين الموجود على سطح الأرض انجذب مع الأوكسجين الذي انجذب قبل ذلك في الأرض ، لكان من المستحيل (الوجود الحيواني الحسي).
إن الأوكسجين والهيدروجين وثاني أكسيد الكربون ، وغازات الكربون الأخرى على اختلاف أشكالها تتركب معا فتصبح عنـاصر عظيمة الأهمية للحياة الحـيوانية ، وللأسس التي تقوم عليها الحياة الإنسـانية ، وبناء عليه لا يوجد احتمال 1/10.000.000 أن تجتمع هذه الغازات في تناسبها المطلوب وبجميع خصائصها اللازمة للحياة على كوكب معين بطريق الصدفة.
ولذلك يقول أحد كبار علماء الطبيعة:
(Science has no explanation to offer for the facts,
and to say it is ‘accidental’ is to defy mathematics.)
(إن العلم لا يملك أي تفسير للحقائق ، والقول بأنها حدثت (اتفاقا) إنما يعتبر تحديا وتصادما مع الرياضيات).
إن هناك وقائع كثيرة جدا لا طريق لنا إلى فهمها أو تفسيرها إلا إذا سلمنا بأن للعقل يدا عليا في إحداثها . .
فمن الخصائص المهمة التي توجد في الماء : أن كثافة الثلج Density تقل بنسبة كبيرة عن كثافة الماء فالماء إذن مادة معلومة تقل كثافتها بعد التجمد ، ولهذا الأمر قيمة عظيمة بالنسبة إلى الحياة ؛ إذ يترتب على هذه الخاصة أن الثلج يطفو على سطح الماء ولا ينزل إلى قاع البحار والأنهار ، ولولا ذلك لكان الماء كله قد تجمد في البحار والأنهار والخزنات المائية ؛ إن الثلج يقوم بدور الحاجب للماء الذي تحته ، كيما تبقى حرارته دون درجة التجمد فتبقى الأسماك والحيوانات المائية على قيد الحياة. فإذا ما جاء موسم الربيع ذاب الثلج ، ولولا خاصة الثلج هذه لعانى سكان الأقطار الباردة الكثير من المتاعب والمصائب الناجمة عن عدم ذوبان الثلج.
* * *
لقد أصاب مرض الإندوثيا Endothia في أوائل القرن العشرين ، أشجار (شاه بلوط) الثمينة في غابات أمريكا ، وانتشر بسرعة فائقة، فقال بعض من رأى تلك المواضع الخربة الكبيرة في (مظلة الغابات): إنها لن تمتلئ أبدا ! !
ولم يكن أي نوع من الأشجار- حتى ذلك الحين- قد انتزع هذا الامتياز كان خاصا بهذا النوع من أشجار البلوط ذات الأخشاب الثمينة الغالية حتى كان يلقب : ( ملك أشجار الغابات الأمريكية) قبل وصول وباء الإندوثيا من آسيا سنة 1900م تقريبا.
أما الآن فلا توجد هناك أية آثار لشاه بلوط ، ذلك الشجر العظيم في الغابات الأمريكية.
ولكن سرعان ما امتلأت تلك المواضع في غابات أمريكا بنوع آخر من الأشجار يسمى: (التيوليب) كانت لا تحتل من الغابات إلا حيزا صغيرا ولم تكن مزدهرة.
لقد انتهزت أشجار (التيوليب) هذه الفرصة فازدهرت وحلت محل شاه بلوط. واليوم لا يتذكر أي تاجر أخشاب أمريكي وجود أشجار شاه بلوط فقد حلت محلها أشجار (التيوليب) التي تتضخم كل سنة بنسبة بوصة واحدة في الجزع وترتفع ست بوصات في الفروع والأغصان ، كما تعطي خشبا ممتازا يستعمل في جميع الصناعات الدقيقة.
* * *
ومن الأحداث العلمية الهامة التي وقعت في هذا القرن ما حدث في استراليا . . لقد زرعوا نوعا خاصا من (الصبار) في مزارعها لكي يحميها ، ولم يكن في استراليا أي نوع من الدودة يعادى ويأكل هذا النبات ذا الشوك ، فأخذ ينتشر انتشارا رهيبا ومروعا حتى استولى على منطقة توازى مساحة جزر بريطانيا كلها ، لقد هاجم الصبار القرى والمدن وخرب المزارع والحقول حتى استحالت الزراعة ، ولم يتمكنوا من استئصاله بأية طريقة لقد أصبح جيشا جبارا يزحف لكي يسيطر على استراليا كلها وهى لا تجد ما تقاوم به ؛ واستمرت هذه الحال حتى خرج علماء الحشرات يبحثون عن دودة تأكل الصبار. فاكتشفوا دودة لا تعيش إلا عليه ولا غذاء لها سواه ،وقد كان نسلها يزيد بسرعة ولا عدو لها في حشرات استراليا وسرعان ما تغلبت هذه الدودة الصغيرة على جيش الصبار العظيم وانتهت مصائب استراليا! ! .
أيمكن أن يكون هذا القانون-(قانون الضبط والتوازن Checks and Balances) قد حدث دون تخطيط واع هكذا صدفة واتفاقا؟ !
* * *
السنن الرياضية المحكمة:
وفى الكون سنن رياضية محكمة بصورة تدعو إلى الدهشة والإكبار ، وحتى المادة الجامدة التي لا تملك شعورا لا يمكن أن تجرى على غير نظام وإنما هي تتبع قوانين صارمة معلومة ، ولفظ الماء أينما كان على هذه الأرض الواسعة لن يكون معناه سوى مادة سائلة تحتوى على 11.1%من الهيدروجين ، و88.9% من الأوكسجين.ولذلك يستطيع أي عالم يجرى عملية تسخين الماء في معمله أن يقول بكل قطعية: إن درجة حرارة غليان الماء هي (100) سنتي جراد ، دون أن يرى مقياس الحرارة ما دام ضغط الهواء760م.م. فإذا كان ضغط الهواء أقل فسوف نحتاج طاقة أقل لتوفير الحرارة التي تدفع جزئيات الماء. وتعطيها صورة البخار. وحينئذ سوف تنخفض درجة غليان الماء ، وعلى العكس لو كان ضغط الهواء أكثر من 760م.م. فستزداد درجة غليان بمقدار زيادة ضغط الهواء. لقد جربوا هذه العملية مرارا إلى أن تمكنوا من البت في أمر الغليان حتى قبل تسخين الماء والتنبؤ بدرجة غليانه دون استعمال المقياس. ولو لم يكن هذا النظام والضبط في المادة وعمليات الطاقة لما وجد الإنسان أسسا يقيم عليها كشوفه ومنجزاته العلمية.ولولا هذا النظام والضبط لحكمت عالمنا الاتفاقات والصدف المحضة! ولكان من المستحيل على علماء الطبيعة أن يقولوا:إنه بمباشرة عمل ما في حالة معينة تحصل نتيجة كذا. .
نظام العناصر والدورية:
إن أول شيء يشاهده الطالب في معمل الكيمياء هو نظام العناصر ودوريتها ، وقد وضع العالم الروسي (ماندليف) خريطة للعناصر الكيماوية بمقاديرها الجوهرية وسميت ب(الخريطة الدورية)Periodic Chart ، وفى ذلك الوقت لم تكن كل العناصر قد تم كشفها حتى تملأ كل الخانات الموجودة في الخريطة ، فتركها (ماندليف) خالية ؛ إلى أن ملأها العلماء فيما بعد ، كما تخيلها العالم الروسي من قبل كشفها بسنين طويلة ، وهذه الخريطة تحوى جميع العناصر الجوهرية بأرقام وقوائم مختلفة. ومعنى الأرقام الجوهرية هو العدد الخاص الذي يوجد في مركز الذرة ، من الشحنات الكهربية الإيجابية (البروتون) وهذا العدد هو الفارق بين ذرة عنصر وذرة عنصر آخر ؛ فالهيدروجين الذي نعتبره أبسط عنصر يوجد في مركز ذرته شحنة واحدة من الكهربية الإيجابية ، وكذلك توجد في العنصر المسمى (هيليم) شحنتان ، وفى (ليثيم) ثلاث شحنات. وما كان لنا أن نتمكن من وضع خرائط العناصر المختلفة إلا بناء على قوانينها الرياضية العجيبة. وهل هناك مثال للضبط أفضل من أننا عثرنا على العنصر رقم (101) بمجرد معرفة شحناته الكهربية الخمسة عشر؟ ! !
ليس من الممكن أن يطلق العلماء على هذا النظام الرائع في الطبيعة عبارة: (الصدفة الدورية)Periodic Chance وإنما هو (القانون الدوري)Periodic Law . وليس من الممكن أن نتنكر لما تطلبه هذه الضوابط والنظم من وجود إله ومهندس. . فإن عدم إيمان العلم الحديث بالإله إنكار في الواقع لكشوفه كنتيجة حتمية!
* * *
(سوف يحدث كسوف للشمس يوم 11 أغسطس سنة 1999م ويمكن رؤيته كاملا في كورنفال(59)) ، ليس هذا مجرد تنبؤ قياسي ولكن علماء الفلك يؤمنون بأنه لابد من هذا الكسوف بناء على نظام دوران الشمس الموجود حاليا.
ولكم نتحير عندما نرفع أعيننا إلى السماء ونشاهد الكواكب والنجوم التي لا حصر لها ؛ إن هذه الكرات السماوية التي لا تزال معلقة في الفضاء منذ قرون لا نعرف عدتها ، تدور في الفضاء الفسيح السحيق على نظام معين معلوم بحيث يمكننا معرفة جميع الوقائع المستقبلة قبل وقوعها بقرون.إنه نظام لا مثيل له من الذرة إلى قطرة الماء إلى الكواكب السحيقة في أجواز الفضاء. . نظام تستنبط على أساسه قوانين علمية!
إن نظرية (نيوتن) تفسر دوران الكرات الفلكية وبناء علي هذه النظرية استطاع العالمان: آدمز ولا فريير أن يتنبآ بوجود كوكب لم يكن معروفا وجوده في وقتهما ، وبناء على قولهما وجه مرصد برلين في ليلة من ليالي سبتمبر سنة1846 تلسكوبا إلى الجهة التي أشارا إليها وسرعان ما وجد المرصد الكوكب الذي نسميه اليوم (السيار نبتون)، في أسرة الشمس! !
* * *
خصائص حكيمة:
إن أبعد الأمور عن القياس وأعظمها استحالة هو أن نؤمن بأن الكون وقطعيته الرياضية ، قد جاءا نتيجة (صدفة)!
فمن الخصائص الحكيمة في هذا الكون كونه صالحا لتصرفات الإنسان عند الضرورة ، ولنأخذ النتروجين على سبيل المثال. . فإن 78%من النتروجين توجد في كل هبة من الرياح ، وكذلك توجد في أجزاء كيماوية أخرى ونسميها حينئذ (النتروجين المر كب) ، وهذه كلها يستغلها النبات لكي يهيئ لنا الجزء النتروجينى في غذائنا ؛ فلولا هذه العملية لهلك الحيوان والإنسان وكل ما يعتمد على النبات في أكله جوعا وفاقة ؛ فإن أي نبات غذائي لا ينمو بدون هذا التحليل الكيماوي.
إن هناك طريقتين لا ثالثة لهما لتحليل النتروجين في الأرض ، والطريقة الأولى: هي (العملية الجرثومية) وتقوم بأدائها الجراثيم التي تعيش في جذور الشجرة تحت الأرض ، وهذه الجراثيم تأخذ النتروجين من الهواء وتصنع منه (النتروجين المركب)، ويبقى هذا النتروجين تحت الأرض بعد الحصاد مع الجذور. وأما العملية الثانية التي تصنع النتروجين المركب فهي (الرعد). . فكلما احتك الرعد في الفضاء مزج شيئا من الأوكسجين في النتروجين ، ويصل هذا النتروجين المركب إلى الحقول عن طريق الأمطار التي تلي العملية ، والكمية التي تحصلها الحقول من هذا المركب بسهولة كل سنة هي ما يقرب من خمسة أرطال لكل (ايكر)(60) من الأرض وهى تساوى ثلاثمائة رطل من نترات الصوديوم(61).
ولكن هذه الكمية من النتروجين المركب لا تكفى لأن الحقول التي تزرع لمدة طويلة ينفذ ما فيها منه. ولذلك نرى الزراع يحولون المواسم الزراعية من حقل لآخر بعد وقت معلوم. وأعجب ما حدث في هذا القرن-عندما ضاقت الأرض بما رحبت على سكانها ، وقل النتروجين لكثرة الزراعة ، وخافت الإنسانية من القحط والفاقة- اكتشافنا في هذه المرحلة الخطيرة (طريقا ثالثة) لاستمداد النتروجين من الهواء وكانت الجهود الأولى التي بذلت في هذا الصد ، أنهم جربوا عملية خلق رعد صناعي في الفضاء باستعمال آلات قوتها3.000.000 حصان ؛ غير أنهم لم ينجحوا إلا في صناعة كمية ضئيلة من النتروجين المركب. وتقدم الإنسان بهذه التجارب حتى كشف الطريق الثالثة ؛ وهى استخدام الهواء في صناعة النتروجين المركب في صورة (السماد). . وهكذا استطاع أن يهيئ لغذائه جزءه الضروري ، الذي لولاه لهلك جوعا. وهذا حدث عجيب في تاريخ الأرض ؛ فإن الإنسان كشف للمرة الأولى في تاريخه حلا لأزمة الغذاء وابتعدت أشباح الكارثة عن سكان الأرض ، حين كان من المستحيل أن يتجنبوها! !
* * *
إن هناك أمورا كثيرة تؤكد وجود الحكمة والروح في الكون وكل ما لدينا من علم يؤكد لنا أن ما قد كشف أقل بكثير مما لم نستطع حتى الآن الكشف عنه! وبرغم ذلك فإن ما كشفه الإنسان كثير جدا ، حتى إننا لو أردنا فهرسة عناوين هذه العلوم فسنحتاج إلى سفر ضخم جدا ، بالنسبة إلى هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ ، وسوف يبقى بعد ذلك أيضا الكثير منها دون فهرسة. .
إن كل ما يمكن للسان الإنساني أن يلفظ عن آلاء الله وآياته سوف يكون غاية في النقص فمهما فصلناها وأسهبنا في تفسيرها ، فسنخرج آخر الأمر مقتنعين بأننا لم نحط بها ، وإنما تناولنا منها (بعض الشيء).
والحق أنه لو قدر أن تنكشف للإنسان جميع العلوم الكونية ثم يجلس سكان المعمورة ، وقد هيئت لكل فرد منهم جميع الوسائل في أكمل صورها ، فإن هؤلاء جميعا لن يستطيعوا تدوينها أبدا. .أليس هذا هو مصداق قوله تعالى:
(ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ، والبحر يمده من سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله): وقوله تعالى: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا)(62) ! !
إن كل من أتيحت له الفرصة كي يطالع صفحة من هذا الكون ، سيتعرف مصدقا أنه لا مبالغة في هذه الكلمات الإلهية وإنما هي تعبير بسيط عن الحقائق الموجودة فعلا.
* * *
صدفة أم عمليات حكيمة؟
إن معارضي الدين يسلمون بكل ما طرحناه في الصفحات الماضية من الأنظمة العجيبة والحكمة غير العادية والروح التي تسرى في الكون ، ولكنهم يفسرونها بطريقة أخرى ؛ إنهم عاجزون عن أن يجدوا رمزا أو إشارة لمنظم ومدبر. . فإذا بهم يرون أن كل هذا جاء نتيجة (صدفة محضة).
واستمع إلى قول (هكسلى):
(لو جلست ستة من القردة على آلات كاتبة ، وظلت تضرب على حروفها لملايين السنين فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير! فكذلك كان الكون الموجود الآن نتيجة لعمليات عمياء ، ظلت تدور في (المادة) لبلايين السنين(63)).
إن أي كلام من هذا القبيل (لغو مثير) بكل ما تحويه هذه الكلمة من معان ؛ فإن جميع علومنا تجهل-إلى يوم الناس هذا-أية صدفة أنتجت واقعا عظيما ذا روح عجيبة ، في روعة الكون فنحن نعرف بعض الصدف وما ينشأ عنها من آثار فعندما تهب الرياح تصل (حبوب اللقاح) من وردة حمراء إلى وردة بيضاء ، فتأتى بوردة صفراء. . هذه صدفة لا تفسر قضيتنا إلا تفسيرا جزئيا استثنائيا. فإن وجود الوردة في الأرض بهذا التسلسل ، ثم ارتباطها المدهش مع نظام الكون لا يمكن تفسيره بهبة رياح صدفة. إنها تأتى بوردة صفراء ولكنها لا تأتى بالوردة نفسه! إن الحقيقة الجزئية الاستثنائية التي توجد في مصطلح (قانون الصدفة) باطلة كل البطلان ، إذا ما أردنا تفسير الكون بها.
يقول البروفيسور ايدوين كونكلين:
(إن القول بأن الحياة وجدت نتيجة (حادث اتفاقي) شبيه في مغزاه بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار صدفي يقع في مطبعة(64)).
وقد قيل:إن تفسير الكون بوساطة (قانون الصدفة) ليس (بكلام فارغ). بل هو كما يعتقد السير جيمس جينز ينطبق على (قوانين الصدفة الرياضية المحضة)
Purely Mathematical Laws of Chance (65)
ويقول أحد العلماء الأمريكيين:
(إن نظرية الصدفة ليست افتراضا وإنما هي نظرية رياضية عليا ، وهى تطلق على الأمور التي لا تتوفر في بحثها معلومات قطعية ، وهى تتضمن قوانين صارمة للتمييز بين الباطل والحق ، وللتدقيق في إمكان وقوع حادث من نوع معين وللوصول إلى نتيجة هي معرفة مدى إمكان وقوع ذلك الحادث عن طريق الصدفة (66)).
* * *
ولو افترضنا أن المادة وجدت بنفسها في الكون وافترضنا أيضا أن تجمعها وتفاعلها كان من تلقاء نفسها (ولست أجد أساسا لأقيم عليه هذه الافتراضات) ففي تلك الحال أيضا لن نظفر بتفسير الكون ، فإن (صدفة) أخرى تحول دون طريقنا. . فلسوء حظنا: أن الرياضيات التي تعطينا نكتة (الصدفة) الثمينة هي نفسها التي تنفى أي إمكان رياضي في وجود الكون الحالي بفعل قانون الصدفة.
لقد استطاع العلم الكشف عن عمر الكون وضخامة حجمه ، والعمر والحجم اللذان كشف عنهما العلم الحديث غير كافيين في أي حال من الأحوال ، لتسويغ إيجاد هذا الكون عن قانون الصدفة الرياضي.
ويمكننا أن نفهم شيئا عن قانون الصدفة من المثال التالي:
(لو تناولت عشرة دراهم ، وكتبت عليها الأعداد من1 إلى 10 ، ثم رميتها في جيبك وخلطتها جيدا ثم حاولت أن تخرجها من الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي ، بحيث تلقى كل درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى. . فإمكان أن نتناول الدرهم المكتوب عليه(67) في المحاولة الأولى ه واحد على عشرة ؛ وإمكان أن تتناول الدرهمين (2،1) بالترتيب واحد في المائة وإمكان أن تخرج الدراهم (4،3،2،1) بالترتيب هو واحد في العشرة آلاف. . حتى إن الإمكان في أن تنجح في تناول الدراهم 1إلى 10 بالترتيب واحد في عشرة بلايين من المحاولات! !).
