هذه الآيات القرآنية الكريمة جاءت في مطلع سورة الروم , وهي سورة مكية يدور محورها الرئيسي حول قضية العقيدة , شأنها في ذلك شأن كل القرآن المكي .ومن قضايا العقيدة الأساسية الإيمان بوحدانية الخالق (سبحانه وتعالى) , وبوحدة الرسالة , ووحدة الخلق , والإيمان بالآخرة وأهوالها , ومنها هول البعث , وهول الحساب , وهول الميزان , وهول الصراط , وحتمية الجزاء , وحتمية الخلود في الحياة القادمة إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا .وقد ابتدأت السورة الكريمة بالتنبؤ بحدث غيبي قبل وقوعه بعدة سنوات ألا وهو انتصار الروم علي الفرس بعد هزيمتهم أمامهم قبل نزول هذه السورة المباركة بعدة سنوات . وتزخر السورة بالأمر بتسبيح الله , وتنزيهه وحمده , وبالاستشهاد بعدد كبير من الآيات الكونية الدالة علي طلاقة قدرته وشمول علمه , وعدل قضائه .وتنصح السورة النبي والرسول الخاتم (صلى الله عليه وسلم) بأن يقيم وجهه لدين الإسلام الحنيف , الذي لا يرتضي ربنا (تبارك وتعالى) من عباده دينا سواه , لأنه دين الفطرة التي فطر الله (تعالى) الناس عليها , والتي لا تبديل لها , وإن كان أكثر الناس لا يعلمون ذلك , وتأمر المسلمين بالإنابة إلي الله وتقواه , كما تأمرهم بإقام الصلاة , وبالحذر من الوقوع في دنس الشرك بالله , لأن الذين أشركوا قد فرقوا دينهم , وكانوا شيعا عديدة حسب أهوائهم , وكل حزب منهم فرح بما لديه .وتحدثت السورة الكريمة عن شيء من التقلب في طبائع النفس البشرية , والذي لا تستقيم معه الحياة السوية , مثل اللجوء إلي الله تعالى في الشدة , والإعراض عنه في الرخاء , والإيمان به (تعالى) في لحظات الضيق , والشرك أو الكفر به (تعالى) وبما أنزل في لحظات السعة والرحمة , وتضرب السورة مثلا للناس من حياتهم علي سخافة فكرة الشرك بالله إذا ناقشها العقل بشيء من الموضوعية والحيدة .ومن مكارم الأخلاق التي تدعو إليها السورة الكريمة: الأمر بإخراج الزكاة وإيتاء ذي القربى , والمساكين وأبناء السبيل , والنهي عن أكل الربا , علي أن ينطلق ذلك كله من الإيمان بأن الله (تعالى) هو الخالق , الرزاق , المحيي , المميت , وتربط السورة بين ظهور الفساد في البر والبحر وبين أعمال الناس وما كسبت أيديهم , وتأمر بالسير في الأرض لاستخلاص العبر من سير الأولين ,ومصائر الظالمين .وتؤكد السورة مرة ثانية لخاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وسلم) ضرورة الاستقامة على الدين القيم من قبل أن تأتي الآخرة فيصدع بها كل الخلائق ثم يجزي كل بعمله .
ومن الآيات الكونية التي استشهدت بها سورة الروم علي طلاقة القدرة الإلهية :خلق السماوات والأرض , وخلق الأحياء , وخلق الإنسان , كل ذلك في زوجية تشهد للخالق وحده (سبحانه) بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه , ومنها اختلاف ألسنة الناس وألوانهم , وإعطاء الإنسان الاستطاعة علي النوم بالليل أو في النهار , وعلي ابتغاء فضل الله , ومن آياته الرعد والبرق , وإنزال المطر , وإحياء الأرض بعد موتها , وقيام السماوات والأرض بأمره , وخضوع كل من فيها أو عليها بأمره , وبعث الموتى بأمره , وأنه هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده , وله المثل الأعلى في السماوات والأرض .ومن آياته إرسال الرياح برحمة منه وفضل , وجري الفلك بأمره , وإثارة السحاب , وما يستتبعه من أحداث بأمره , ومرور كل حي بمراحل من الضعف , ثم القوة , ثم الضعف والوفاة , ومن آياته أنه يحيي الموتى وأنه علي كل شيء قدير .
وتذكر السورة خاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وسلم) بشيء من قصص من سبقه من الأنبياء والمرسلين , وما أصاب أقوامهم من انتقام من الظالمين , ونصر للمؤمنين , كما تذكره (صلوات الله وسلامه عليه) بأن ما عليه إلا البلاغ .وتختتم السورة الكريمة مرة أخري بالحديث عن البعث وأهواله , وعن مصير أهل الكفر والشرك والضلال في هذا اليوم العصيب , ومصير أهل الإيمان والتقوى , وتكرر الإشارة إلي شيء من طبائع النفس البشرية , وقد ضربت لها آيات القرآن الكريم من كل مثل , ولكن الذين كفروا لا يؤمنون , فالله (تعالى) قد طبع علي قلوب الذين لا يعلمون .
