وقد سميت بهذا الاسم لحديثها عن إنزال الحديد إلى الأرض من السماء, وهي حقيقة لم تتوصل إليها المعارف المكتسبة إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين, كما تتحدث السورة الكريمة عما في الحديد من بأس شديد, وماله من منافع للناس وهو ما أثبتته المعارف المكتسبة كذلك مؤخرا. وسورة الحديد هي السورة الوحيدة من بين سور القرآن الكريم التي تحمل اسم عنصر من العناصر المعروفة لنا, والتي يبلغ عددها أكثر من مائة عنصر.
ويدور المحور الرئيسي لسورة الحديد حول قضية التشريع الإسلامي ـ شأنها في ذلك شأن كل السور المدنية ـ وإن لم تغفل قضية العقيدة الإسلامية.
هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة الحديد, وما جاء فيها من تشريعات, وركائز العقيدة الإسلامية, وعدد من الإشارات العلمية, ونركز هنا على أوجه الإعجاز التاريخي والتربوي والعلمي في وصف القرآن الكريم لعدد من المواقف الرئيسية في سيرة عبد الله ونبيه المسيح عيسى ابن مريم ـ على نبينا وعليه من الله السلام ـ وذلك في النص الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال وفي غيره من آيات القرآن المجيد.
من أوجه الإعجاز في استعراض القرآن الكريم لعدد من المحطات الرئيسية في سيرة المسيح عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ:
جاء ذكر المسيح عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ في كتاب الله خمسا وثلاثين مرة (35) منها ما جاء باسم المسيح (3 مرات), وما جاء باسم عيسى (9 مرات), وما جاء باسم ابن مريم (مرتان) وباسم عيسى ابن مريم (13 مرة) وباسم المسيح ابن مريم (5 مرات) وباسم المسيح عيسى ابن مريم (3 مرات),.
وهذه الآيات القرآنية الكريمة تشير إلى الحقيقة التاريخية والدينية لرسول من أولي العزم من الرسل هو المسيح عيسى ابن مريم (عليه وعلى أمه السلام), وتشير الآيات إلى أن السيدة مريم ابنة عمران رزق بها والدها على الكبر إثر دعاء عريض, فكانت ابنة لأبوين صالحين, وكان أبوها من بيت النبوة حيث ينتمي نسبه إلى سليمان بن داود - عليهما السلام- وبلغ بالأبوين الصالحين الكبر دون أن يرزقا بذرية فتوجهت زوجة عمران إلى الله ـ تعالى ـ بالدعاء أن يرزقها ولدا تهبه لخدمة المسجد الأقصى, والقيام على سدانته, ومع إلحاحها في الدعاء, وإخلاصها وخشوعها استجاب الله ـ سبحانه وتعالى ـ دعاءها فحملت, وقبل أن تضع حملها فارق زوجها العبد الصالح عمران دنيا الناس وترك زوجته الحامل أرملة.
ولما جاء وقت الوضع, فوجئت أرملة عمران بأن وليدها أنثي, فسمتها مريم وعرفت باسم مريم ابنة عمران وفي ذلك يقول القرآن الكريم:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [ آل عمران:33 ـ36].
وتنازع الصالحون المعاصرون فيما بينهم من يكفل مريم, ولكن الله ـ تعالى ـ كفلها زوج خالتها, الذي كان نبي ذلك الزمان في قومه, وهو العبد الصالح والنبي الصالح زكريا الذي رعاها حتى كبرت, وفي ذلك يقول القرآن الكريم:
﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ آل عمران :37 ].
وَإِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [ آل عمران:42 ـ46 ].
اجتهدت مريم في العبادة والتنسك والزهد في الدنيا, والتبتل في الطاعة حتى فوجئت في يوم من الأيام بالملائكة تبشرها بأن الله (تعالى) سوف يهب لها ولدا زكيا, وأن هذا الولد سيكون نبيا كريما مؤيدا بالمعجزات, فتعجبت من قضاء الله, وفي ذلك يقول القرآن الكريم:
إِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ آل عمران:45 ـ47 ].
وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِياًّ * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِياًّ * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِياًّ * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِياًّ *
وعند بلوغ عيسى ابن مريم سن الثلاثين جاءه وحي السماء بالنبوة والرسالة, وأنزل عليه الإنجيل وأمره الله ـ تعالى ـ بدعوة بني إسرائيل إلى دين الله الحق (الإسلام) بعد أن كانوا قد انحرفوا عنه, وأشركوا بالله, وعبدوا الأصنام والأوثان, وطففوا المكيال والميزان, وأقبلوا على ماديات الحياة بشراهة منقطعة النظير, وعبدوا المال والجاه والسلطان من دون الله, وحرفوا التوراة, وزوروا تعاليم الله, وأفسدوا في الأرض إفسادا كبيرا, وأشاعوا فيها مختلف صور النفاق, والرياء, والكذب, والطمع, والشره. فتفشت بينهم المظالم والمفاسد والتجاوزات التي انحطت بهم إلى مادون مستوي الحيوانات.
مضى نبي الله ورسوله عيسى ابن مريم في دعوته لليهود من أجل أن يعودوا إلى دين الله (الإسلام) الذي علمهم إياه رسولهم موسي (عليه السلام) ولكن لم يؤمن معه إلا أقل القليل من الحواريين ومن فقراء اليهود وضعفائهم, ولذلك بدأ كفار اليهود في شن حملاتهم عليه فاتهموا أمه بالزنا (شرفها الله) واتهموه هو بالسحر والهرطقة والكذب والاتصال بالشياطين, وهو الرسول الموصول بالوحي والمؤيد بجبريل (عليه السلام).
ثم أخذ اليهود في الكيد لنبي الله عيسى ابن مريم ـ عليهما السلام ـ عند الرومان الذين كانوا يحتلون أرض فلسطين آنذاك, وأقنعوا الوالي الروماني أن نبي الله عيسى يكتل الناس حوله للقيام بعصيان مدني أو ثورة شعبية ضد الرومان المحتلين فحاولوا القبض عليه وصلبه حيا, ولكن الله ـ تعالى ـ رفعه إليه ونجاه من كيدهم.
من هذا الاستعراض للإشارات القرآنية التي جاءت بشيء من ذكر عبد الله ورسوله المسيح عيسى ابن مريم ـ عليهما السلام ـ تتضح أوجه من الإعجاز التاريخي والتربوي والعلمي تشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه (اللغة العربية) وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتى يبقي القرآن الكريم شاهدا على الخلق أجمعين إلى يوم الدين.
0 التعليقات:
إرسال تعليق