لقد ضرب هذا المثال العالم الأمريكي الشهير (كريسى موريسن) ، ثم استطرد قائلا:
(إن الهدف من إثارة مسألة بسيطة كهذه ، ليس إلا أن نوضح كيف تتعقد (الوقائع) بنسبة كبيرة جدا في مقابل (الصدفة) (68).
* * *
ولنتأمل الآن في أمر هذا الكون فلو كان كل هذا بالصدفة والاتفاق ، فكم من الزمان استغرق تكوينه بناء على قانون الصدفة الرياضي؟
إن الأجسام الحية تتركب من (خلايا حية) وهذه (الخلية) مركب صغير جدا ومعقد غاية التعقيد ، وهى تدرس تحت علم خاص يسمى (علم الخلايا)Cytology. ومن الأجزاء التي تحتوى عليها هذه الخلايا: البروتين وهو مركب كيماوي من خمسة عناصر هي الكربون والهيدروجين والنتروجين والأوكسجين والكبريت. . ويشمل الجزيء البروتيني الواحد أربعين ألفا من ذرات هذه العناصر! !
وفي الكون أكثر من مائة عنصر كيماوي كلها منتشرة في أرجائه ، فأية نسبة في تركيب هذه العناصر يمكن أن تكون في صالح قانون (الصدفة)؟ أيمكن أن تتركب خمسة عناصر-من هذا العدد الكبير-لإيجاد (الجزيء البروتيني) بصدفة واتفاق محض؟ !إننا نستطيع أن نستخرج من قانون الصدفة الرياضي ذلك القدر الهائل من (المادة) الذي سنحتاجه لنحدث فيه الحركة اللازمة على الدوام ؛ كما نستطيع أن نتصور شيئا عن المدة السحيقة التي سوف تستغرقها هذه العملية.
لقد حاول رياضي سويسري شهير هو الأستاذ (تشارلز يوجين جواي) أن يستخرج هذه المدة عن طريق الرياضة. . فانتهى في أبحاثه إلى أن (الإمكان المحض) في وقوع الحادث الاتفاقي-الذي من شأنه أن يؤدى إلى خلق كون ، إذا ما توفرت المادة-هو واحد على 60/10 (أي 10×10 مائة وستين مرة). وبعبارة أخرى:نضيف مائة وستين صفرا إلى جانب عشرة! ! وهو عدد هائل وصفه في اللغة.
إن إمكان حدوث الجزيء البروتيني عن (صدفة) يتطلب مادة يزيد مقدارها بليون مرة عن المادة الموجودة الآن في سائر الكون ، حتى يمكن تحريكها وضخها ، وأما المدة التي يمكن ظهور نتيجة ناجحة لهذه العملية فهي أكثر من 243/10 سنة (69)!
إن جزيء البروتين يتكون من (سلاسل) طويلة من الأحماض الأمينيةAmino-Acids وأخطر ما في هذه العملية هو الطريقة التي تختلط بها هذه السلاسل بعضها مع بعض فإنها لو اجتمعت في صورة غير صحيحة سما قاتلا ، بدل أن تصبح موجدة للحياة.
لقد توصل البروفيسور ج. ب. ليتزG.B.Leathes إلى أنه لا يمكن تجميع هذه السلاسل فيما يقرب من 48/10 صورة وطريقة. وهو يقول: إنه من المستحيل تماما أن تجتمع هذه السلاسل-بمحض الصدفة-في صورة مخصوصة من هذه الصور التي لا حصر لها ، حتى يوجد الجزيء البروتيني الذي يحتوى أربعين ألفا من أجزاء العناصر الخمسة التي سبق ذكرها.
ولابد أن يكون واضحا للقارئ أن القول بالإمكان في قانون الصدفة الرياضي لا يعنى أنه لابد من وقوع الحادث الذي ننتظره ، بعد تمام العمليات السابق ذكرها ، في تلك المدة السحيقة ؛ وإنما معناه أن حدوثه في تلك المدة محتمل لا بالضرورة ، فمن الممكن على الجانب الآخر من المسألة ألا يحدث شيء ما بعد تسلسل العملية إلى الأبد!
* * *
هذا الجزيء البروتيني ذو وجود (كيماوي) لا يتمتع بالحياة إلا عندما يصبح جزءا من الخلية ، فهنا تبدأ الحياة ، وهذا الواقع يطرح أهم سؤال في بحثنا: من أين تأتى الحرارة عندما يندمج الجزيء بالخلية؟ . . . ولا جواب عن هذا السؤال في أسفار المعارضين الملحدين.
إن من الواضح الجلي أن التفسير الذي يزعمه هؤلاء المعارضون ، متسترين وراء قانون الصدفة الرياضي لا ينطبق على الخلية نفسها وإنما على جزء صغير منها هو الجزيء البروتيني وهو ذرة لا يمكن مشاهدتها بأقوى منظار بينما نعيش ، وفي جسد كل فرد منا ما يربو على أكثر من مئات البلايين من هذه الخلايا! !
لقد أعد العالم الفرنسي (الكونت دى نواي) Le Cotme de Nouy بحثا وافيا حول هذا الموضوع وخلاصة البحث:أن مقادير (الوقت ، وكمية المادة ،والفضاء اللانهائي) التي يتطلبها حدوث مثل هذا الإمكان هي أكثر بكثير من المادة والفضاء الموجودين الآن ، وأكثر من الوقت الذي استغرقه نمو الحياة على ظهر الأرض وهو يرى: أن حجم هذه المقادير الذي سنحتاج إليه في عمليتنا لا يمكن تخيله أو تخطيطه في حدود العقل الذي يتمتع به الإنسان المعاصر ، فلأجل وقوع حادث-علي وجه الصدفة-من النوع الذي ندعيه ، سوف نحتاج كونا يسير الضوء في دائرته82/10 سنة ضوئية (أي:82 صفرا إلى جانب عشرة سنين ضوئية! !) وهذا الحجم أكبر بكثير جدا من حجم الضوء الموجود فعلا في كوننا الحالي ؛ فإن ضوء أبعد مجموعة للنجوم في الكون يصل إلينا في بضعة (ملايين) من السنين الضوئية فقط. . وبناءا على هذا ، فإن فكرة أينشتين عن اتساع هذا الكون لا تكفى أبدا لهذه العملية المفترضة.
أما فيما يتعلق بهذه العملية المفترضة نفسها ، فإننا سوف نحرك المادة المفترضة في الكون المفترض ، بسرعة خمسمائة (تريليون) حركة في الثانية الواحدة ، لمدة243/10 بليون سنة (243 صفرا أمام عشرة بلايين) ، حتى يتسنى لنا حدوث إمكان في إيجاد جزيء بروتيني يمنح الحياة.
ويقول (دى نواي) في هذا الصدد:
(لابد ألا ننسى أن الأرض لم توجد إلا منذ بليونين من السنين ن وأن الحياة-في أي صورة من الصور-لم توجد إلا قبل بليون سنة عندما بردت الأرض)(70).
هذا وقد حاول العلماء معرفة عمر الكون نفسه ، وأثبتت الدراسة في هذا الموضوع أن كوننا موجود منذ5.000.000.000.000 سنة. . وهى مدة قصيرة جدا ولا تكفي على أي حال من الأحوال لخلق إمكان ، يوجد فيه الجزيء البروتيني ، بناء على قانون الصدفة الرياضي.
وأما ما يتعلق بأرضنا التي ظهرت عليها الحياة ، فقد عرفنا عمرها بصورة قاطعة ، فهذه الأرض كما يعتقد العلماء جزء من الشمس انفصل عنها نتيجة لصدام عنيف وقع بين الشمس وسيار عملاق آخر ، ومنذ ذلك الزمان أخذ هذا الجزء يدور في الفضاء ، شعلة من نار رهيبة ، ولم يكن من الممكن ظهور الحياة على ظهره حينئذ لشدة الحرارة ، وبعد مرور زمن طويل أخذت الأرض تبرد ثم تجمدت وتماسكت ، حتى ظهر إمكان بدء الحياة على سطحها.
ونستطيع معرفة عمر الكون بشتى الطرق وأحسن طريقة عرفناها لهذه الدراسة ، هي التي توصلنا إليها بعد كشف (العناصر المشعة)Radio-Active Elements فإن الذرات الكهربية تخرج من هذه العناصر بنسبة معلومة بصفة دائمة ؛ وهذا (التحلل) Disintegration يقل الذرات الكهربية في هذه العناصر ، لتصبح تلقائيا عناصر غير مشعة عبر الزمان ، واليورانيوم أحد هذه العناصر المشعة ، وه يتحول إلى معدن (الرصاص) بنسبة معينة نتيجة لتحلل الذرات الكهربية ، وهذه النسبة في الانتشار لا تتغير تحت أي ظروف من أدنى أو أقصى درجات الحرارة أو الضغط ، ولهذا سنكون على صواب لو اعتبرنا أن سرعة تحول اليورانيوم إلى (الرصاص) محددة وثابتة لا تتغير.
إن قطع اليورانيوم توجد في كثير من الهضبات والجبال منذ أن تجمد في شكله الأخير ، عند تجميد الأرض. . وعلى جانب هذا اليورانيوم نجد قطعا من الرصاص ، ولا نستطيع أن ندعى أن كل هذا الرصاص نتج عن تحلل اليورانيوم. والسبب في هذا أن الرصاص الذي يتكون من تحلل اليورانيوم يكون أقل وزنا من الرصاص العادي ، وبناء على هذه القاعدة الثابتة يمكننا أن نجزم بما إذا كانت أية قطعة من الرصاص من اليورانيوم ، أو أنها قطعة رصاص عادى ونحن هنا نستطيع أن نحتسب المدة التي استغرقتها عملية تحلل اليورانيوم بدقة ، فهو يوجد في الجبل من أول يوم تجمد فيه ونستطيع بذلك معرفة مدة تجمد الجبل نفسه!
لقد أثبتت التجارب أنه قد مر ألف وأربعمائة سنة على تجمد تلك الجبال التي تعتبر-علميا- أقدم جبال الأرض ، وقد يظن البعض منا أن عمر الأرض يزيد ضعفا أو ضعفين عن عمر هذه الجبال ولكن التجارب العلمية تنفي بشدة هذه الظنون الشاذة ، ويذهب البروفيسور (سوليفان) إلى أن (المعدل المعقول) لعمر الأرض هو ألفا مليون سنة(71)!
* * *
ولنتأمل الآن ، بعدما تبين لنا أن المادة العادية غير ذات الروح تحتاج إلى بلايين البلايين من السنين ، حتى يتسنى مجرد إمكان لحدوث (جزيء بروتيني) فيها بالصدفة! فكيف إذن جاءت في هذه المدة القصيرة في شكل مليون من أنواع الحيوانات ، وأكثر من 200.000 ألف نوع من النبات؟ وكيف انتشرت هذه الكمية الهائلة على سطح الأرض في كل مكان؟ ثم كيف جاء من خلال هذه الأنواع الحيانية ذلك المخلوق الأعلى الذي نسميه (الإنسان)؟ ولا أدرى كيف نجرؤ على مثل هذه الاعتقادات في حين أننا نعرف جيدا أن نظرية النشوء والارتقاء تقوم على أساس (تغيرات صدفية محضة)؟ ! وأما هذه التغيرات فقد حسبها الرياضي (باتو)Patau وانتهى إلى أن اكتمال (تغير جديد) في جنس ما قد يستغرق مليونا من الأجيال(72):
فلنفكر في أمر (الكلب) الذي يزعمون أنه جد (الحصان) الأعلى ، كم من المدة على قول الرياضي باتو سوف يستغرقها الكلب حتى يصبح حصانا؟ !
وما أصح ما قاله عالم الأعضاء الأمريكي مارلين ب. كريدر:
(إن الإمكان الرياضي في توفر العلل اللازمة للخلق-عن طريق الصدفة- في نسبها الصحيحة هو ما يقرب من (لا شيء)(73).
* * *
لقد أطلت في هذا البحث حتى نتبين مدى سخافة فكرة الخلق بالصدفة وبطلانها ولست-في الحق- أشك في أنه يستحيل وجود الجزيء البروتيني والذرة عن الصدفة كما لا يمكن أن يكون عقلك هذا-الذي يتأمل في أسرار الكون وخفاياه-من ثمار الخلق الصدفي ، مهما بالغنا في افتراضنا عن المدة الطويلة التي استغرقتها عملية المادة في الكون. ونظرية الخلق هذه ليست مستحيلة في ضوء قانون الصدفة الرياضي فحسب وإنما هي لا تتمتع بأي وزن منطقي في نفس الوقت.
وأي كلام من هذا القبيل سخيف ومليء بالصلافة. . ومثاله كمن يزعم أن سقوط كوب مملوء بالماء أو بالقهوة سوف يرسم خريطة العالم على الأرض! ! لا مانع من أن أسأل هذا الرجل: من أين جاء بهذا الفرش الأرضي والجاذبية والماء والكوب حتى يقع هذا الاتفاق الغريب؟ !
* * *
ولقد ولغ عالم البيولوجيا (هيكل)Haeckel في زعمه حين قال:
(إيتونى بالهواء وبالماء وبالأجزاء الكيماوية وبالوقت وسأخلق الإنسان). ولكن (هيكل) نسى أو تجاهل في هذه القالة: أنه بتقريره احتياجه إلى المادة والأحوال المادية ينفى زعمه من تلقاء نفسه!
يقول الأستاذ (كريسى موريسن)(74) في هذا الصدد:
(إن هيكل يتجاهل في دعواه: الجينات الوراثية ومسألة الحياة نفسها فإن أول شيء سيحتاج إليه عند خلق الإنسان ، هو الذرات التي لا سبيل إلى مشاهدتها ، ثم سيخلق (الجينات) ، أو حملة الاستعدادات الوراثية بعد ترتيب هذه الذرات ، حتى يعطيها ثوب الحياة. . ولكن إمكان الخلق في هذه المحولة بعد كل هذا لا يعدو واحدا على عدة بلايين ، ولو افترضنا أن (هيكل) نجح في محاولته فإنه لن يسميها (صدفة) ، بل هو حاكمه ومديره ومدبره ، بل سوف يقررها ويعدها نتيجة لعبقريته) (75).
* * *
ولنختم هذا البحث بقول عالم الطبيعة الأمريكي (جورج إيرل ديفيس):
(لو كان يمكن للكون أن يخلق نفسه فإن معنى ذلك أنه يتمتع بأوصاف الخالق ، وفي هذه الحال سنضطر أن نؤمن الكون هو الإله. . وهكذا ننتهي إلى التسليم بوجود (الإله) ؛ ولكن إلهنا هذا سوف يكون عجيبا: إلها غيبيا وماديا في آن واحد! ! إننى أفضل حاكمه ومديره ومدبره ، بدلا من أن أتبنى مثل هذه الخزعبلات(76)).
دليل الآخرة
من أهم الحقائق التي يدعونا الدين إلي الإيمان بها: فكرة الآخرة. والمراد بها: أن هناك عالما غير عالمنا الحاضر ؛ وسوف نعيش في ذلك العالم خالدين ؛ وأن عالمنا هذا هو مكان للاختبار والابتلاء ، وجد فيه الإنسان لأجل معلوم ؛ وأن الله سوف ينهي هذا العالم حين يحين أجله لبناء العالم الآخر علي طراز جديد ؛ وأن الناس سوف يبعثون مرة أخري ؛ وسوف تعرض أعمالهم-خيرا أو شرا- علي محكمة الله الذي يجزي كل إنسان بما عمل في الحياة الدنيا.
أهذه النظرية صحيحة؟ أم هي باطلة؟ وهل هناك إمكان لهذه الآخرة؟ . . سوف نعرض هنا بعض جوانب القضية.
* * *
أولا: إمكان الآخرة:
ليكن الجانب الأول من هذا العرض هو البحث عن (إمكان) وقوع الآخرة. فهل هنالك وقائع وإشارات تصدق هذه الدعوى؟
إن فكرة (الآخرة) تقتضي-أول ما تقتضي- ألا يكون الإنسان والكون في شكلهما الحالي أبديين ، وقد علمنا في الصفحات الماضية-بما لا يدع مجالا للشك- أن أبدية الكون والإنسان مستحيلة وأيقنا يقينا لا يتزعزع ، بأن الإنسان يموت وأن الكون سينتهي طبقا لقانون (الطاقة المتاحة). ولست أدري إذا ما كان هنا طريق للنجاة من هذه النهاية المروعة.
* * *
أ-مسألة الموت:
إن الذين لا يؤمنون بالعالم الثاني-الآخرة- يحاولون بدافع الغريزة أن يجعلوا من هذا الكون عالما أبديا لأفراحهم ، ولذلك بحثوا كثيرا عن أسباب (الموت) حتى يتمكنوا من الحيلولة دون وقوع هذه الأسباب من أجل تخليد الحياة ، ولكنهم أخفقوا إخفاقا ذريعا ، وكلما بحثوا في هذا الموضوع ، رجع إليهم بحثهم برسالة جديدة عن حتمية الموت ، وأنه لا مناص منه.
(لماذا الموت؟). . هناك ما يقرب من مائتي إجابة عن هذا السؤال الخطير الذي كثيرا ما يطرح في المجالس العلمية ، منها:
(فقدان الجسم لفاعليته) ، (انتهاء عملية الأجزاء التركيبية) ، (تجميد الأنسجة العصبية) ، (حلول المواد الزلالية القليلة الحركة ، محل الكثيرة الحركة منها) ، (ضعف الأنسجة الرابطة) ، (انتشار سموم (بكتريا) الأمعاء في الجسم). . وما إلي ذلك من الإجابات التي تتردد كثيرا حول ظاهرة الموت.
إن القول بفقدان الجسم لفاعليته جذاب للعقل. . فإن الآلات الحديدية والأحذية والأقمشة كلها تفقد فاعليتها بعد أجل محدود ، فأجسامنا أيضا تبلي وتفقد فاعليتها كالجلود التي نلبسها في موسم الشتاء. ولكن العلم الحديث لا يؤيدنا لأن المشاهدة العلمية للجسم الإنساني تؤكد: أنه ليس كالجلود الحيوانية ، والآلات الحديدية ، وليس كالجبال. . وأن أقرب شيء يمكن تشبيهه به هو ذلك (النهر) الذي لا يزال يجري منذ آلاف السنين علي ظهر الأرض فمن ذا الذي يستطيع القول بأن النهر الجاري يبلي ويهن ويعجز؟ ! بناء علي هذا الأساس يعتقد الدكتور (لنس بالنج(77)) أن الإنسان أبدي إلي حد كبير نظريا ؛ فإن خلايا جسمه آلات تقوم بإصلاح ما فيه من الأمراض ومعالجتها تلقائيا! وبرغم ذلك فإن الإنسان يعجز ويموت ؛ ولا تزال علل هذه الظاهرة أسرارا تحير العلماء.