وتنتهي السورة بتثبيت خاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وسلم) بوصية من الله (تعالى) له بالصبر على استخفاف الكفار والمشركين بدعوته , والاطمئنان بأن وعد الله حق , وهو واقع لا محالة .والآيات الكونية الواردة في سورة الروم تحتاج إلي مجلدات لتفصيل دلالاتها , ولإظهار جوانب الإعجاز العلمي فيها , ولكني سأقتصر في هذا المقال علي الإشارة القرآنية إلي الموقع الذي هزمت فيه جيوش الروم علي أيدي جيوش الفرس بالتعبير: أدني الأرض , وقبل الدخول في ذلك لابد من عرض الدلالة اللغوية لهذا التعبير ولأقوال المفسرين فيه .
أدني الأرض في اللغة العربية :يقال في اللغة: (دنا) (يدنو) (دنوا) بمعني قرب بالذات أو بالحكم , ويستعمل في المكان , والزمان , والمنزلة , كما يتعدى فيقال (أدنى) (يدني) (إدناءة) , ويقال: (دانيت) أو (أدنيت) بين الأمرين أي قاربت بينهما , حتى صارت بينهما (دناوة) أي: قرب أو قرابة . . و(الدنى) القريب , و(الدنئ) بمعني الدون , الخسيس , وقد (دنأ - يدنأ) , وفيهما (دناءة) , ويقال : (دنؤ) بمعني انحط , و(الدنيئة) هي النقيصة .قال (تعالى) : " وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ " (الأنعام:99) .وقال (سبحانه) : " ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى " (النجم:9,8) .وفي الحديث الشريف: " إذا أكلتم فادنوا أي كلوا مما يليكم " . ويعبر بـ (الأدنى) تارة عن الأقرب فيقابل بالأبعد (أو الأقصى) من مثل قوله (تعالى) : " إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ القُصْوَى " (الأنفال:42) .وتارة ثانية يعبر بها عن الأخفض (أو الأحقر) فيقابل بالأعلى (أو الأعز) وذلك من مثل قوله (تعالى) : " يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ " (الأحزاب:59) .وتارة ثالثة تأتي بمعني الأقل في مقابل الأكثر , من مثل قوله (تعالى) : " وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ " (المجادلة:7) .وتارة رابعة يعبر بها عن الأرذل فيقابل بالذي هو خير , وذلك من مثل قوله (تعالى) : " أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِي هُوَ خَيْرٌ " (البقرة:61) .وتارة خامسة يعبر بها عن الأولي (الدنيا) في مقابلة الآخرة وذلك من مثل قوله (تعالى) : " مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ " (آل عمران:152) .وسميت (الدنيا) بهذا الاسم لدنوها , والجمع (الدنا) , وأصله الدنو فحذفت الواو لاجتماع الساكنين , والنسبة إليها (دنياي) , وقيل (دنيوي) ودني , ويقال: (تدني) فلان أي (دنا) قليلا قليلا , و(تدني) المستوي بمعني هبط , و(تدانوا) أي (دنا) بعضهم من بعض .
شروح المفسرين : في تفسير قوله تعالى : " الـم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ " (الروم:1-5) .ذكر ابن كثير (يرحمه الله) قول ابن عباس (رضي الله عنهما) حيث قال : كان المشركون يحبون أن تظهر فارس علي الروم لأنهم أصحاب أوثان , وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم علي فارس , لأنهم كانوا من أهل الكتاب , فذكر ذلك لأبي بكر (رضي الله عنه) , فذكره أبو بكر لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) , فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " أما إنهم سيغلبون " , فذكره أبو بكر للمشركين , فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا , فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا , وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا , فجعل أجل خمس سنين , فلم يظهروا , فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال : " ألا جعلتها إلى دون العشر؟ " , ثم ظهرت الروم بعد , قال فذلك قوله تعالى: " الـم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ " (الروم:1-5) .