إن جسمنا هذا في تجدد دائم ، وإن المواد الزلالية التي توجد في خلايا دمائنا ، تتلف كذلك ثم تتجدد ؛ ومثلها جميع خلايا الجسم تموت وتحل مكانها خلايا جديدة ؛ اللهم إلا الخلايا العصبية. وتفيد البحوث العلمية إن دم الإنسان يتجدد تجددا كليا خلال ما يقرب من أربع سنين ، كما تتغير جميع ذرات الجسم الإنساني في بضع سنين. ونخرج من هذا بأن الجسم الإنساني ليس كهيكل ، وإنما هو كالنهر الجاري ؛ أي أنه (عمل مستمر). ومن ثم تبطل جميع النظريات القائلة بأن علة الموت هي وهن الجسم وفقده لقوته ، فإن الأشياء التي فسدت أو تسممت من الجسم أيام الطفولة أو الشباب قد خرجت من الجسم منذ زمن طويل ، ولا معني لأن نجعلها سبب الموت ، فسبب الموت موجود في مكان آخر ، وليس في الأمعاء والأنسجة البدنية والقلب.
ويدعي بعض العلماء أن الأنسجة العصبية هي سبب الموت ، لأنها تبقي في الجسم إلي آخر الحياة ولا تتجدد. ولو صح هذا التفسير القائل بأن النظام العصبي هو نقطة الضعف في الجسم الإنساني ، فمن الممكن أن نزعم أن أي جس خال من (النظام العصبي) لابد أن يحيا عمرا أطول من الأجسام ذات النظام العصبي ، ولكن المشاهدة العلمية لا تؤيدنا ، فإن هذا النظام لا يوجد مثلا في الأشجار ، وبعضها يعيش لأطول مدة ، ولكن شجرة القمح التي لا يوجد بها هذا النظام العصبي لا تعيش أكثر من سنة ، وليس في كائن (الأميبا) جهاز عصبي ، وهي مع ذلك لا تبقي علي قيد الحياة أكثر من نصف ساعة ، ومقتضي هذا التفسير أيضا أن تلك الحيوانات التي تعد من (نسل أعلي) ، والتي تتمتع بنظام عصبي أكمل وأجود لابد أن تعيش مدة أطول مت تلك التي هي أحقر نسلا وأضعف نظاما. ولكن الحقائق لا تؤيدنا في هذا أيضا ؛ فإن السلحفاة والتمساح وسمكة (باتيك) أطول عمرا من أي حيوان آخر ، وكلها من النوع الثاني-حقير النسل وضعيف النظام.
* * *
لقد أخفقت تماما تلك البحوث التي استهدفت أن تجعل من الموت أمرا غير يقيني يمكن ألا يقع فبقي الاحتمال الذي أكدته الأزمان ، وهو أن يموت الإنسان في أي عمر ، وفي أي زمن ، ولم نستطع العثور علي أي إمكان يمنع الموت رغم جميع الجهود.
لقد بحث الدكتور (الكسيس كيرل) هذه المشكلة في مقال طويل بعنوان (الزمن الداخلي) فذكر الجهود المخفقة التي بذلت في هذا الصدد ، ثم قال:
(إن الإنسان لن يسأم أبدا من البحث عن (الخلود) والسعي وراءه ، مع أنه لن يظفر به إلي الأبد ، فتركيبه الجسماني يخضع لقوانين معينة ، إنه يستطيع إن يوقف الزمن (الفسيولوجي) لأعضاء الجسد حتى يؤخر الموت لفترة قصيرة ، ولكنه لن يتغلب علي الموت أبدا(78)).
(ب) ظواهر وأمثلة طبيعية:
في ضوء هذه الوقائع لم تعد مسألة نهاية العالم غير مفهومة ، فنحن علي علم بالقيامات الصغرى التي تقع علي سطح الأرض ، وهي التي ستحدث مرة أخري علي نطاق أوسع ، حتى تشمل الأرض المأهولة كلها.
إن الظاهرة الأولي التي ينذر بإمكان القيامة هي الزلازل. . . فبطن الأرض يحتوي علي مادة شديدة الحرارة ، نشاهدها عندما ينفجر البركان وهذه المادة تؤثر علي الأرض بشتى الطرق ، فمنها ما تصدر عنه أصوات مروعة رهيبة وما نحس به من الهزات الأرضية التي نسميها (الزلازل ) إنها لا تزال كلمة رهيبة في حياة الإنسان المعاصر ، رغم تقدم العلوم والتكنولوجيا كما كانت رهيبة في حياة الإنسان القديم. هذه الزلازل هي حملة الطبيعة ضد الإنسان الذي لا يملك إزاءها شيئا ، فالخيار كله في يد الفريق الأول. عن الإنسان لا يملك شيئا يقاوم به الزلازل فهي نذير يذكره دائما بأنه يعيش فوق مادة حمراء ملتهبة جهنمية ، لا يفصله عنها سوي قشرة جبلية رقيقة ، لا يزيد سمكها عن خمسين كيلو مترا وهذه القشرة ليست ، بالنسبة إلي الكرة الأرضية ، إلا بمثابة القشرة من ثمرة التفاح.
يقول عالم الجغرافيا (جورج جاموف): (إن هناك جهنم طبيعية تلتهب تحت بحارنا الزرقاء ومدننا الحضارية المكتظة بالسكان ، وبكلمة أخري: نحن واقفون علي ظهر لغم (ديناميت) عظيم ، ومن الممكن أن ينفجر في أي وقت ليدمر النظام الأرضي بأكمله(79)).
وهذه الزلازل تجتاح جميع نواحي الأرض ولا تخلو الجرائد أي صباح من أخبارها ، ولكن يكثر وقوعها في الأماكن التي توجد بها البراكين لاعتبارات جغرافية. وأقدم زلزال رهيب سجله التاريخ هو زلزال إقليم (شنسي) الصيني الذي وقع عام 1556م. ولقي أكثر من 8.000.000 نسمة مصرعهم في هذه الكارثة. وقد وقع زلزال في (لشبونة) عاصمة البرتغال عام 1755م ، فدمر المدينة كلها ، وأباد ثلاثين ألفا من الناس في ست دقائق. وقد قيل: إن هذا الزلزال هز ربع أروبا. ومن هذا النوع من الزلازل ما وقع في ولاية (آسام (الهندية عام 1897م ، وهو يعد من الزلازل الخمسة الكبرى في التاريخ فقد أحدث دمارا وخرابا عظيمين في منطقة شمال الهند ، كما غير اتجاه النهر العملاق (برهام بوترا) ، وطفرت هضبة (إيفرست) بجبال الهملايا ، فارتفعت مائة قدم!
إن هذه الزلازل (قيامة) علي نطاق غير واسع. . . فعندما تنفجر الأرض بصوتها المخيف ، ودويها الرهيب ، وعندما تتساقط الجدران ، وسقف الأبنية المسلحة الفخمة ، حتى كأنها أوراق (الكوتشينة) ، وعندما يصبح أعلي الأرض أسفلها ، وأسفلها أعلاها ، وعندما تحتل الخرائب الموحشة محل المدن العامرة الكبرى في ثوان معدودة ، وعندما تسير طوابين النعوش ، وتتراكم علي ساحات المدن وطرقها تراكم الأسماك علي ساحل البحر- فتلكم هي قيامة الزلزال.
وفي تلك اللحظة يشعر الإنسان بعجزه أمام قوي الطبيعة ، فإن الزلازل لا تقرع أبواب المدن إلا بغتة ، دون سابق إذن أو إنذار ، والبلية كل البلية في أن الإنسان لا يستطيع أن يتنبأ بمكان الزلازل ، ولا بموعد وقوعها ، وهي في نفسها تنبؤ عن قيامة كبري ، سوف تفجؤنا غداة يوم علي غرة من ، إن هذه الزلازل دليل ناطق بأن خالق الأرض قادر علي تدميرها ، كما يشاء.
وهذه هي حال الفضاء الخارجي ؛ فالكون فضاء لا حدود له ، تدور فيه نيران هائلة لا حصر لها ، هي (السيارات والنجوم) ، مثالها كملايين الخذاريف(80) التي تدور علي سطح معين بأقصى سرعة يمكن تخيلها. . وهذا الدوران يمكن أن يتحول في أي يوم إلي صدام عظيم لا يمكن تصوره. وفي تلك اللحظة الرهيبة يكون ما في الكون أشبه بآلاف من القاذفات النفاثة المليئة بالقنابل النووية ، وهي تواصل رحلتها في الجو ، ثم تصطدم كلها مرة واحدة! ! إن اصطدام الأجرام السماوية ليس بغريب مطلقا بل الغريب حقا هو عدم وقوع هذا الاصطدام ؛ فدراسة علم الفلك تؤكد إمكان اصطدام الأجرام السماوية ، والحديث عن وجود النظام الشمسي يدور حول وقوع صدام كبير بين بعض الأجرام السماوية قديما ؛ فإذا استطعنا أن نتصور هذا التصادم علي نطاق أوسع لاستطعنا أن نفهم جيدا ذلك (الإمكان) الذي نحن بصدده. . فهذا الواقع هو بعينه ما نسميه. . (القيامة).
إن فكرة (الآخرة) التي تقرر أن نظام الكون الموجود حاليا سوف يدمر يوما ، لا تعني سوي أن واقع الكون الذي نشاهده في صورة صغيرة أولية ، سوف يتجلى يوما في صورة نهائية كبري. فالقيامة حقيقة معلومة في أعماقنا ، فنحن اليوم نعرفها في حد (الإمكان) ولسوف نلقاه غدا في صورة الواقع.
* * *
(ج) الحياة بعد الموت:
المسألة الثانية في هذا البحث هي مسألة الحياة بعد الموت.
(هل هناك حياة بعد الموت ؟ ؟) هذا السؤال يتردد دائما في العقل الحديث ، ثم يستطرد قائلا: (لا. . . لا حياة بعد الموت ، لأن الحياة التي أعرفها لا توجد إلا في ظروف معينة من تركيب العناصر المادية. وهذا التركيب الكيماوي لا يوجد بعد الموت ، إذن فلا حياة بعد الموت).
ويعتقد (ت. ر. مايلز) بأن: (البعث بعد الموت حقيقة تمثيلية ، وليس بحقيقة لفظية). ثم يضيف قائلا:
(إنها قضية قوية عندي أن الإنسان يبقي حيا بعد الموت ، وهذه القضية من الممكن-لفظيا- أن تكون حقيقة ، وهي قابلة لاختبار صحتها أو بطلانها بالتجربة ، ولكن المسألة الرئيسية في طريقنا هي أننا لا نملك وسيلة لمعرفة الإجابة القطعية عن هذا السؤال إلا بعد الموت ، ولذلك يمكننا أن نقيس).
وحيث إن قياسه لا يصدق هذه القضية فهي ليست بحقيقة لفظية. وقياسه كما يلي:
(بناء علي علم الأعصاب(Neurology) لا يمكن معرفة العالم الخارجي والاتصال به ، إلا عندما يعمل الذهن الإنساني في حالته العادية ، وأما بعد الموت فهذا الإدراك مستحيل ، نظرا إلي بعثرة تركيب النظام الذهني (81)).
ولكن هناك قياسات أخري أقوي من هذا القياس ؛ وهي تؤكد أن بعثرة الذرات المادية في الجسم الإنساني لا تقضي علي الحياة ؛ فإن (الحياة) شيء آخر ،وهي مستقلة بذاتها باقية بعد فناء الذرات المادية وتغيرها.
ومن المعلوم أن الجسم الإنساني يتألف من أجزاء (ذرات) ، تسمي (الخلايا) ، ومفردها: خلية(Cell). وهي ذرات صغيرة جدا ومعقدة ، يزيد عددها في الجسم الإنساني العادي علي 260.000.000.000.000.000 خلية. ويبدو أن هذه الخلايا مثل الطوب الصغير ، ينبني منه هيكل أجسامنا. ولكن الفرق بين طوب أجسامنا والطوب الطيني شاسع جدا . . فطوب الطين الذي يستخدم في العمارات يبقي كما هو- نفس الطوب الذي صنع في المصنع ، واستخدم في البناء للمرة الأولي. . بينما يتغير طوب هياكلنا في كل دقيقة ، بل في كل ثانية ، إن خلايا أجسامنا تنقص بسرعة ، كالآلات التي تتآكل باحتكاكها واستهلاكها ، ولكن هذا النقص يعوضه الغذاء ، فهو يهيئ للجسم قوالب الطوب التي يحتاج إليها بعد نقص خلاياه واستهلاكها (82). فالجسم الإنساني يغير نفسه بنفسه بصفة مستمرة ، وهو كالنهر الجاري المملوء دائما بالمياه ، لا يمكن أن نجد به نفس الماء الذي كان يجري فيه منذ برهة ، لأنه لا يستقر فالنهر يغير نفسه بنفسه دائما ، ومع ذلك فهو نفس النهر الذي وجد منذ زمن طويل ولكن الماء لا يبقي ، بل يتغير.
وجسمنا مثل النهر الجاري ، يخضع لعملية مستمرة حني إنه يأتي وقت لا تبقي فيه أية خلية قديمة في الجسم ، لأن الخلايا أخذت مكانها. هذه العملية تتكرر في الطفولة والشباب بسرعة ، ثم تستمر بهدوء ملحوظ في الكهولة. ولو حسبنا معدل التجدد في هذه العملية فسوف نخرج بأنها تحدث مرة كل عشر سنين. إن عملية فناء الجسم المادي الظاهري تستمر ، ولكن الإنسان في الداخل لا يتغير ، بل يبقي كما كان علمه وعاداته وحافظته وأمانيه وأفكاره ، تبقي كلها كما كانت. إنه يشعر في جميع مراحل حياته بأنه هو (الإنسان السابق) ، الذي وجد منذ عشرات السنين ولكنه لا يحس بأن شيئا من أعضائه قد تغير ، ابتداء من أظافر رجليه حتى شعر رأسه.
ولو كان الإنسان يفني الجسم ، لكان لازما أن يتأثر علي الأقل بفناء الخلايا وتغيرها الكامل ولكننا نعرف جيدا أن هذا لا يحدث ؛ وهذا الواقع يؤكد أن (الإنسان) أو (الحياة الإنسانية) شيء آخر غير الجسم ، وهي باقية رغم تغير الجسم وفنائه ، وهو كنهر مستمر فيه سفر الخلايا بصفة دائمة! وهذا هو الأمر الذي دعا عالما أن يصف الإنسان: بشيء مستقل بذاته وباق غير متغير ، رغم التغيرات المتسلسلة. فهو يعتقد:
(أن الشخصية هي عدم التغير في عالم التغيرات)-(Personality-is Changeless in Change)
ولو كان الموت فناء (للإنسان) ، فمن الممكن أن نقول- بعد كل مرحلة من مراحل حدوث هذا التغير الكيماوي الذي يجري في الجسم- إن الإنسان قد مات ، وإنه يعيش حياة أخري جديدة بعد موته! ومعناه أن الرجل الذي أراه في الخمسين من عمره ، وهو يمشي في الشارع علي رجليه ، قد مات خمس مرات في هذه الحياة القصيرة ؛ فإذا لم يمت هذا الإنسان بعد فناء أجزاء جسمه المادية خمس مرات ، فكيف أستطيع أن أعتقد بأنه مات في المرة السادسة علي وجه اليقين؟ ولا سبيل له الآن إلي الحياة؟
إن بعض الناس لن يسلموا بهذا الاستدلال ، وسيقولون: إن العقل ، أو الوجود الداخلي الذي نسميه (إنسانا) ليس بشيء آخر ، ولم يوجد إلا نتيجة علاقة الجسم بالعالم الخارجي ، وإن الأفكار والأماني لا توجد خلال العمل المادي إلا كالحرارة التي توجد نتيجة احتكاك قطعتين من حديد!
إن الفلسفة الحديثة تنكر(الروح) بشدة ، ويعتقد السير جيمز: أن (الشعور) لا يوجد كوحدةEntity، وإنما هو وظيفة Function ، وتفاعل وتنسيق Process. . وقد أصر الكثيرون من فلاسفتنا المحدثين علي أن (الشعور) في ذاته ليس إلا التفاعل والرد العصبي لما يحدث من حركة ونشاط في العالم الخارجي. وبناء علي هذه النظرية لا مجال للتساؤل عن إمكان الحياة بعد الموت ، نظرا لتحلل النظام الجسماني ، ولأن المركز العصبي في الجسم لم يعد له وجود ، وهو الذي كان يتفاعل وينسق مع العالم الجسماني الخارجي ؛ وهم يعتقدون بناءا علي هذا أن نظرية الحياة بعد الموت أصبحت غير ذات أساس عقلي أو واقعي.
سوف أقول: إنه لو كانت هذه هي حقيقة الإنسان فلنجرب أن نخلق إنسانا حيا ذا شعور ن ونحن-اليوم- نعرف بكل وضوح جميع العناصر التي يتألف منها جسم الإنسان ، وهذه العناصر توجد في الأرض وفي الفضاء الخارجي ، بحيث يمكننا الحصول عليها ، وقد علمنا دقائق بناء النظام الجسماني ، وعرفنا هيكله وأنسجته ، ولدينا فنانون مهرة يستطيعون أن يصنعوا أجسامنا كجسم الإنسان ، بكل مواصفاتها ، فلنجرب-لو كان معارضوا الروح يصرون علي حقيقة مبدئهم- ولنصنع مئات من أمثال هذه الأجسام ، ولنضعها في شتي الميادين في بقعة الأرض الفسيحة ، ثم لننتظر ذلك الوقت الذي تمشي فيه هذه الأجسام وتتكلم وتأكل (بناء علي تأثيرات العالم الخارجي)! ؟
* * *
فهذا عن إمكان بقاء الحياة بعد الموت.
ثانيا : ضرورة الآخرة:
لنفكر الآن في الأسباب التي أقام الدين عليها دعوته إلي الإيمان بهذه النظرية: إن الحياة كما نتصور ليست (غدوا ورواحا) ، كما يراها الفيلسوف الألماني (نيتشه) ، والتي تمتلئ وتخلو كالساعة ، ولا هدف لها أكثر من ذلك. . إن الحياة (الآخرة) ذات هدف عظيم هو المجازاة علي أعمال الدنيا ، خيرا أو شرا. وهذا الجزء من نظرية الآخرة يكاد يتضح جليا حين نعلم أن أعمال كل إنسان تحفظ وتسجل بصفة دائمة ، وبغير توقف. وللإنسان ثلاثة أبعاد ، يعرف من خلالها ، هي: نيته ، وقوله ، وعمله. وهذه الأبعاد الثلاثة تسجل بأكملها. فكل حرف يخرج عن لساننا ، وكل عمل يصدر عن عضو من أعضائنا-يسجل في الأثير (الفضاء) ؛ ويمكن عرضه في أي وقت من الأوقات بكل تفاصيله ، لنعرف- إذا شئنا- كل ما قاله أو فعله أي إنسان في هذه الحياة الدنيا ، من خير أو شر.
إن الأفكار تخطر علي بالنا ، وسرعان ما ننساها ، ويبدو لنا أنها انتهت ، فلم يعد لها وجود ولكنا ، بعد فترة طويلة ، نراها رؤى خلال النوم ، أو نذهب نتكلم عنها في حالات الهستريا أو الجنون ، دون أن ندري شيئا مما نقول. وهذه الوقائع تثبت قطعيا أن العقل أو الحافظة ليست تلك التي نشعر ونحس بها فحسب ، وإنما هناك أطراف أخري من هذه الحافظة لا نشعر بها ، وهي ذات وجود مستقل ، وذات كيان قائم بنفسه.
ولقد أثبتت التجارب العلمية أن جميع أفكارنا تحفظ في شكلها الكامل ، ولسنا قادرين علي محوها أبدا ، وأثبتت هذه التجارب أيضا أن الشخصية الإنسانية لا تنحصر فيما نسميه (الشعور) ، بل هناك أجزاء أخري من الشخصية الإنسانية تبقي وراء الشعور ، يسميها فرويد: (ما تحت الشعور) ، أو (اللاشعور). وهذه الأجزاء تشكل جانبا كبيرا من شخصيتنا ، بل هي الجانب الأكبر منها ؛ ومثلها كمثل جبل من الجليد في أعالي البحار ، أجزاؤه الثمانية مسكنة تحت الماء ، علي حين يطفو منه إلا الجزء التاسع. وتلك هي ما نسميه: (تحت الشعور) ، الذي يسجل ويحفظ كل ما نفكر فيه ، أو ننتويه.
يقول (فرويد) في محاضرته الحادية والثلاثين:
(إن قوانين المنطق ، بل أصول الأضداد أيضا ، لا تحول دون عمل (اللاشعور)I D وإن الأماني المتناقضة موجودة فيه جنبا إلي جنب ، دون أن تقتضي واحدة منها علي الأخرى ، ولا شيء في اللاشعور يشبه أن يكون (رفضا) لشيء من هذه المتناقضات. إننا نتحير لما نشاهده من أن اللاشعور يبطل رأي فلاسفتنا القائلين بأن جميع أفعالنا العقلية الشعورية تتم في زمن محدد ، ولكن لا شيء في اللاشعور يطابق الفكر الزمني ، ولا يوجد فيه أي رمز لمضي الوقت وسريانه ، وهي حقيقة محيرة. ولم يحاول الفلاسفة أن يتأملوا حقيقة ، هي أن مضي الزمن لا يحدث أي تغيير في العمل الذهني ؛ إن الدوافع الحبيسة (Conative impulses) التي لم تخرج قط عن اللاشعور ، وحتى التأملات الخيالية التي دفنت في اللاشعور-تكون أزلية في الحقيقة والواقع ، وتبقي محفوظة لعشرات السنين وكأنها لم تحدث إلا بالأمس (83)).
وقد سلم علماء النفس بهذه النظرية بصفة عامة اليوم ، ومعناها أن كل ما يخطر علي بال الإنسان من الخير والشر ، ينقش في صفحة اللاشعور ، فلا يزول إلي الأبد ، ولا يؤثر فيه تغير الزمان وتقلب الحدثان ، ويحدث هذا علي رغم الإرادة الإنسانية-طوعا أو كرها.
ولم يستطع (فرويد) أن يدرك ما يكمن خلف هذه العملية من أسباب وعلل ، وأية خدمة تؤديها في مصنع الكون؟ ولهذا نراه يدعو الفلاسفة إلي التفكير والتأمل. ولكنا لو قارنا هذا الواقع مقرونا إلي نظرية الآخرة لاستطعنا أن نصل إلي حقيقتها بسرعة ، إن هذا الواقع يؤكد بكل صراحة إمكان وجود سجل كامل لأعمال الإنسان في حيازته ، عندما يبدأ حياته الأخرى ، فإن وجوده نفسه سوف يشهد علي الأعمال والنيات التي عاشها:
(ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد(84).
* * *
(أ) مسألة القول:
ولنتناول هنا مسألة (القول): إن نظرية الآخرة تقول بأن الإنسان مسئول عن (أقواله) ، فجميع ما نلفظه من كلام ، حسنا كان أو قبيحا ، حمدا أو سخطا ؛ وسواء استعملنا اللسان في إبلاغ رسالة الحق ، أو استعملناه في إبلاغ رسالة الشيطان ، كل ذلك يحفظ في سجل كامل: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد(85)). وهذا السجل سوف يعرض أمام محكمة ليتم حساب الإنسان.
وإمكان وقوع هذا لا ينافي العلم الحديث ، فنحن نعرف قطعا أن أحدا عندما يحرك لسانه ليتكلم ، يحرك بالتالي موجات في الهواء ، كالتي توجد في الماء الساكن عندما نرمي فيه بقطعة من الحجر. . إنك لو وضعت جرسا كهر بائيا في زجاج محكم الإغلاق من كل جانب ، ثم تضغط عليه ، فلن تسمع صوته ، رغم أن الجرس علي مرأى منك. . لأنه لا يرسل الموجات إلي الخارج ، فهو مكتوم داخل الزجاج ، وهذه الموجات في الظروف العادية تصطدم بطبلة الأذن ، التي تقوم آليا بإرسال هذه الموجات إلي العقل ، فما نفهمه من المعني ، يسمي (سماعا!)
ولقد ثبت قطعيا أن هذه الموجات تبقي كما هي في (الأثير) إلي الأبد ،بعد حدوثها للمرة الأولي ، ومن الممكن سماعها مرة أخري. ولكن علمنا الحديث عاجز حتى الآن عن إعادة هذه الأصوات ، أو بعبارة أصح: عن أن يضبط هذه الموجات مرة أخري ،مع أنها لا تزال تتحرك في الفضاء من زمن بعيد. ولم يبد العلماء اهتماما خاصا بهذا المجال حتى الآن ، بعد أن سلموا-نظريا- بإمكان إيجاد آلة لالتقاط أصوات الزمن الغابر.كما يلتقط المذياع الأصوات التي تذيعها محطات الإرسال. علي أن المسألة الكبرى التي نواجهها في هذا الصدد ، ليست هي التقاط الأصوات القديمة ، وإنما التمييز بين الأصوات الكثيرة-الهائلة الكثرة-حتي نتمكن من سماع كل صوت علي حدة. . وهذه هي مسألة الإذاعة التي وصلنا فيها إلي حل ؛ فإن آلاف المحطات الإذاعية في العالم تذيع برامج كثيرة ليل نهار ، وتمر موجات هذه البرامج في الفضاء ، بسرعة 186.000 ميلا في الثانية. وكان من المعقول جدا عندما نفتح المذياع أن نسمع خليطا هائلا من الأصوات لا نفهم منه شيئا ، ولكن هذا لا يحدث ، لأن جميع محطات الإذاعة ترسل برامجها علي موجات يختلف طولها ، فمنها ما يرسل برامجه علي موجات طويلة ؛ ومنها ما يرسل موجات قصيرة ، ومتوسطة. وهكذا تمر هذه البرامج في الفضاء بموجات مختلفة طولا ، فتستطيع أن تسمع أية موجة من المذياع ، بمجرد أن تدير عقربه إلي المكان المطلوب.
إن علمائنا لم ينجحوا في اختراع آلة تفرق بين أصوات الزمن القديم ، ولولا ذلك لكنا قد سمعنا تاريخ كل عصر وزمان بأصواته. وبناء علي هذا يثبت إمكان سماع الأصوات القديمة في المستقبل ، فيما لو نجحنا في اختراع الآلة المطلوبة ؛ ومن ثم لا تبقي نظرية الآخرة بعيدة عن القياس ، وهي القائلة بأن كل ما ينطق به الإنسان يسجل ، وهو محاسب عليه يوم الحساب.
وربما كان قياسا مع الفارق الكبير أن نذكر هنا ما حدث عندما كان الدكتور مصدق رئيس وزراء إيران الأسبق مسجونا أثناء محاكمته عام 1953 ، فقد ركبت في غرفته آلة للتسجيل تتحرك آليا ، وسجلت هذه الآلة كل ما نطق به الدكتور مصدق في غرفته ، وقد عرضوا أشرطة التسجيل أمام المحكمة ، شهادة عليه. . وهو نموذج لما يمكن أن يحدث في الآخرة.
إن مناقشتنا لجوانب المسألة لا تنفي وجود ملائكة لله-أو بلفظ آخر-وجود (مسجلين) غير مرئيين ، ينقشون علي صفحة الفضاء كل ما ننطق به من الكلام ، وهو ما يصدق قول الله سبحانه: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
* * *
(ب) مسألة العمل:
ولننظر الآن في مسألة (العمل): ومعلوماتنا في هذا الصدد تصدق بصورة مدهشة إمكان حدوث الآخرة.
فالعلم الحديث يؤكد إيمانه بأن جميع أعمالنا-سواء أباشرناها في الضوء ، أم في الظلام ، فرادي ، أم مع الناس- كل هذه الأعمال موجودة في الفضاء في حالة الصور ، ومن الممكن في أية لحظة تجميع هذه الصور ، حتى نعرف كل ما جاء به إنسان من أعمال الخير والشر طيلة حياته ؛ فقد أثبتت البحوث العلمية أن كل شيء-حدث في الظلام أو في النور ، جامدا كان أو متحركا- تصدر عنه (حرارة) بصفة دائمة ، في كل مكان ، وفي كل حال ، وهذه الحرارة تعكس الأشكال وأبعادها تماما ، كالأصوات التي تكون عكسا كاملا للموجات التي يحركها اللسان ، وقد تم اختراع آلات دقيقة لتصوير الموجات الحرارية التي تخرج عن أي كائن ، وبالتالي تعطي هذه الآلة صورة فوتوغرافية كاملة للكائن حينما خرجت منه الموجات الحرارية (Heat Waves). ومثاله أنني أكتب الآن في مكتبتي ، وسوف أغادرها بعد ساعة ، ولكن الموجات التي خرجت من جسدي أثناء وجودي ههنا ،ستبقي دائما ، ويمكن الحصول علي تسجيل كامل لجلستي في المكتبة في أي وقت بساطة تلك الآلة ، غير أن الآلات التي تم اختراعها إلي الآن ، لا تستطيع تصوير الموجات الحرارية إلا خلال ساعات قليلة من وقوع الحادث. أما الموجات القديمة فلا تستطيع هذه الآلة تصويرها لضعفها.
وتستعمل في هذه الآلة (أشعة إنفرارد) التي تصور في الظلام والضوء ، علي حد سواء. ولقد بدأ العلماء في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية استغلال هذه الآلة في تحقيقاتهم ، وذات ليلة حلقت طائرة مجهولة في سماء نيويورك ، فصوروا الموجات الحرارية لفضاء نيويورك بهذه الآلة ، وأدي ذلك إلي معرفة طراز الطائرة ونوعها(86). . ولقد أطلق علي هذه الآلة اسم: (آلة تصوير الحرارة)Evaporagraph. ونشرت جريدة هندوستان تايمس الهندية تعليقا بمناسبة هذا الاختراع ، تقول: (إننا بفضل هذه الآلة سوف نستطيع أن نشاهد تاريخنا السينما ، ومن الممكن أن تنتهي هذه العملية إلي كشوف عجيبة ، تغير أفكارنا عن التاريخ من جذورها. .)
وإنني أعتبر هذا الاختراع عجيبا كل العجب ، فمعناه أن حياة كل منا تصور علي مستوي عالمي ، كما نسجل آلات التصوير الأوتوماتيكية السريعة جميع تحركات الممثلين السينمائيين. إنك لو صفعت فقيرا ، أو حملت عبئا عن أحد الغرباء ، أو شغل بالك أمر من الخير أو الشر. . فإن جميع تحركاتك تسجل علي شاشة الكون ، حيث لا يسعك منعها أو الهرب منها ، سواء أكنت في الظلام أم في النور. فحياتك كالقصة التي تصور في الاستديو ، ثم تشاهدها علي شاشة السينما بعد حقب طويلة من الزمن ، وعلي بعد كبير من مكان التسجيل ، ولكنك تشعر كأنك موجود في مكان الأحداث ، وهكذا شأن كل ما يقترفه الإنسان ، وشأن الأحداث التي يعيشها ، فإن فيلما كاملا لتلك الأحداث سوف يوضع بين يدي كل فرد يوم القيامة ، حتى يصرخ الناس قائلين:
(يا ويلتنا! ! ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها(87)؟)
* * *
والتفاصيل العلمية التي أوردنا بعضها في الصفحات الماضية يتضح منها جليا أن أجهزة الكون تقوم بتسجيل كامل لكل أعمال الإنسان ؛ فكل ما يدور في أذهاننا يحفظ إلي الأبد ، وكل ما ننطق به من الكلمات يسجل بدقة فائقة ، فنحن نعيش أمام كاميرات تشتغل دائما ، ولا تفرق بين الليل والنهار. . ولا يسعنا-ونحن نشرح هذه الظاهرة العلمية الخطيرة-إلا أن نسلم بأن قضية كل منا سف تقدم أمام محكمة إلهية. . وبأن هذه المحكمة هي التي قامت بإعداد هذا النظام العظيم لتحضير الشهادات التي لا يمكن تزويرها.
ولا يستطيع أي عالم أن يدلي بتفسير أدق عن هذه الظاهرة سوي ما قلناه. . فلو لم تستطع هذه الوقائع الصريحة الساخنة أن تجعل البشر يحسون بمسؤليتهم إزاء المحكمة الجبارة التي ستقام يوم الحساب ، فلا أدري ما الواقع الذي قد يجعل هؤلاء يفتحون أعينهم؟ !
* * *
ثالثا : الحاجة إلي الآخرة:
لقد بحثنا في الصفحات الماضية فيما إذا كان حدوث شيء من مثل الآخرة التي يدعيها الدين ،(ممكنا)؟ ولقد ثبت ما علمنا أن الآخرة ممكنة الحدوث. . والمسألة التي نقف أمامها الآن هي: البحث فيما إذا كان هذا العالم في حاجة-فعلا- إلي شيء من قبيل الآخرة؟ وهل يقتضي الكون-في هيكله الحالي- وقوعها؟ ؟
* * *
(أ) الجانب النفسي :
لنتناول أولا (الجانب النفسي) من المسألة.
يقول البروفيسور (كنجهام) في كتابة:Plato s Apalogy : (إن عقيدة الحياة بعد الموت (لا أدرية مفرحة Cheerful Agnosticism) ومن الممكن اعتبار هذا القول خلاصة أفكار فلاسفتنا الملحدين المعاصرين ؛ فهم يرون أن عقيدة الآخرة اخترعتها عقلية الإنسان الباحثة عن عالم حر ، مستقل عن حدود هذا العالم وعن مشكلاته ، مليء بالأفراح. وإنما يدفعه إلي الإيمان بهذه العقيدة أمله في الحصول علي حياته المفضلة ، التي لا جهد فيها ولا كدح. . وأن هذه العقيدة تنتهي بالإنسان إلي عالم مثالي وخيالي ،حيث يحلم بأنه سوف يظفر به بعد الموت. ولكن الحقيقة- كما يراها الفلاسفة- أن لا وجود لشيء كهذا العالم الثاني في الأمر الواقع!
وفي رأيي: أن هذا المطلب الإنساني-في حد ذاته- (دليل نفسي) قوي علي وجود عالم آخر ، كالظمأ ، فهو يدل علي الماء ، وعلي علاقة خاصة باطنة بين الماء وبين الإنسان. وهكذا فإن تطلع الإنسان-نفسيا- إلي عالم آخر دليل في ذاته علي أن شيئا مثل ذلك موجود في الحقيقة ، أو أنه-علي الأقل- خليق أن يوجد. وهذا المطلب النفسي يؤكد علاقة مصيرنا بهذه الحقيقة ، ويدلنا التاريخ علي وجود هذه الغريزة الإنسانية منذ أقدم العصور علي مستوي إنساني ، وهو أمر لا أستطيع فهمه: كيف يمكن أن يؤثر أمر باطل علي البشر في هذا الشكل الأبدي ، وعلي مستوي إنساني؟ وهذا الواقع نفسه يدلنا علي قرينة قوية بإمكان وجود العالم الآخر. وإنكار هذه الحاجة النفسية ، بدون أدلة يعتبر جهلا وتعصبا.
إن الذين ينكرون حاجة نفسية عظيمة مثل هذه زاعمين أنها باطلة ، هم من أعجز الناس حقا عن تفهم أي (واقع) علي سطح الأرض بعد هذا. . ولو كانوا يزعمون الفهم في الواقع فلا أدري بأي دليل؟ . . وعن أي برهان؟
ولو كانت هذه الأفكار نتاج المجتمع كما يزعمون فكيف لا تزال تطابق التفكير الإنساني بهذه الصورة المدهشة من أقدم العصور؟ هل تجدون مثالا لأية أفكار إنسانية أخري ظلت باقية إلي العصر الحاضر ، وبهذا التسلسل الرائع منذ ألوف السنين؟ هل يستطيع أذكي أذكيائكم أن يخترع فكرا واهيا ثم يدخله إلي النفس الإنسانية وكأنه موجود بها منذ الأزل؟
إن لكل إنسان أماني كثيرة لا تكلل بالنجاح في حياته ، إنه يتمني حياة أبدية ، ولكن الحياة التي أعطيت له تخضع لقانون الموت. والعجيب أن الإنسان عندما يكون علي أبواب حياة ناجحة عظيمة ، بعدما كسب من العلم والمعرفة والخبرة والتجارب الثمينة ، حينئذ تداهمه دعوة الموت. . ولقد أكدت إحصائية عن تجار لندن الناجحين أن أمرهم يستقر فيما بين 45-65 سنة من أعمارهم ، ثم يبدأون يربحون ما بين خمسة آلاف إلي عشرة آلاف جنيه في السنة ، وفي ذلك الوقت الثمين-فجأة- تتوقف حركات قلوبهم ذات مساء أو ذات صباح ، فيرحلون إلي عالم مجهول تاركين تجارتهم الممتدة إلي ما وراء البحار. .
يقول الأستاذ وينوود ريد(Winwood Reade) :
(إنه لأمر هام يدعونا إلي التفكير فيما إذا كانت لنا علاقة شخصية مع الإله؟ هل هناك عالم غير عالمنا هذا؟ وهل سوف نلتقي جزاء أعمالنا في ذلك العالم؟ إن هذا السؤال ليس بعقدة فلسفية عظيمة فحسب ، وإنما هو في نفس الوقت أعظم أسئلتنا العملية أيضا. إنه سؤال تتعلق به مصالحنا الكثيرة ؛ فحياتنا الراهنة قصيرة جدا أفراحها عادية موقوتة ، إذ أننا عندما نظفر بما نحلم به يفاجئنا الموت ، ولو استطعنا الاهتداء إلي طريق خاصة تجعل أفراحنا دائمة وأبدية ، فلن يرفض العمل به أحد غير البله والمجانين منا(88)).
ولكن الكاتب نفسه يستطرد فينكر ذلك المطلب النفسي الكبير من أجل أمور لا وزن لها ولا قيمة ؛ فهو يقول: (إن هذه العقيدة كانت معقولة جدا حين كنا لا نبحث جوانبها بعمق وجد. . ولكن بعد هذا البحث اتضح لنا أنها أمر سخيف ، ويمكن إثبات سخافته بسهولة فالفلاح المحروم العقل الجاهل لا يتحمل مسئولية خطاياه ، وسيدخل الجنة ، ولكن العباقرة مثل (جوته) ، و(روسو) ، سوف يحترقون في نار الجحيم ؛ فلأن يخلق الإنسان محروم العقل خير له من أن يكون من أمثال جوته وروسو! ! إن هذا الكلام تافه وسخيف(89)).
وما أشبه هذا الموقف بالذي اتخذه (اللورد كلوين) تجاه التحقيق العلمي الذي قام به (ماكسويل) ؛ فقد زعم اللورد أنه لا يستطيع أن يفهم نظرية ما إلا بعد وضع نموذجها الميكانيكي ، وبناء علي هذا الفرض أنكر نظرية ماكسويل عن البرق والمغناطيس ، لأنها لم تحل في أحد نماذج اللورد المادية! إن مثل هذه المواقف والادعاءات الخرافية أصبحت غريبة في عالم الطبيعة الحديثة. ويتساءل العالم الكبير (سوليفان):
(كيف يروق لأحد أن يدعي أن الطبيعة لابد أن تكون كما يضعها مهندس القرن التاسع عشر في معمله(90)؟)
وسوف أوجه هذا الكلام إلي الأستاذ (وينوود):
(كيف يجوز لفيلسوف القرن العشرين أن يري: أن يكون الكون الخارجي في حقيقة الأمر مطابقا لما يزعمه هو؟)
إن كاتبنا لم يستطع أن يفهم أمرا في غاية البساطة: هو أن الحقيقة لا تحتاج إلي الواقع الخارجي ، وإنما الواقع الخارجي هو الذي يكون في حاجة إلي (الحقيقة). . فالحقيقة أن لهذا الكون إلها وسوف نمثل أمامه يوم الحساب. فلابد لكل منا- سواء أكان روسو أم كان مواطنا عاديا- أن يكون وفيا ومطيعا لإلهه ؛ فنجاتنا لن يحققها جحودنا بل هي تمكن في إيماننا وطاعتنا. . والغريب أن كاتبنا لم يرق له أن يطالب (جوته) و (روسو) أن يسلكا مسلك الحق ، وإنما طالب الحق بالتغيير! ولما لم يطع الحق راح ينكره! ! وهذا أشبه بمن ينكر قانون حفظ الأسرار العسكرية الذي يكرم أحيانا جنديا بسيطا ويعدم عالما ممتازا ، مثل (روزنبيرج وعقيلته الحسناء) بالكرسي الكهربائي! !
* * *
إنه لا يوجد علي سطح الأرض من يفكر في (الغد) غير الإنسان. فهو يتميز عن سائر الحيوانات بدوام تفكيره في المستقبل ، وجهاده المتواصل ، وسعيه الدائب في سبيل تحسين أحواله. ولا شك أننا قد نجد بعض الحيوانات تعمل لمستقبلها ؛ كالنمل الذي يدخر غذاءه للشتاء القادم ؛ والطيور التي تصنع أعشاشا يسكنها أولادها بعد فقسهم ، ولكن هذا العمل لدي الحيوانات يعتبر (غريزيا) ، فهو صادر عن غير شعور بالمسئولية ؛ إنها تقوم بهذه الأعمال لقلقها من مشكلات الغد ، وإنما تأتي بها طبيعيا ، ومن ثم تنتفع بها في المستقبل فالتفكير في المستقبل يتطلب فكرا مدركا واعيا ، وهو من ميزات الإنسان فحسب ،ولا يتمتع به شيء من الحيوانات غيره.
هذا الفرق الكبير بين الإنسان والحيوان يؤكد أنه لابد أن تكون للإنسان مواقع أكثر بالنسبة إلي أي نوع آخر للانتفاع بها ، فحياة الحيوانات هي ما تسمي (حياة اليوم) ، ففكرة الغد لا توجد عندها ولكن مطالعة حياة الإنسان تقتضي (غدا) ، ولو أنكرنا هذه الحاجة لخالفنا الطبيعة.
ويعتقد بعض العلماء والفلاسفة أن خيبة آمال الإنسان في حياته الراهنة هي التي تجعله يفكر في حياة أفضل ، وهم يرون أن هذا الفكر سوف يتلاشى لو أتيح للإنسان مجتمع رفاهي كامل. فقد اعتنق عدد كبير من أسري الروم المسيحية لأنها وعدتهم بأفراح السماء. . ولذا تتوقع هذه الطائفة من العلماء والفلاسفة أن سعادة الإنسان ورفاهية المجتمع سوف تزداد أكثر فأكثر إلي أن تقضي نهائيا علي نظرية (العالم الآخر).
ولكن تاريخ الأربعمائة سنة الأخيرة-التي ازدهرت فيها العلوم والتكنولوجيا- يكذب هذا التوقع ؛ فإن أول ما هيأ التقدم التكنولوجي للإنسان أنه أتاح له وسائل عديدة احتكرتها أيد محدودة قامت بدورها باستغلالها ، وقضت علي صغار العمال والحرفيين ، وحولت تيار الثروات إلي كنوزها وخزائنها ، وجعلت من الشعب عمالا فقراء معوزين ، ويمكن مطالعة هذه المناظر القبيحة التي جاءت نتيجة للتقدم التكنولوجي ، في كتاب كارل ماركس (رأس المال) ، الذي يعتبر ضجيجا للطبقة العمالية التي عاشت القرنين الثامن والتاسع بعد الألف ثم بدأت ردود فعل هذا الضجيج وتبعه كفاح طويل قامت به المنظمات العمالية ، حتى تحسنت الأحوال إلي حد ما. ولكنني أري أن التغير الذي طرأ علي أحوال العمال ليس إلا ظاهريا ؛ فعامل اليوم يتقاضى أكثر مما يتقاضاه بالأمس ، أما السعادة الحقة فإنه أكثر افتقادا لها من سلفه. . ذلك أن النظام التكنولوجي لم يعط الإنسان أكثر من مظاهر مادية ، فهو لا يملك القيم الروحية ، حتى يمنح لأتباعه السعادة والطمأنينة القلبية ، وما أصدق ما قاله الشاعر (Blake) عن إنسان الحضارة الحديثة:
A mark in every face I meet
Marks of weaknees, marks of woe.
(كل وجه تري عليه سمات فيه ضعف ، وفيه ذل وحقد)
لقد اعترف (برتراند راسل) قائلا: (إن حيوانات عالمنا يغمرها السرور والفرح ، علي حين كان الناس أجدر من الحيوان بهذه السعادة ، ولكنهم محرومون من نعمتها في عالمنا الحديث(91)). واليوم كما يقول راسل أصبح من المستحيل الحصول علي هذه النعمة: السعادة(92)! !
إنك عندما تزور نيويورك تشاهد أبنيتها الضخمة مثل عمارة (إمباير ستيت) التي تتكون من 102 طابقا وهي عالية جدا حتى إن درجة الحرارة في أدوارها العليا تكون منخفضة جدا بالنسبة إلي أدوارها السفلي ، وعندما تخرج منها وتراها من الشارع فلن تصدق أنك كنت فوق هذا العملاق الذي يرتفع فوق سطح الأرض ، ولا يستغرق المصعد الكهربائي للصعود من أسفلها إلي أعلاها أكثر من ثلاث دقائق! ! وبعد مشاهدة العمارات والمظاهر تذهب إلي النوادي وتشاهد الرجال والنساء يرقصون ملتصقين. . وتفكر: (ما أسعد هؤلاء الناس! ) ثم تأوي إلي مقعد تشاهد الرقص المثير ، ولن تقضي وقتا طويلا حتى تأتيك حسناء من هؤلاء القوم ، وتجلس علي المقعد المواجه لمقعدك ، إنها تبدو كئيبة ، فتسألك دون مقدمات:
- أيها السائح ، هل أنا قبيحة المنظر؟
- إنني لا أري ذلك. .
- ولكنني أفهم أنني فقدت (روعة الجمال) ، أليس كذلك؟
- لا. . في رأيي أنك تملكين الكثير من الفتنة وروعة الجمال.
- شكرا أيها السائح الكريم! ولكن الشبان لا يبالون بي ولا يواعدونني. لقد أصبحت الحياة بالنسبة إلي مملة موحشة. .
إن ما رأيته في نيويورك لم يكن إلا منظرا مقتضبا من مسرحية الإنسان في العصر الحديث.
لقد أقامت العلوم والتكنولوجيا أبنية شامخة ، ولكنها نزعت السعادة من قلوب ساكنيها ، إنها أقامت مصانع تتحرك بآلات هائلة ، ولكنها حرمت عمالها الراحة التي يطمحون إليها ، وهذه هي نتيجة التاريخ العلمي والتكنولوجي. فكيف بنا إذن نطمح ونتوقع عالما يسوده السلام والسعادة ، من (صنع التكنولوجيا؟ !)
* * *
(ب) الضرورة الأخلاقية :
وعندما ندرس المسالة من الوجهة نري أنه لابد من (الآخرة) ، فإن التاريخ الإنساني لن يكون له أي معني بدونها.
إن فطرة الإنسان تميز بين الخير والشر ، والصالح والطالح ، والظلم والعدل ، وهذه الفطرة هي التي تميز الإنسان عما سواه ، ولكن ها هو ذا الإنسان الذي كرمه ربه ، يهدر فطرة الله أكثر ممن لا يتمتعون بها ؛ إنه يظلم بني جنسه ؛ يقتلهم ويشردهم ، ويوجه إليهم كل شر مستطاع. .
إن الحيوانات لا تظلم فصائلها ، فالأسد ليس في الأسود أسدا ، والنمر ليس في العرين نمرا. . ولكن الإنسان أصبح يفترس إخوانه ، حتى الأقربين منهم ، مما لا يوجد له مثيل في قانون الغابة. .
ولا مرية أننا وجدنا أضواء الحق والعدالة في التاريخ الإنساني ، وأننا نقدرها حق قدرها ، ولكن الجزء الأكبر من التاريخ يفيض بقصص الظلم والفساد والعدوان. إن المؤرخ ليصاب بيأس بالغ عندما يري أن أحداث التاريخ تتعارض تماما مع الضمير الإنساني.
ولنقتبس هنا بعض الأقوال:
فولتير: (إن التاريخ الإنساني ليس إلا صورة للجرائم والمصائب(93)).
هربرت سبنسر : (إن التاريخ تهريج ، وكلام فارغ لا جدوى منه).
نابليون : (إن التاريخ بأكمله عنوان لقصة لا تعني شيئا).
إدوارد جين : (إن تاريخ الإنسان لا يعدو أن يكون سجلا للجرائم ، والحماقة ، وخيبة الأمل).
هيكل : (إن الدرس الوحيد الذي تعلمته الحكومة والشعب من مطالعة التاريخ هو أنهم لم يتعلموا من التاريخ شيئا(94)).
هل قامت مسرحية العالم كلها لتنتهي إلي كارثة أليمة؟ إن فطرتنا تقول: لا. . فدواعي العدالة والإنصاف في الضمير الإنساني تقتضي عدم حدوث هذا الإمكان ، لابد من يوم يميز بين الحق والباطل ، ولابد للظالم والمظلوم أن يجنيا ثمارها ، وهذا مطلب لا يمكن إقصاؤه من مقومات التاريخ ، كما لا يمكن إبعاده عن فطرة الإنسان.
إن هذا الفراغ الشاسع الذي يفصل ما بين الواقع والفطرة يقتضي ما يشغله ؛ فإن المسافة الهائلة بين (ما يحدث) و (ما ينبغي أن يحدث) تدل علي أن مسرحا آخر قد أعد للحياة ، وأنه لابد من ظهوره. فهذا الفراغ العظيم يدعو إلي تكميل الحياة. وإني لأتحير عندما يؤمن الناس بفلسفة الروائي الإنجليزي (هاردي) القائلة: بأن العالم مكان للظلم والوحشية ، ولكنني أصاب بحيرة أكبر عندما أري أن هذه الحالة البالغة السوء لا تقودهم إلي الإيمان بأن: ما ليس بموجود اليوم ويقتضيه العقل ، لابد من حدوثه غدا.
(إذا لم تكن هنالك قيامة فمن ذا الذي سوف يكسر رؤوس هؤلاء الطواغيت الطغاة؟ )
- كلمة كثيرا ما تخرج من شفتي مصحوبة بأنين مرير ، عندما أطالع الجرائد ، فجرائدنا صورة مصغرة أرض لم لما يحدث كل يوم علي الأرض ، والصورة التي تحملها الجرائد إلينا رهيبة . . إنها تتكلم عن الاغتيالات ، والخطف ، والنهب ، والاتهامات الكاذبة ، والتجارة السياسية ، والدعايات الباطلة التي تتلعب بالألفاظ . إن هذه الجرائد تخبرنا كيف نكل الحاكم الفلاني بمعارضيه الضعفاء ، باسم مصالح الأمة ، ودواعي الأمن القومي؟ ! وكيف سيطر ذلك الشعب علي يملكها طيلة التاريخ بقوة السلاح!! وليست هذه الجرائد إلا حكايات لمأساة الضعيف والقوي ، والسلطان والرعاع! !
o إن الأحداث التي وقعت في بلادي أخيرا ، وبخاصة تلك الاغتيالات الجماعية ، وعمليات النهب والحرق المخططة التي جرت في مناطق جبل بور ، وجمشيد بور ، وراؤر كيلا ، وكلكتا- يبدو بعدها أن المرء لا ينبغي أن يستبعد وقوع أية جريمة علي هذه الأرض ، سواء أمكنه تصورها أم لا! ! فإن قوما يرفعون شعارات (العلمانية) و (الجمهورية) و (اللاعنف) يستطيعون-في نفس الوقت- أن يرتكبوا أبشع أنواع الطائفية ، وأشنع ألوان الدكتاتورية ، وأسوأ صور العنف ، كما لم يشهده التاريخ. وكل هذه الجرائم البشعة-التي تأسي لحدوثها السباع المفترسة ، والذئاب الكاسرة ، والخنازير الوحشية- قد جرت في عهد زعيم أطلق عليه لقب: (معلم الإنسانية ورسول السلام(95)) ! ! وليت المأساة توقفت عند هذا الحد ، فلقد ارتكبت في هذا العصر الذي ازدهر فيه النشر والإذاعة ، جرائم شنيعة ، وأحداث مروعة من نهب وقتل وإحراق أقوام بأسرهم ؛ ودامت المأساة أشهرا طويلة ، بل سنين عديدة ، في بلاد شاسعة جدا من الهند ، والصحافة العالمية لا تنشر عنها شيئا ما ، وقد امحت تماما هذه الجرائم من صفحات التاريخ ، كأن لم تكن مأساة الأمس القريب ! !
هل خلق هذا العالم ليكون مسرحا للمآسي ، والشيطنة ، والهمجية والقرصنة ، ثم لا يلقي الظالم والمظلوم جزاءهما؟ ! إن عالما- من هذا القبيل- إعلان في حد ذاته عن أنه ناقص وهذا النقص في ذاته يقتضي ما يكمله.
(ج) مشكلة السلوك:
ولندرس هذا من ناحية أخري. لقد شغلت مسألة هامة الذهن الإنساني من أقدم العصور ، وهي كيفية إجبار الناس علي سلوك طريق الحق ، فإذا افترضنا أن بعض أفراد المجتمع قد منحوا سلطة سياسية من أجل تحقيق هذا الهدف ، فمن الممكن أن يمتنع الرعايا خوفا من العذاب. ولكن ما الذي يدفع أولئك الذين يتمنعون بالسلطة السياسية إلي تحقيق العدل والإنصاف؟ ولو أننا استنجدنا القانون ، واستصرخنا المحكمة ، فكيف إذن يمكن أن نبلغ بهما تلك الأماكن التي لا تخضع للشرطة والقانون؟ ولو أننا خضنا معارك الدعاية وناشدنا أهل الشر أن يكفوا عن الجرائم ، فمن ذا الذي ينصت إلينا؟ ويتخلى عن فائدة يجنيها دون كلفة؟ إن رهبة عقاب الدنيا لن تنجح في قمع انحرافات الإنسان ؛ فنحن جميعا نعرف أن الكذب ، والرشوة ، والمحسوبية ، واستغلال النفوذ ، وما إلي ذلك من الوسائل المعروفة ، سوف تحول دون أي إمكان للعقاب.
إنه لن يفلح شيء في قمع الجرائم غير الدافع المنبعث من داخل قلب الإنسان-الضمير ، الضمير الذي لو دخل إرادة الإنسان فلن يسقطه عامل خارجي أيا كان ، وهذه الميزة غير متاحة إلا في عقيدة الآخرة. . فإن دافعا قويا يكمن في هذه العقيدة ، ويجعل من اتقاء الجرائم مصلحة ذاتية لكل إنسان. إنها مصلحة يهتم بها الجميع ، فالكل رئيسا كان أم مرؤوسا ، في الظلام كان أو في الضوء-ينطلق يفكر في أنه لابد من يوم للقاء الله ، والكل يشعر بأن الله يراه ، وسوف يحاسبه حسابا عسيرا. وهذه الأهمية الكبرى في عقيدة الآخرة هي التي جعلت القاضي ماتيوهالوس (Mathew Halos) ، وهو من كبار قضاة القرن السابع عشر يقول:
(إن القول بأن الدين خدعة ، هو بمثابة إبطال لجميع المسئوليات التي تقع علي عاتقنا لاستقرار النظام الاجتماعي(96)).
ألا ما لنستطيع أن ندرك أبعاد هذه النظرية لو تأملنا أن كثيرا من علمائنا الملحدين الذين لا يعتقدون أن الآخرة أمر واقع ، قد اضطروا- بناء علي تجارب التاريخ- إلي القول بأنه لا يوجد شيء غير (الآخرة) لمراقبة الإنسان ، وإخضاعه لسلوك طريق الحق والعدل في جميع الظروف.
لقد أنكر الفيلسوف الألماني (كانت) فكرة (الإله) ، قائلا: (إنه لا يجد أدلة شافية علي وجوده). فهو ينكر (الصواب النظري) في الدين ، ولكنه ، في نفس الوقت ، يضطر إلي أن يسلم (بالصواب العملي) في الدين ، من الناحية الأخلاقية(97).
و (فولتير) أيضا لا يؤمن بحقائق ما وراء الطبيعة ، ولكنه يري:
(أن أهمية الإله والحياة الآخرة عظيمة جدا ، حيث أنهما أساسان لإقامة (المبادئ الأخلاقية). . وهو (فولتير) يري أن هذه العقيدة وحدها كفيلة بإيجاد إطار أخلاقي أفضل للمجتمع. ولو أن هذه العقيدة زالت فلن نجد دافعا للعمل الطيب ، وسيترتب علي ذلك انهيار النظام الاجتماعي(98)).
إن الذين يرون أن (الآخرة) فكرة خيالية ينبغي أن يفكروا: كيف أصبحت فكرة خيالية ذات أهمية قصوي بالنسبة إلي واقع حياتنا؟
لماذا لا نستطيع بدونها إقامة نظام اجتماعي سليم؟
ولماذا تنهار قيم حياتنا عندما نتخلى عن هذه الفكرة ؟
هل يمكن أن تحتل فكرة خيالية هذه الأهمية الكبرى في الحياة؟
هل وجدتم مثالا ما في الكون لفكرة خيالية غير كائنة ، أصبحت تتمتع بهذه الأهمية الحقيقية في الحياة ، رغم أنها لا علاقة لها بواقعنا؟ !
إن حاجتنا الملحة إلي الآخرة لتنظيم الحياة ، وإقامتها علي أسس عادلة حقيقية ، هي-في حد ذاتها- تأكيد بأن الآخرة من كبريات حقائق الكون ، ولست أبالغ إذا قلت: إن هذا الجانب المنطقي من الاستدلال يثبت حقية هذه النظرية ، علي مستوي التحقيق المعملي العلمي. .
* * *
(د) الضرورة الكونية:
ولننظر إلي هذه القضية من جهة ثالثة ، تلك التي أسميها: (الضرورة الكونية). لقد تكلمت في الصفحات الماضية عن وجود الإله في الكون ؛ وقد ثبت جليا أن الدراسة العلمية والفكرية هي التي تدعونا إلي القول بوجود إله لهذا الكون. وبقي أن نسأل: لو كانت هناك علاقة بين الإله والإنسان لما كان بد من ظهورها ، فمتي ستظهر هذه العلاقة جليا؟
أما بالنسبة إلي عالم اليوم ، فمن الممكن الجزم بأن هذه العلاقة لم تظهر بعد ؛ فالرجل الذي لا يؤمن بالإله ، يصيح قائلا: (إنني لا أخاف من الله) ثم هو لا يصاب بأذى بل قد يحصل علي الزعامة ، ويتسلم مقاليد الحكم! !
أما الذين يبلغون رسالات الله ، فإن السلطات توقف نشاطهم بحجة أنه (غير شرعي). وهنالك أيضا مكاتب ومؤسسات تشغلها-ليل نهار- الدعاية لأولئك الذين يقولون: (لقد ذهب صاروخنا إلي القمر ولم يتشرف بلقاء إلهكم! ) ، وجميع أجهزة الدعاية الرسمية تدعم هذه المؤسسات ، فإذا ما نهض أصحاب الدعوات برسالتهم ردهم علماء العصر قائلين: إنكم رجعيون تتخبطون في الظلمات!
يولد الأطفال ، ثم يشبون ، ويموتون.
تصل الشعوب إلي أوج مجدها ، ثم تنقرض.
تقع الثورات ، ثم تزول.
تشرق الشمس وتغرب ، ولكن لا تظهر آيات وجود الله.
وفي هذه الحالة تطالبنا عقولنا وقلوبنا بالإيمان بوجود الله ، أو إنكار هذا الوجود. فلو آثرنا الإيمان بالله ، فلا مناص لنا من الإيمان بالآخرة. فليست هناك طريق أخري لتبيين علاقة الإنسان بالإله.
لقد سلم (داروين) بأن لهذا الكون (خالقا) ، ولكن (تفسير الحياة) الذي قدمه لا يتضمن أدني ربط بين الخالق ومخلوقه ، كما أنه لا يحس بالحاجة إلي (نهاية) لهذا الكون ، حاجة تدفعه إلي تقرير هذا الربط ، ولست أدري كيف سيملأ (داروين) هذا الفراغ الكبير في نظريته البيولوجية؟ إن عقلي يستنكر إلها لا علاقة له بأمور الكون ، ولا يشهده عباده في مظهر الخالق أبدا. وما أعجب (خالق داروين)- هذا الذي يأتي بكون عملاق هكذا ، ثم ينهيه ، دون إبداء الأسباب التي دفعته إلي هذا الخلق ، ودون تعريف مخلوقيه بصفاته العديدة! !
إننا لو أعطينا هذه المسألة الخطيرة شيئا من تفكيرنا ، فسوف نجد قلوبنا تصرخ: (إن الساعة آتية لا ريب فيها. .) (99).
بل إنا لو تأملنا فسنراها مسرعة إلينا ، سوف نراها ثقيلة ، وشيكة الانفجار ، كأنها الوليد في بطن الحامل. وما أقرب ما تفتك بنا-فجأة-ذات عشية أو ضحاها:
(يسئلونك عن الساعة أيان مرسها. قل إنما علمها عند ربي. لا يجليها لوقتها إلا هو. ثقلت في السماوات والأرض. لا تأتيكم إلا بغتة (100)).
رابعا- الشهادة التجريبية:
نواصل الآن بحثنا في الجانب الآخر من هذا الموضوع: (الآخرة) ، وهو: هل هناك شهادة تجريبية تثبت الحياة بعد الموت؟
عن أول دليل علي الحياة الثانية هو حياتنا الأولي في حد ذاتها ؛ فإن الذين ينكرون الحياة الثانية يقرون ،بداهة، الحياة الأولي. والحياة ، تلك التي ظهرت مرة واحدة ، كيف تعجز عن إعادة نفس العملية مرة أخري ؟ هذه التجربة التي نعيشها نحن اليوم ، كيف يستحيل حدوثها ثانية؟ ؟ إنه لا شيء أكثر عداء للمنطق والعقل الإنساني من أن نسلم بوقوع حادث في (الحال) وننكره في (المستقبل)! !
يا له من تناقض عجيب. . إن الإنسان يدعي أن (الآلهة) التي اخترعها هو بقدراته الخارقة لتفسير الكون ، تستطيع إعادة وقائع الكون مرة أخري ، ولكنه يرفض بعناد تلك النظرية المماثلة التي يتقدم بها الدين ، ويعبر (السير جيمس جينز) عن نظرية هؤلاء القوم قائلا:
(لا غرابة إذا كانت أرضنا قد جائت صدفة نتيجة بعض الحوادث. وإذا بقي كوننا علي حاله الراهنة لمدة طويلة مماثلة (لمدة حدوثه صدفة) ، فلا نستبعد حدوث أي شيء يمكننا قياسه علي الأرض(101)).
وتري نظرية النشوء والتطور أن جميع أنواع الحيوانات تنحدر من نوع بدائي واحد ، وأنها ارتقت إلي ما هي عليه الآن خلال مراحل تطورية متطاولة. بناء علي هذا التفسير الذي قام بوضعه (داروين)-صاحب هذه الفكرة-فإن (الزراف) الموجود حاليا ، كان في بدء الأمر من عشيرة الحيوانات الصغيرة ذوات الظلف ، ولكن هذا الحيوان من خلال العمليات الطويلة التي أعقبت التوالد والتناسل ، والتغيرات والفوارق الصغيرة التي طرأت علي الجنس الحيواني ، استطاع أن يحصل علي هذا الهيكل العظيم غير العادي الذي نشهده اليوم. .
يقول (داروين) موضحا نظريته في الباب التاسع من كتابه:
(ومن الأمور الحتمية عندي أنه-إذا ما أجريت العملية المطلوبة خلال زمن طويل ، فمن الممكن أن نجعل من حيوان ذي ظلف عادي حيوانا مثل الزراف(102)). ز
وهكذا اضطر جميع العلماء الذين حاولوا شرح الكون والحياة ، بطريق طبيعية إلي أن يسلموا بأنه لو هيئت نفس الأحوال-التي ساعدت في خلق الحياة الأولي- فمن الممكن حدوث الحياة ولوازمها مرة أخري. إن إمكان حدث الحياة الأخرى أقوي-نظريا- من إمكان الحياة الأولي ، الذي قد وقع فعلا ، وأي شيء نسلم به أنه خلق الحياة-مهما كان هذا الخالق- فلابد لنا من الإقرار بصفة بدهية بأن ذلك الخالق يستطيع بالتأكيد إعادة نفس الحوادث التي أنشأها للمرة الأولي ، ولابد لنا من هذا الاعتراف ، اللهم إلا إذا أنكرنا الحياة الأولي (الموجودة الآن). . فنحن نفقد جميع الأسس التي نبني عليها دعائم إنكارنا للحياة الأخرى ، عندما نسلم بوجود الحياة الأولي!
* * *
خامسا- البحث النفسي:
لقد أثبت البحث النفسي ، الذي ذكرناه آنفا ، أن جميع أفكار الإنسان-أو بعبارة أخري: جميع خلايا مخه- تبقي بصفة دائمة. وهذا الواقع يثبت بصراحة أن عقل الإنسان ليس بجزء من جسمه ، فإن جميع خلايا وأنسجة الجسم تتغير تغيرا كاملا في بضعة أعوام ، ولكن سجل اللاشعور لا يقبل أي تغير أو مغالطة أو شبهة علي رغم مرور مئات السنين. ولو كان هذا السجل الحافظ كائنا في الجسم فلا أدري أين مكانه منه؟ وفي أي جزء يكمن علي وجه الخصوص؟ ولو كان في أحد أجزاء هذا الجسم ، فلماذا لا يزول عندما تزول هذه الأجزاء بعد سنوات عديدة؟ ما أعجب هذا السجل الذي تتحطم جميع لوحاته تلقائيا ، ولكنه لا يفني ولا يزول! ؟
إن هذه البحوث الجديدة في علم النفس تؤكد بصفة قاطعة أن الوجود الإنساني لا تنحصر حقيقته في ذلك الجسم المادي الذي يخضع دوما لعمليات التحطم والاحتكاك والفناء ، بل هو شيء آخر غير هذا كله وهو لا يفني بل يبقي مستقلا ولا يزول.
ويعلم من هذا أبضا أن الحواجز وقوانين الزمن لا وظيفة لها إلا في عالمنا هذا ، ولو كان هناك عالم آخر ، يبدأ عند فناء جسمنا المادي ، فهو يخلو تماما من هذه الحواجز والقوانين.
إن كل ما نباشره من الأعمال والأفعال الشعورية يخرج في نطاق هذه القوانين والحواجز. ولو كانت هناك (حياة عقلية أخري)-كما يعتقد فرويد- فمعناه أن هذه الحياة الجارية لن تفني أبدا ، بل ستستأنف بعد الموت ، وسوف نكون علي قيد الحياة ، فإن هذا الموت لم يكن إلا نتيجة من نتائج هذه الحواجز والقوانين الزمنية. أما وجودنا الحقيقي-وهو اللاشعور ، كما يقول فرويد-فهو حر مستقل عن هذه الحواجز والقوانين ، ولا يطرأ عليه الموت بل يأتي (الموت) علي الجسد العنصري المادي ، ويبقي اللاشعور- وهو الإنسان الحقيقي- كما هو.. ومثاله أن حادثا وقع قبل ربع قرن ، أو فكرا خطر ببالي قبل عشرين سنة ، وقد نسيت كليهما قاطبة ومع ذلك فإني أراهما في أحلامي اليوم. وتفسير ذلك عند علماء النفس هو أنهما كانا محفوظين في (اللاشعور) بأكمل صورهما وجزئياتهما ، كأنما حدثا بالأمس! !
وقد نتساءل هنا: وأين هذا اللاشعور؟ فلو كان منقوشا علي الخلايا- كالصوت مسجلا علي الاسطوانات-فإن تلك الخلايا ، التي سجلت ذلك الحادث قبل ربع قرن ، أو هذه الفكرة قبل عشرين سنة ، قد تحطمت وزالت منذ سنين طويلة ، ولا علاقة لها في أي صورة بجسدي الموجود الآن. فأين هذا الفكر من جسدي؟ تلك شهادة تجريبية تثبت- قطعيا-إن هناك عالما آخر خارج أجسامنا المادية مستقلا بذاته ، ولا يفني بفناء الجسم ، أو جزء من أجزائه.
* * *
سادسا- البحوث الروحية:
أثبتت (البحوث الروحية) Psychical Researches الحياة بعد الموت علي المستوي التجريبي والعملي. إن الأمر الذي يدفعنا إلي إبداء مزيد من الإعجاب بهذه البحوث هو أنها لا تثبت (بقاءا محضا) لروح ما بل إنها تثبت أيضا بقاء الشخصيات التي كنا نعرفها بذاتها ، قبل أن تموت! !
إن هناك خصائص كثيرة يتمتع بها الإنسان من قديم الأزمان ؛ ولكنا لم نلق الضوء عليها إلا حديثا. ومن هذه الخصائص: (الرؤيا) ، التي تعد من أقدم مميزات الجنس البشري. والحقائق المثيرة التي تعد من أقدم مميزات الجنس البشري. والحقائق المثيرة التي كشفها علماء النفس عن هذه الميزة لم يكن قدماؤنا علي علم بها.
وهناك مظاهر أخري درسناها أخيرا وأجرينا بحوثا وإحصاءات في مختلف أنحاء العالم حولها وجاءت البحوث بنتائج غاية في الأهمية.
ومن هذه البحوث ما نسميه (بالبحوث الروحية). . وهي فرع من علم النفس الحديث وهدفها محاولة الكشف عن المميزات الإنسانية غير العادية ، وقد أقيم أول معهد لإجراء هذا النمط من البحوث عام 1882م في انجلترا. وبدأ علماء المعهد عملهم سنة 1889م ، بعد أن قاموا بمسح واسع النطاق علي 17 ألفا من المواطنين ، ولا يزال هذا المعهد موجودا باسم (جمعية البحوث الروحية). وقد انتشرت الآن معاهد كثيرة في مختلف بلدان العالم. وأثبتت هذه المعاهد بعد بحوثها وتجاربها الواسعة النطاق ، أن الشخصية الإنسانية تواصل بقاءها بعد فناء الجسد المادي ، في صورة غريبة. .
كان وكيل متنقل لشركة أمريكية يسجل طلبات عملائه. جالسا في حجرته في فندق سانت جوزيف ، بولاية ميسوري ، فإذا به يشعر أن أحدا يجلس عن يمينه. ويقول الرجل: (فحولت وجهي بسرعة فوجدت أنها أختي!).
وكانت أخته هذه قد ماتت منذ تسع سنين. . وبعد برهة اختفي وجه أخته. وكان الوكيل قد أفزعه هذا الحادث ، لدرجة أنه بدلا من أن يستأنف جولته ، قرر مغادرة (ميسوري) إلي بيته في بلدة (سانت لويس). وفي البيت ذهب يقص علي أقربائه الحادث بالتفصيل كما رآه وعندما وصل أثناء كلامه إلي هذه الجملة: (وشاهدت علي خدها الأيمن جرحا واضحا أحمر اللون). . فإذا بأمه تصرخ وتقوم مرتعدة ، وهي تقول: (إنني أنا السبب في ذلك الجرح الذي رأيته وقد حدث ذلك عن غير قصد مني ، وقد ندمت لذلك الحادث وآلمني المنظر ، فأزلت كل آثار الجرح ، ووضعت في مكانه شيئا من البودرة! ) وأضافت الأم قائلة:
(ومنذ ذلك اليوم لم أفض بهذا السر إلي أحد أبدا) (103)
إن هذه الوقائع وأمثالها لا تختص بأمريكا وأوروبا ، وإنما تحدث بكثرة في كل منطقة من العالم. ولكن حيث إن أكثر البحوث العلمية الحديثة قد أجريت في تلك المنطقة من العالم ، فلابد لنا أن نأتي بالشهادات التجريبية من تلك المناطق أيضا. ولو كان عند بعض علمائنا شيء من الطموح والثقة بالنفس ، وبدءوا هذا العمل في مناطقهم فمن الممكن أن نجمع شهادات لا حصر لها في بلادنا الآسيوية والأفريقية. وأنا شخصيا علي علم بكثير من وقائع مماثلة تدعم هذه النظرية بصفة مدهشة ، ولكنا بكل أسف تعوزنا الهمم للقيام بمثل هذه البحوث العلمية ، وما يلزمها من قدرة علي الإنفاق ، وبذل الوقت المطلوب.
* * *
إن هناك وقائع لا تحصي من هذا القبيل وهي تؤكد وجود (شخصيات معروفة) بعد موتها. ولا سبيل أمامنا لاعتبار هذه الوقائع والحقائق: (أوهاما وخيالات) ، كما اعتاد بعض الناس القول ببساطة في مثل هذه المسائل فإن سر الجرح علي خد الفتاة الأيمن- وقد ماتت منذ حقبة من الزمن-لم يكن أحد يعرفه غير الفتاة وأمها. .
وهناك وقائع أخري تؤكد بقاء الحياة بعد الموت وهي وقائع تتعلق بأولئك الذين نسميهم: (بالمتحركين آليا)Automatists (104). ويطلق هذا الاسم علي الذين تصدر عنهم أفعال رغم إرادتهم الذاتية ، وهذه الوقائع تدل علي أن أرواحا –لأشخاص قد ماتوا- تسكن في أجسام هؤلاء الأحياء. ويكشف هؤلاء الناس أثناء أعمالهم عن جزئيات لا يعرفها إلا الموتي أصحاب الأرواح. . ثم يظهر بعد شهور وسنين أن تلك الجزئيات كانت حقائق واقعية. .
وهناك أيضا رجال يتكلمون ويكتبون في آن واحد ولا يكون للمكتوب أية علاقة بالقول كما أن الكاتب لا يعلم بنفسه ماذا كتب إلا بعد الإطلاع علي ما كتبه (وهذا الواقع يثبت أن روحا- غير روحه الشخصية- تسكن جسده وهي التي تجعله يكتب(105)
إن كثيرين من علمائنا المحدثين يرتابون في قبول هذا الاستدلال كما يقول (براد).
(إن أي فرع من فروع العلوم الحديثة لا يؤكد إمكان الحياة بعد الموت اللهم إلا ذلك الاستثناء المشتبه فيه من البحوث الروحية)(106)
بيد أن الاستدلال يشبه عندي أن أقول: (إن (التفكير) استثناء مشتبه في أمره لأن أحدا من ملايين الحيوانات علي سطح الأرض لم يصدق هذه الظاهرة غير الإنسان! ! ).
* * *
إن بقاء الحياة وفنائها يتعلق بعلم النفس لكونه مسألة نفسية بحتة فلا تصلح دراسته إلا في علم النفس أما أن نبحث عنه في أقسام أخري من العلوم. فهو بمثابة أن نطالب علمي (النبات) و (الفلزات) بإثبات ظاهرة التفكير. ولا نستطيع-أيضا- أن نجعل دراستنا داخل الجسم الإنساني حكما في هذه المسألة الخطيرة وسببه أن الجزء الذي ندعي بقاءه واستمراره في الحياة-وهو الروح- لا يوجد في هذا الجزء المادي بل في جسم آخر سواه.
وهذا هو المر الذي دفع الكثيرين من علمائنا إلي الاعتراف بأن (الحياة بعد الموت) واقع حقيقي بعد أن قاموا بأبحاث علمية طويلة غير منحازة. وقد ألقي (البروفسور دوكاس) وهو أستاذ الفلسفة بجامعة براون ضوءا علي الجوانب النفسية والفلسفية من مسألة الحياة بعد الموت في الباب التاسع عشر من كتابه. والدكتور دوكاس لا يؤمن بالحياة بعد الموت كعقيدة دينية ، وإنما وجد- أثناء بحوثه- شواهد كثيرة اضطر علي أثرها-أن يؤمن بالحياة الآخرة مجردة عن قضايا الدين. وهو يكتب في آخر الباب السابع عشر من كتابه قائلا:
(لقد قام رهط من أذكي علمائنا وأكثرهم خبرة بمطالعة الشهادات المتعلقة بالمسألة وفحصوها بنظرة نقد ثاقبة وقد توصلوا آخر الأمر إلي أن هناك شواهد كثيرة تجعل فكرة (بقاء الروح) نظرية معقولة وممكنة الحدوث. . وهم يرون أنه لا يمكن تفسير تلك الشواهد إلا علي هذا النحو. ومن هؤلاء الكبار الذين قاموا بهذه البحوث نستطيع أن نذكر: الأساتذة ألفريد راسل واليس ، والسير وليام كروكس ، وف. و. ه مايرز ، وسيزار لومبرازو، وكميل فلاماريون ، والسير أوليفر لوج ، والدكتور ريتشارد هوجسن ، والمستر هنري سيدويك ، والبروفيسور هيسلوب).
ويستطرد الدكتور دوكاس قائلا:
(ويتضح من هذا أن عقيدة بقاء الحياة بعد الموت- التي يؤمن بها الكثيرون منا كعقيدة دينية- ليس من الممكن أن تكون واقعا فحسب ، وإنما لعلها هي الوحيدة من عقائد الدين الكثيرة ، التي يمكن إثباتها بالدليل التجريبي. ولو صح هذا فمن الممكن أيضا أن نجد معلومات قطعية في هذا الموضوع بغض النظر عن الأفكار التي افتراها رجال الدين عن نوعية الحياة بعد الموت ولن نحتاج حينئذ إلي الإيمان بالوجهة الدينية من هذه النظرية(107).
ويكاد الدكتور دو كاس- بعد الوصول إلي هذا الحد من وضوح قضية الحياة بعد الموت ثم الجحود بوجهتها الدينية-أن يكون مثله مثل الفلاح الذي يصر علي أنه لا سبيل إلي الحديث بينه وبين أحد أقربائه الذي يسكن في بلدة نائية. . فإذا وصلت خط التليفون مع قريبه هذا في البلدة النائية وأعطيته السماعة. . إذا به يقول لك بعد فراغه من الكلام : (ليس من الضروري أنه كان صوت قريبي فمن الممكن أنه كان يخرج من إحدي الماكينات! ).
إثبات الرسالة
من العقائد الهامة في الدين ، بعد الإيمان بالله ، عقيدة الإيمان بالرسالة ، أو الوحي والإلهام. ومعناها: أن تعالي ينزل كلامه علي إنسان يختاره من بين الناس ، ليخبر الناس بما يرضي الله تعالي. .
وحين عجزنا عن رؤية أي خط اتصال ساخن ، بين الله سبحانه وبين الرسول ، أنكرناه. ولكنا اليوم نستطيع أن نفهم هذه المسألة بسهولة تامة بفضل الحقائق المعلومة.
إن هناك وقائع كثيرة جدا تجري من حولنا في كل لحظة ، ونحن نعجز عن إدراكها ، أو سماعها ، أو الإحساس بها بوساطة أجهزتنا العصبية ، وقد استطاع العلم الحديث أن ييسر لنا إدراكها بفضل الأجهزة العلمية التي اخترعناها. وهذه الأجهزة تستطيع أن تدل علي صوت ذباب طائر علي بعد بضعة أميال ، وكأنه يطير عند أذنك!
ومن الأجهزة العلمية ما وصل التقدم فيه إلي حد أنها تسجل صدام الأشعة الكونية في الفضاء! !
لقد اخترعناه آلات كثيرة أثبتت أنها تسطيع إدراك كثير جدا من الأحداث التي لا يمكننا سماعها بالطرق السمعية التقليدية.
وهذه الطاقة غير العادية للسماع لا تخص الآلات العلمية الحديثة ، وإنما وهبها الله لبعض الحيوانات أيضا. ومما لا شك فيه أن جهاز سماع الإنسان محدود جدا ، ولكن أجهزة بعض الحيوانات تختلف كل الاختلاف ؛ فالكلب ، مثلا ، يستطيع أن يشم ريح الحيوان الذي مر من الطريق ، ومن ثم استغلت الكلاب في البحث عن الجرائم والمجرمين. . فالقفل المكسور ، وفجأة نراه يمسك باللص من بين الألوف.
وهناك حيوانات كثيرة تسمع أصواتا تخرج عن نطاق أسماعنا ، ولقد أثبتت البحوث في هذا الميدان أن بعض الحيوانات يتمتع بقوة (الإشراق) Telepathy. فلو أنك وضعت حشرة مما يطلق عليه (Moth) ، أو (العثة) ، وهي حشرة مجنحة-علي نافذة مفتوحة ، فستحدث صوتا يسمعه زوجها علي مسافة بعيدة جدا ، ولسوف يجيبها هذا الزوج أيضا بطريقته.
وهناك نوع خاص من هذه الحشرات يدعي (الجندب) ، يحك رجليه وجناحيه ويصوت بطريق غير عادية ، ويسمع علي مبعدة نصف ميل وهو يحرك في هذه العملية ستمائة طن من الهواء ، ليدعو زوجه وهذه الزوج ترسل أيضا وهي ساكنة بلا حراك جوابا لا نعرفه ، إنما يعرفه الجندب الذكر ثم يلحق بها أينما كانت.
وقد أثبتت البحوث أيضا أن (أبو النطيط) العادي Grasshoper لديه قدرة خارقة علي السماع حتى إنه يستطيع أن يسمع ويحس الحركة التي تحدث في نصف قطر من ذرة الهيدروجين!
وهناك أمثلة أخري كثيرة ، تؤكد إمكان وجود وسائل غير مرئية لدي ذوي الحواس الخاصة.
وإذا كان الأمر كذلك فما وجه الغرابة في ادعاء إنسان أنه يسمع صوتا من لدن ربه ، لا يدركه عامة الناس(؟) ما دام من الممكن أن توجد في هذا العالم حركات وأصوات لا تسمعها آذان الإنسان ، ولكن تسجلها الآلات؟ وما دامت هناك رسائل تدركها حيوانات دون أخري؟
ما هو التعجب والاستبعاد؟
إن الله تعالي- لحكمة يعلمها- يرسل رسائله بوسائل خافتة خفية إلي الإنسان المختار للرسالة بعد أن يودع فيه صلاحية التقاطها وفهمها. فليس هناك من تصادم في الحقيقة ، بين مشاهداتنا وتجاربنا العلمية ، فهو واقع من الوقائع الكثيرة التي نشاهدها ونجربها في أمكنة وطرق مختلفة فالوحي إمكان وجدناه في شكل الواقع بعد التجربة.
* * *
وقد تبين أن تجارب الإشراق أو الانكشاف ومعرفة الغيب لا تخص الحيوانات ، وإنما توجد في الإنسان (بالقوة) ، يقول الدكتور إليكسيس كيريل (108) : (إن حدود الفرد في إطار الزمان والمكان هي مجرد افتراض(109). فيستطيع عامل الإشراق أن يجعلك تنام ، وتضحك أو تبكي ، كما يستطيع أن ينقل إليك كلمات أو خواطر ، ليست علي علم بها. إنها عملية لا تستعمل فيها أية وسائل ولا يشعر بها غير عامل الإشراق وصاحبه.
كيف يستحيل وقوع هذه العملية نفسها بين العبد وربه؟ إننا بعد الإيمان بالله ، والإطلاع علي هذه التجارب الكثيرة بما ذلك الإشراق ، لا نجد أساسا لإنكار الوحي والإلهام.
* * *
وقد حدث سنة 1950 أن المسئولين في (بافاريا) رفعوا قضية ضد أحد النمسويين ، واسمه (فرنتر ستروبيل) ، بتهمة التدخل في برامج الإذاعة عن طريق الإشراق.
وكان فرنتر ستروبيل يستعرض أعماله في فندق ريجينا ، بميونيخ ، عندما ناول أوراق لعب الكوتشينة إلي أحد المتفرجين ، وطلب إليه اختيار ورقة ما ، وادعي أنه سوف ينقل اسم تلك الورقة واسم الفندق مع ترتيبهما ، كما هما في ذهن المتفرج ، إلي المذيع الذي كان يقرأ الأخبار من إذاعة ميونيخ المحلية ، ذلك دون أن يعرف المذيع نفسه شيئا من هذا ! !
بعد ثوان سمع الناس صوت مذيع مرتعش ، هو يقول : (فندق ريجينا- بنت البستوني) وكان الترتيب واسم الورقة صحيحين ، كما أراد المتفرج.
وكان الارتعاش والرهبة واضحين في صوت المذيع ولكنه واصل قراءة الأخبار. استغرب الكثيرون من المستمعين من سكان ميونيخ ، واتصل مئات منهم تليفونيا بالإذاعة يستفسرون عن السر الغامض. . فكان من الصعب عليهم إدراك علاقة الأخبار (بفندق ريجينا- بنت البستوني) : وحضر طبيب الإذاعة للكشف علي المذيع فوجده في حالة اضطراب خطيرة ، وأدلي المذيع ببيانه قائلا: (إنني شعرت بصداع شديد في رأسي ، ولا أعرف ماذا حدث بعد ذلك!)
* * *
وقد عرض العلماء نظريات عديدة لشرح هذه الصور من عملية الإشراق ، ومنها أن أمواجا تصدر من المخ وتنتشر في العالم أجمع بسرعة فائقة ، ولذلك سموها بنظرية الموجة المخيةBrain Wave Theory(110).
ونحن نقول: إنه لما كان الإنسان يستطيع تحويل الأفكار بأكملها إلي إنسان آخر، علي بعد غير عادي ، وبدون استعمال أي واسطة مادية ظاهرية ، فلماذا تستحيل نفس العملية بين الإله وعباده؟ إن هذا المظهر من كفاءة قوي الإنسان-وأمثلته كثيرة لا تحصي- ليس إلا قرينة تجريبية تجعلنا نفهم علاقة الألفاظ والمعاني التي تربط العبد بالإله عندما يرسل رسالاته.
إن الإشراق أمر معروف لدي الناس وهو يدلنا علي فهم ذلك النظام الإشراق العظيم بين الإله والعباد ، والذي يكون في أكمل صوره حين يبلغ درجة (الوحي) وهذا الوحي لا يعدو أن يكون (إشراقا كونيا) ، من نوع الإشراقات التي عهدناها في حياتنا علي مستويات محدودة.
* * *
أولا – ضرورة الرسالة:
وينبغي-بعد وضوح إمكان الوحي والإلهام- أن نبحث عما إذا كان (ضروريا) أن يخاطب الله إنسانا ليبلغ كلامه إلي الناس؟
إن أكبر دليل علي هذه الضرورة هو أن الأمر الذي يخبر عنه الرسول من أهم الأمور التي تتعلق بحياة الإنسان ومصيره ، والإنسان لا يستطيع أن يصل إلي تلك الحقائق بجهوده الشخصية ، إنه يبحث منذ آلاف السنين عن حقيقة الكون كي يفهم أسرار بدء الحياة ونهايتها ، وحقائق الشر والخير وكيفية صوغ الإنسان من أجل الإنسانية ، وتنظيم أجهزة الحياة حتى تستطيع الإنسانية أن تسير قدما في طريق الخير والرفاهية. . ولم تكلل هذه الجهود بالنجاح إلي يوم الناس هذا. فقد كشفنا عن أسرار الحديد والبترول ، وتعرفنا علي حقائق الطبيعة بعد جهد قصير ، ولكننا عاجزون عن كشف (علم الإنسان) رغم أن جهود أعظم عقولنا العبقرية تواصل البحث عن هذا العلم ولم تستطع حتى الآن تحديد مبادئه وأسسه. إن هذا هو أكبر دليل علي أن الإنسان يحتاج إلي هدي الله من أجل أن يعرف نفسه!
* * *
ومن المسلم عند الإنسان الجديد أنه لم يفلح بعد في كشف لغز الحياة ، ولكنه علي كل حال يأمل في أن يساعده القدر يوما لرفع القناع عن هذا السر المعقد ، ولا ريب أن عجز مجتمع العلم الصناعة عن إشباع الحاجات النفسية للإنسان يؤكد الفكرة التي تقول: (إننا أعطينا أهمية غير عادية للعلوم المادية ، علي حين تركنا العلوم الإنسانية في مراحلها البدائية) ، أما الذين دفع بهم طموحهم الجارف إلي العمل في هذا المجال ، مجال (العلوم الإنسانية) فهم كذلك لم يستطيعوا كشف شيء ما ، بل لجوا في ضلال يعمهون ، يقول الدكتور إلكسيس كيريل (الحائز علي جائزة نوبل للعلوم):
(إن مبادئ الثورة الفرنسية ، وأفكار ماركس ، ولينين ، لا تنطبق إلا علي الإنسان العقلي المثالي. ومن الواجب أن نشعر بصراحة تامة بأن قوانين العلاقات الإنسانية لم تكشف بعد.
أما الاجتماع والاقتصاد وما أشبههما ، فهي علوم افتراضية محضة ، بدون أدلة يمكن إثباتها بها(111)).
ولا شك أن علومنا الجديدة قد فتحت مجالات أمام الإنسان ، ولكنها في نفس الوقت جعلت المسألة أكثر تعقيدا ، ولم تساعد في حل الأزمة في أية مرحلة.
ويقول الأستاذ ج. و. ن. سوليفان:
(إن الكون الذي كشفه العلم الحديث هو أكثر غموضا وإبهاما من التاريخ الفكري بأكمله ، ولا شك في أن علمنا عن الطبيعة أكثر غزارة من أي عصر مضي ، ولكن هذه المعلومات كلها غير مقنعة ، فنحن نواجه اليوم الإبهام والمتناقضات في كل ناحية(112)).
هذه الكارثة المؤسفة التي نقف أمامها ، بعد بحث طويل في العلوم المادية عن سر الحياة ، تدلنا علي أن إدراك سر الحياة لن يتاح للإنسان(113).
إن أحوالنا تحتم علينا معرفة سر الحياة ، إذ أننا لا نستطيع مواصلة الحياة في أكمل صورها دون معرفته ؛ ولذلك كان خير ما نتمنى بقلوبنا أن ندركه ، ولا يرضي أسمي جزء من شخصيتنا ، وهو العقل ، أن يطمئن بدونه. فحياتنا مبعثرة لفقداننا هذه الحقيقة.
سر الحياة هو ضرورتنا الكبرى ، هذا من ناحية ، ولكننا ، من ناحية أخري ، لا نستطيع أن نظفر به جهودنا وحدها. .
هذه الحالة وحدها تكفي لنتبين حاجتنا الشديدة إلي (الوحي) ، فأهمية سر الحياة ، ثم خروج هذا السر عن دائرة قوي الإنسان ، يدل علي أنه لابد أن تأتي المعرفة من الخارج أيضا ، كالضوء والحرارة اللذين توقف عليهما حياة الإنسان ، ولكنهما هيئا من الخارج(114).
* * *
إن مهمتنا بعد التسليم بإمكان الوحي وضرورته ، هي أن نبحث عن الإنسان الذي يدعي أنه نبي. . هل هو صاحب الوحي في الحقيقة؟. . لقد نصت العقيدة الدينية علي مجيء عدد كبير من الأنبياء ، ولكننا سوف نبحث في هذا الباب عن نبوة رسول الإسلام: سيدنا محمد بن عبد الله (صلي الله عليه وسلم) ؛ فإن سائر الأنبياء من قبله تثبت تلقائيا لو ثبتت نبوته ، لكونه آخر الأنبياء ، ولأنه يصدقهم ولا ينكرهم ، ولأن نجاة البشرية أو هلاكها في معركة الحياة رهن بإيمانها بهذا النبي ، أو تكذيبها إياه.
* * *
لقد ولد الطفل بمكة صبيحة يوم29 أغسطس من عام 570م وعندما بلغ الأربعين من عمره ، أعلن أن الله تعالي أرسله خاتما للنبيين وكلفه بإبلاغ رسالته إلي جميع فئات الجنس البشري ، وأن من اتبعه نجا في الحياة الآخرة ، ومن كذبه فهو في خسران مبين.
إن أصداء هذا الصوت تمر فوق رؤوسنا اليوم بأشد قوتها ، وهو ليس بصوت عادي تتجاهله الآذان. . فهو أكبر نداء في تاريخنا يدعونا إلي تفكير دقيق ، وعلينا أن ندرسه بدقة فإما قبلناه وهو صادق وإما رفضناه لو وجدناه كاذبا. . . وهيهات.
* * *
ثانيا- مقياس الرسالة:
كل فكر يمر بثلاث مرحل ، حتى يصبح حقيقة علمية:
المرحلة الأولي : الفرض Hypothesis
المرحلة الثانية :الملاحظة Observation
المرحلة الثالثة : التحقق Verification
والمرحلة الأولي من الحقائق هي أن نفترضها ، ثم نشاهدها وندرسها ، لنتبين صدقها أو كذبها ، فإن وجدناها صحيحة في ضوء الدراسة ، قبلناها ؛ لتصبح حقيقة علمية ، وقد ينقلب هذا الوضع فإننا في بعض الأحيان نشاهد أشياء نتوصل بها إلي نظرية ثم نبدأ البحث في ضوئها.
وبناء علي هذا الأساس فإن دعوى النبوة (فرض). وعلينا أن نفتش عما إذا كانت (الملاحظات) تؤيد هذا الفرض؟ فإذا أيدته المشاهدات أصبح (حقيقة) مصدقة ،يلزمنا قبولها. .
ولكن ما الملاحظات التي نحتاج إليها لاختبار هذا الفرض؟
وما المظاهر الخارجية التي تؤيد كون محمد (صلي الله عليه وسلم) نبيا حقا؟
وما الخصائص والميزات التي اجتمعت في الرسول ، ولا نجد لها تفسير إلا إذا قلنا: إنه كان نبيا!
في رأيي أنه لابد من مقياسين لاختيار الأنبياء:
أولا: أن يكون رجلا مثاليا بصورة غير عادية ، فإن الذي يصطفي ليكون كليم الله ، وليكشف للإنسان برنامج الحياة وسرها ، لابد أن يكون أسمي شخصية في النوع الإنساني ، كما لابد أن يكون حاملا مثل الحياة العليا. فإذا كانت حياته الذاتية متصفة بهذه الصفات فهي أكبر دليل علي ما يقول ؛ إذ لو كانت دعواه باطلة لما كان ممكنا أن تتجلي هذه الحقيقة الكبرى في حياته الذاتية ، حتى تسمو به فوق سائر الإنسانية ، خلقا وشمائل.
ثانيا: أن يكون كلامه ورسالته مملوئين بجوانب يستحيل حصولها لإنسان العادي ، ولا تؤمل إلا ممن ظفر بمعرفة رب الكون ، بحيث لا يمكن للعامة محاكاة ما جاء به النبي من وحي الله.
إننا سوف نبحث عن الرسول في ضوء هذين المقياسين.
* * *
لقد شهد التاريخ بكل قطعية أن محمدا صلي الله عليه وسلم كان يتمتع بسيرة غير عادية ، ومن الممكن للمتعصبين إنكار أية حقيقة مهما كانت واضحة ، كما أن من الممكن للمنكرين ادعاء أي شيء في سبيل الاستغلال ، إذا كانوا غير راضين بالنتيجة مهما كانت صادقة وبدهية! وحسبنا أن نذكر علي ذلك موقفا من حياتنا الحديثة! فقد شاهدنا منذ سنين قليلة مثالا ساخرا لهذا المبدأ ، عندما هاجمت الصين الشعبية حدود الهند الدولية ، وأخذت الصين إزاء احتجاج الهند تتهم الهند نفسها بالعدوان! !
وفي الخطاب الذي أرسله رئيس وزراء الصين إلي الهند والذي أذيع نصه بدلهي في يناير عام 1960 ، ادعت الصين أن لها حقا في أراض هندية تبلغ مساحتها 220.000 كم مربعا! ! ويقول رئيس وزراء الصين: إن القوات الصينية لم تتقدم إلا لتدفع بالقوات الهندية المحتلة إلي الوراء! !
أليس هذا منطق التعصب والاستغلال! !
أما الذي لا يشكو من داء التعصب ، ويهيئ عقله لمطالعة الحقائق بقلب مفتوح واع ، فإنه سيسلم بعد دراسته بأن حياة محمد صلي الله عليه وسلم كانت أرقي وأحلي حياة شهدها البشر.
* * *
لقد أخبر محمد بن عبد الله بالنبوة وهو في الأربعين من عمره ، وكان قد اشتهر قبل هذا بدور أخلاقي ممتاز حتى لقبه الناس(بالصادق الأمين) ، وكانت قريش قد أجمعت علي أنه يستحيل أن يكذب أو يخون الأمانة.
ومن الأحداث التي جرت قبل إعلانه النبوة بخمس سنين أن أهل مكة أرادوا بناء الكعبة من جديد وكانت قريش هي صاحبة الأمر فاختلفت فيمن سيضع الحجر الأسود في مكانه ، واستمر الخلاف أربعة أيام أو خمسة ، وأوشكت السيوف أن تبرز وكاد القوم أن يتناحروا ، ثم اتفقوا علي أن يكون الفيصل في هذه القضية أول من يدخل البيت الحرام صباح غد ، وفي اليوم التالي شاهدوا أن الإنسان الأول الذي دخل البيت كان محمدا فنادوه قائلين : (هذا الأمين ، رضينا(115) ).
إنا لا نعرف شخصية في التاريخ الإنساني تمتعت بهذا الإجلال والتكريم والتقدير وبهذه السيرة غير العادية ، ثم أصبحت موضع نزاع بعد مضي أربعين سنة من عمرها.
* * *
وعندما نزل عليه الوحي لأول مرة وهو في غار حراء ، اعتبره حادثا غريبا لم يعهده من قبل ، فرجع إلي بيته يرجف فؤادة ، وقص كل ما حدث علي زوجه : خديجة التي كانت أكبر منه سنا ، فقالت: (يا أبا القاسم والله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين علي نوائب الدهر).
وكان أبو طالب عم النبي ، قد أبي حين علم أن ابنه (عليا) أسلم قال له: أي بني: ما هذا الذي أنت عليه؟ فقال : يا أبت آمنت بالله ، وبرسول الله ، صليت معه واتبعته ، فقال أبو طالب : أما إنه لم يدعك إلا إلي خير فالزمه(116)).
وعندما جمع الناس لأول مرة بعد النبوة في رحاب (جبل الصفا) سألهم : (يا بطون قريش! أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم ، أكنتم مصدقي؟) فعلت الأصوات من كل الحناجر ، وهي تقول : (نعم ، ما جربنا عليك كذبا!)
إن هذا السجل التاريخي الممتاز لحياة الرسول قبل إعلان النبوة ليس له مثيل في العالم ، ولم يسبق أن أحرز مثله أي شاعر ، أو فيلسوف ، أو مفكر ، أو كاتب! ! !
* * *
وعندما أعلن محمد (صلي الله عليه وسلم) النبوة لم يكن يصدقه موضع شك ، أو بحث مطلقا لدي أهل مكة ؛ فإنهم كانوا علي علم تام بحياته الكاملة ولذلك لم يرمه أحد بتهمة الكذب أو الاحتيال ، بل ذهبوا يدعون أنه فقد وعيه أو أنه شاعر أو ساحر أو أن الجن استولت علي أعصابه ، وما إلي ذلك من الدعاوى التي تحفل بذكرها الكتب التاريخية ؛ ولكن هذه الكتب لا تشير إلي أية محاولة جرؤ صاحبها علي النيل من أمانته وصدقه. بل يسجل التاريخ أنه : (ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده ، لما يعلم من صدقه وأمانته(117)).
وفي السنة الثالثة عشرة من النبوة ، صمم بعض شبان قريش علي قتله ، وحاصروا بيته لاغتياله ؛ وفي تلك الساعة الخطرة الحرجة قرر الهجرة إلي يثرب ، ولكنه أوصي ابن عمه (عليا) أن يرد جميع الأمانات إلي أصحابها في الصباح!
وهذا النضر بن الحارث ، وقد كان من أكبر المعارضين للنبي ، وكان يعد من الخبراء المحنكين بمكة- وقف يوما ، فألقي خطبة في جمع من قريش ، وقال:
(يا معشر قريش ، إنه ، والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد ، قد كان محمدا فيكم غلاما حدثا ، أرضا كم فيكم ، وأصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر ، لا والله ، ما هو بساحر ؛ لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم. وقلتم : كاهن ، لا والله ، ما هو بكاهن؛ قد رأينا الكهنة تخالجهم ، وسمعنا سجعهم. وقلتم: شاعر ، لا والله ، ما هو بشاعر ؛ قد رأينا الشعر ، وسمعنا أصنافه كلها ، هزجه ورجزه. وقلتم : مجنون ، لا والله ، ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون ، فما هو يخنقه ، ولا وسوسته ، ولا تخليطه. يا معشر قريش ؛ فانظروا في شأنكم ، فإنه والله ، لقد نزل بكم أمر عظيم).
(وكان هذا النضر من شياطين قريش ، وممن كان يؤذي رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وينصب له العداوة(118)).
وكان أبو لهب عم النبي من ألد أعدائه ، وقال له ذات مرة : (يا محمد ، إنني لا أقول : إنك كاذب ، ولكن الأمر الذي تقوم بتبليغه باطل(119)).
* * *
إن نبوة محمد صلي الله عليه وسلم كانت عامة لسائر أهل الأرض ، غير مقصورة علي الجزيرة العربية ، ولذلك أرسل كتابات إلي ملوك البلاد القريبة ، وقد تلقي إمبراطور الروم (هرقل) كتابا من الرسول ، يدعوه إلي اعتناق الدين الجديد ، فأمر رجاله بإحضار رجل من قوم الرسول في ديوانه (120). وكان بعض التجار من قريش يقومون برحلة تجارية في بلاد الشام ، فجئ بهم إلي ديوان القيصر ، وسألهم هرقل عمن كان أقربهم نسبا بالرسول ، فأجاب أبو سفيان: (أنا أقربهم نسبا) . ثم جري حديث تاريخي هام بين هرقل وأبي سفيان ، نقتبس هنا منه شيئا:
(هرقل: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
أبو سفيان: لا
هرقل: هل يغدر؟
أبو سفيان: لا ، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها.
فقال هرقل: قد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب علي الناس ويكذب علي الله.
وعندما دار هذا الحديث لم يكن أبو سفيان قد آمن بالرسول بعد ، بل كان من خصومه ، الذين ألبوا عليه العرب ، وشنوا ضده الحروب وقال ، وهو يروي هذا الحادث: (والله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه(121).
إن التاريخ علي طوله لم يشهد رجلا أدلي خصومه بآراء مثالية عن سيرته وحياته مثلما أدلي به خصوم رسول الإسلام.
إن هذا الواقع هو الآخر دليل في حد ذاته علي حقيقة دعوة النبي العربي. وسوف أنقل هنا ما قاله الدكتور ليتز عن الرسول:
(إنني لأجرؤ بكل أدب أن أٌقول: إن الله الذي هو مصدر ينابيع الخير والبركات كلها ، لو كان يوحي إلي عباده فدين محمد هو دين الوحي ، ولو كانت آيات الإيثار ، والأمانة ، والاعتقاد الراسخ القوي ، ووسائل التمييز بين الخير والشر ، ودفع الباطل هي الشاهدة علي الإلهام ، فرسالة محمد هي هذا الإلهام(122)).
* * *
لقد عاني محمد (صلي الله عليه وسلم) من صنوف الأذى وضروب العنت والاضطهاد عندما بدأ دعوته ؛ وحاربه قومه أشد الحرب وأقساها ، فوضعوا في طريق مروره الأشواك ، وصبوا علي جسمه الطاهر أكواما من النجاسة. . بل ووجدناه ذات مرة بينما كان يؤدي صلاته ، وإذا (عقبة بن أبي معيط) يلببه بردائه بشدة حتى وقع النبي علي الأرض. . .
ولكن هذه الاستفزازات لم تؤثر في مهمة النبي فاتبعوا معه أسلوبا آخر ، وذلك حين قاطعوه هو وعشيرته من بني هاشم ، وأجبروهم علي أن يعتزلوا الناس ، فلجأوا إلي شعب بني هاشم ، ومنعوا عنهم الطعام وحرموا التعامل معهم ، ومضي علي هذه المقاطعة والحصار التاريخي ثلاث سنين ، وهم يأكلون أوراق شجر (الطلح) الجبلية المرة ، لسد حاجة البطن إلي الطعام. ويروي أحد الصحابة في هذا الحصار أنه حصل مرة علي قطعة جافة من الجلد ، فغسله بالماء ووضعه علي النار ، ثم بلله بالماء ثانية وأكمله.
وبعد الخروج من هذا الحصار ذهب النبي صلي الله عليه وسلم إلي أهل الطائف ، وكانت تبعد أربعين ميلا عن مكة ، وكان يقطنها الأعيان والأثرياء من ثقيف ، واستخدام هؤلاء لغة بالغة السوء مع الرسول. وذهب أحدهم متحديا: (هو يمرط (يمزق) ثياب الكعبة ، إن كان الله أرسلك) ، وقال الآخر: (أما وجد الله يرسله غيرك). وقال الثالث: (واله لا أكلمك أبدا ، لئن كنت رسولا من الله ، كما تقول ، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ، لئن كنت تكذب علي الله ما ينبغي لي أن أكلمك).
ولم يكتف هؤلاء بهذا الاستهزاء ، بل أغروا به سفهائهم وعبيدهم ، يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس يرمونه بالأحجار ، إلي أن سقط علي صخرة مثخنا بالجراح ، وحين جلس ليستريح من الجراح والعنت ، رموه حتى نهض مبتعدا عنهم ، وهم يتابعونه بالسب والإيذاء والتصفيق. . ولم يزل هذا المشهد حتى أقبل المساء ، وأوي الرسول إلي حائط لعتبة بن ربيعة ، فجلس في ظل كرمة ، وهو جريح ملطخ بالدماء. وهذا الواقع الذي كان الرسول يذكره للسيدة عائشة في قوله:
(لقد لقيت من قومك ما لقيت ؛ وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة(123)).
* * *
وعلي الرغم من هذا الأذى الشديد ، فقد ظل الرسول يدعو إلي الحق. حتى اجتمعت قريش علي أنه لا سبيل إلي التخلص منه إلا بالقتل. وبناء علي مؤامرة دبروها ، أحاط عد من رؤسائهم وشبيبتهم ببيت الرسول ، وفي أيديهم سيوفهم المسلولة ، استعدادا لاغتيال الرسول صلي الله عليه وسلم. عندما يخرج من بيته لتأدية صلاة الصبح ، ولكنه بإذن من الله ، خرج من البيت دون أن يصاب بأذى ، وهاجر إلي المدينة المنورة.
ثم أعلنت قريش قتالا ضد النبي وأعوانه ، وجروه إلي الحرب ، وورطوه في هذه الحرب زهاء عشر سنين ، وقد سقطت في معاركها أسنانه الكريمة ، وكسرت رباعيته ، كما استشهد عدد كبير من صحابته ، وعاني مع أصحابه كل ما تعانيه الشعوب الضعيفة بعد إعلان الحرب عليها.
وهكذا دارت رحى التاريخ خلال ثلاثة وعشرين عاما من الكفاح ، وقبيل نهاية رسالته بعامين فتحت مكة ، ويومها وقف أمامه ألد خصومه ، لا يجدون نصيرا ولا معينا. . فهم يعرفون كيف يعامل المنتصر المغلوبين ، ولكن الذي لقبه ربه بأنه (رحمة للعالمين) سألهم:
_ (يا معشر قريش ، ما تظنون أني فاعل بكم؟)
_ فقالوا: (خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم).
- فأعلنها الرسول صلي اله عليه وسلم.
(اذهبوا فأنتم الطلقاء!)
ذلكم ، ولا شك ، أعظم مثل للرحمة والعفو ، وهو معجزة من معجزات التاريخ الإنساني. ولو كان هذا الحدث من أحداث ما قبل التاريخ ، أو لم يكن مسلما به تاريخيا ، لكذبه المكذبون الذين في قلوبهم زيغ ، وقالوا: إنها أسطورة من أساطير التاريخ ، فلم يخلق إنسان بهذه الشيم!
وما أصدق ما قاله البروفيسور بورسورث سميث:
(وعندما ألقي نظرة إجمالية أستعرض فيها صفاته و بطولاته ما كان منها في بدء نبوته ، وما حدث منها فيما بعد ، وعندما أري أصحابه الذين نفخ فيهم روح الحياة ، وكم من البطولات المعجزة أحدثوا- أجده أقدس الناس ، وأعلاهم مرتبة ، حتى إن الإنسانية لم تعرف له مثيلا(124).
إن المثل الأعلى الذي ضربه النبي في حياته الكاملة ، من الأخلاق العالية ، والزهد في الأموال والملذات ، شئ لا مثيل له في التاريخ.
لقد كان تاجرا ناجحا في مكة ، وكانت زوجه السيدة خديجة من أثري نساء العرب ، ولكن كل تجارته ، وثراء زوجته ، ذهبا في سبيل الدعوة ، ثم ابتلي ببلاء شديد ، حتى إنه قال مرة:
(لقد أخفت في الله ، وما يخاف أحد (أي مثل ما أخفت) ، ولقد أوذيت في الله ، وما يؤذي أحد ، ولقد أتت علي ثلاثون من بين ليلة ويوم ، وما لي و لبلال طعام يأكله ذو كبد ، إلا شيء يواريه إبط بلال)(125).
وما عاني النبي كل هذا إلا لأجل دعوته ، لقد كان من الممكن أن يعيش حياة أخري ، تختلف كل الاختلاف عن الحياة البائسة التي عاشها في سبيل رسالته ، ولقد عرضت عليه حين كان بمكة ، عروض مغرية تكفل له العيش الرخي ، والمجد السني ، فأوفد إليه رؤساء قريش (عتبة بن ربيعة) ، الذي جاء ليقول له:
(يا ابن أخي ، إنك منا ، حيث قد علمت من السطة في العشيرة ، المكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ؛ فاسمع مني أعرض عليك أمورا ، تنظر فيها ، لعلك تقبل منها بعضها. فقال له: قل يا أبا الوليد أسمع ، قال: يا ابن أخي: إن كنت إنما تريد ، بما جئت به من هذا الأمر ، مالا ، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ؛ وإن كنت تريد به شرفا ، سودناك علينا ، حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد به ملكا ، ملكناك علينا: وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع علي الرجل حتى يداوي منه). حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول الله صلي الله عليه وسلم يستمع منه قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم قال:
فاستمع مني ، فقال: أفعل. . عليه الآيات الأولي من سورة (فصلت) ، فلما وصل إلي قوله تعالي: (مثل صاعقة عاد وثمود) أمسك عتبة علي فمه وناشده الرحم أن يكف(126)).
* * *
وفي المدينة المنورة ، كان النبي صلي الله عليه وسلم رئيسا لدولة المسلمين ، وكان يتمتع بمساعدين مثاليين ، يبذلون حياتهم لأجله ، ولم يعرف لهم نظراء علي مدي التاريخ ، ولكن الوقائع التاريخية أثبتت أنه- حتى في آخر أيام حياته ، حين أظلت رايته الجزيرة العربية كلها- بقي رجلا عاديا ، غير ملتفت إلي شهوات الدنيا ومغرياتها ، حتى لحق بالرفيق الأعلى.
وقد روي سيدنا عمر بن الخطاب أنه دخل حجرة النبي صلي اله عليه وسلم: (فإذا هو مضطجع علي رمال حصير ليس بينه وبينه فراش ، قد أثر الرمل بجنبه ، متكئا علي وسادة حشوها ليف. . قلت : يا رسول الله أدع الله ، فليوسع علي أمتك ، فإن فارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله. فقال: أو في هذا أنت ، يا بن الخطاب؟ أولئك عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا ، وفي رواية ؛ أما ترضي عن أن تكون لهم الدنيا ، ولنا الآخرة(127)).
ومما تحكي السيدة عائشة أنه (كان يمر الهلال ، ثم الهلال ، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين ، وما توقد في أبيات الرسول صلى الله عليه وسلم نار ؛ فسألها عروة بن الزبير : فما كانت معيشتكم ، يا خالة ؟ قالت : الأسودان : التمر والماء . وقالت : وكان لنا جيران من الأنصار ، لهم ربائب يسقوننا من لبنها ، جزاهم الله خيرا .) . وقد جاء في حديث آخر : أنها ذكرت ( أن آل محمد لم يشبعوا ثلاثة أيام متوالية من طعام بر ، حتى مضى النبي صلى الله عليه وسلم ، لسبيله (128) ).
* * *
لقد عاش النبي هذه الحياة القاسية ، رغم كونه قادرا ، على أن يعيش حياة النعيم والترف . وعندما انتقل إلى رحمة الله لم يورث أهله شيئا ، لا دراهم و لا دنانير ، ولا غنما ولا إبلا ، حتى إنه لم يكتب أية وصية . بل إن النبي العظيم ، الذي كان على معرفة تامة بأن حدود دولته الإسلامية سوف تمتد عابرة إفريقية وآسيا ، حتى تصل إلى قلب أوروبا - قال : ( نحن معشر الأنبياء ، لا نورث ؛ ما تركنا صدقة ) .
* * *
إن هذه الوقائع التي أوردناها ، من الإيثار ، والإخلاص ، وسمو الأخلاق ، ليست حوادث استثنائية في حياة الرسول ، وإنما هي حياتنا بأكملها ، بل هي بالحرى ، صورة مصغرة وموجزة عن الوقائع التي كانت تحدث في حياته المثالية ، لقد ارتفع بالإنسانية إلى أسمى قمة تحلم بها ، حتى إنه لو لم يوجد ، لاضطر المؤرخون إلى القول : بأنه لم يوجد إنسان من هذا الطراز ، ولن يوجد في التاريخ .
* * *
فليس غريبا ، مطلقا ، أن يقال : إنه كان نبي الله ، ولكن الغريب أن ينكره أحد منا عنادا وغرورا .
ونحن عندما نسلم بدعواه يمكننا أن نفسر سر حياته المعجزة .
أما إذا أنكرنا نبته ، فسنفقد أي أساس لتفسير منبع أوصافه العجيبة ، التي لم نجد لها مثيلا في التاريخ .. وقد اعترف البروفيسور ( بوسورث سميث) بهذه الحقائق ، حتى إنه ليدعو البشرية كلها إلى الإيمان برسالة النبي :
(لقد ادعى محمد لنفسه في آخر حياته نفس ما ادعاه في بداية رسالته .) وإني لأجدني مدفوعا إلى الاعتقاد بأن كلا من الفلسفة العليا والمسيحية الصادقة سوف تضطران ، يوما ما ، إلى التسليم بأنه كان نبيا .. نبيا صادقا من عند الله.(129)
* * *
أما الناحية الأخرى في قضية إثبات الرسالة المحمدية ، فهي ذلك الكتاب الذي جاء به صاحب الرسالة ، مدعيا أنه منزل من عند الله تعالى.
وهذا الكتاب يفيض بخصائص ومزايا تدل على أنه كلام غير إنساني ، وأنه من عند الله . ولما كان البحث في هذه الناحية ذا طبيعة خطيرة – نظرا لأهميته – فقد قدرنا أن ندرسه في باب مستقل ..
0 التعليقات:
إرسال تعليق