وأضاف بن كثير عدة روايات أخري للحديث عن كل من مسروق , وابن مسعود , وعكرمة (رضي الله عنهم أجمعين) في المعني نفسه , وزاد قوله:وأما الروم فهم من سلالة العيصبن إسحاق بن إبراهيم , ويقال لهم بنو الأصفر , وكانوا علي دين اليونان; واليونان من سلالة يافث بن نوح أبناء عم الترك , وكانوا يعبدون الكواكب السيارة , وهم الذين أسسوا دمشقوبنوا معبدها , فكان الروم علي دينهم إلي بعد مبعث المسيح (عليه السلام) بنحو من ثلاثمائة سنة , وكان من ملك منهم الشام مع الجزيرة يقال له (قيصر); فكان أول من دخل في دين النصارى من الروم (قسطنطين); وأمه مريم الهيلانية من أرض حران وكانت قد تنصرت قبله فدعته إلي دينها , واستمروا علي النصرانية , كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده حتى كان آخرهم (هرقل) , فناوأه كسري ملك الفرس , وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر , وكانوا مجوسا يعبدون النار , فتقدم عن عكرمة (رضي الله عنه) أنه قال: بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه , والمشهور أن كسري غزاه بنفسه في بلاده فقهره , وكسره وقصره حتى لم يبق معه سوي مدينة قسطنطينية فحاصره بها مدة طويلة حتى ضاقت عليه , ولم يقدر كسري علي فتح البلدة , ولا أمكنه ذلك لحصانتها , لأن نصفها من ناحية البر , ونصفها الآخر من ناحية البحر , فكانت تأتيهم الميرة والمدد من هناك , ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين وهي تسع , فإن البضع في كلام العرب ما بين الثلاث إلي التسع .وذكر صاحبا تفسير الجلالين (يرحمهما الله) كلاما موجزا في المعني نفسه , وأضافا تعليقا علي التعبير القرآني (في أدني الأرض) أن المقصود به:[ أقرب أرض الروم إلي فارس بالجزيرة , التقي فيها الجيشان , والبادي بالغزو (هم) الفرس .] .وجاء في الظلال (رحم الله كاتبها رحمة واسعة) ما نصه : ثم جاءت النبوءة الصادقة الخاصة بغلبة الروم في بضع سنين , وأضاف رواية عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) مؤكدا أن هذا الحادث قد وردت فيه روايات كثيرة , تتفق كلها في المعني والدلالة , وتختلف في الألفاظ وطرائق التعبير .وجمع الكاتب (رحمه الله) من هذه الآيات القرآنية الكريمة عددا من الإيحاءات منها : الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان أمام دعوة التوحيد والإيمان; ومنها الثقة المطلقة في وعد الله كما تبدو في قولة أبي بكر (رضي الله عنه) في غير تلعثم ولا تردد , والمشركون يعجبون من قول صاحبه , فما يزيد علي أن يقول: صدق , ويراهنونه فيراهن وهو واثق , ثم يتحقق وعد الله , في الأجل الذي حدده: في بضع سنين .والإيحاء الثالث وهو المسارعة برد الأمر كله لله , في هذا الحادث وفي سواه , وتقرير هذه الحقيقة الكلية , لتكون ميزان الموقف , وميزان كل موقف , فالنصر والهزيمة , وظهور الدول ودثورها , وقوتها وضعفها , شأنه شأن سائر ما يقع في هذا الكون من أحداث ومن أحوال , مرده كله إلي الله .
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن ما نصه : احتربت الفرس والروم فيما بين أذرعات وبصري من أرض الروم يومئذ , وهما أقرب أراضيها بالنسبة إلي مكة , وكان ذلك قبل الهجرة بخمس سنين , وقيل بست . فظهر الفرس علي الروم , فلما بلغ الخبر مكة شق علي المؤمنين , لأن الفرس مجوس لا يدينون بكتاب , والروم أهل كتاب; وفرح المشركون وقالوا: أنتم والنصارى أهل كتاب , ونحن والفرس أميون , وقد ظهر إخواننا علي إخوانكم , ولنظهرن نحن عليكم , فنزلت الآية وفيها: أن الروم سيغلبون الفرس في بضع سنين .والبضع : ما بين الثلاث إلي التسع و(غلبهم) كونهم مغلوبين .وجاء في المنتخب في تفسير القرآن الكريم ما نصه: غلبت فارس الروم في أقرب الأرض من العرب , وهي أطراف الشام , وهم بعد انهزامهم سيغلبون الفرس , قبل أن تمضي تسع سنوات . . وكان المشركون قد فرحوا بانتصار فارس , وقالوا للمسلمين: سنغلبكم كما غلبت فارس الروم التي هي من أهل الكتاب . . وقد حقق الله وعده فانتصر الروم علي فارس في الأجل الذي سماه , فكان ذلك آية بينة علي صدق محمد (صلى الله عليه وسلم) في دعواه وصحة ما جاء به .وجاء في الهامش التعليق التالي: في هذه الآيات الشريفة إشارة إلي حدثين : كان أولهما قد وقع بالفعل , وأما الثاني فلم يكن قد وقع بعد , وهو إخبار عن الغيب , (وحدد لوقوعه بضع سنين فيما بين الثلاث والتسع) .وتفصيل الحدث الأول أن الفرس والبيزنطيين قد اشتبكوا في معركة في بلاد الشام علي أيام خسرو أبرويز أو خسرو الثاني عاهل الفرس المعروف عند العرب بكسري . وهيراكليوسالصغير الإمبراطور الروماني المعروف عند العرب بهرقل; ففي عام614 م استولي الفرس علي أنطاكية أكبر المدن في الأقاليم الشرقية للإمبراطورية الرومانية , ثم علي دمشق , وحاصروا مدينة بيت المقدس إلي أن سقطت في أيديهم وأحرقوها ونهبوا السكان وأخذوا يذبحونهم .وتفصيل الحدث الثاني أن هرقل قيصر الروم الذي مني جيشه بالهزيمة لم يفقد الأمل في النصر , ولهذا أخذ يعد نفسه لمعركة تمحو عار الهزيمة , حتى إذا كان عام622 الميلادي (أي العام الهجري الأول) أرغم الفرس علي خوض معركة علي أرض أرمينيا وكان النصر حليف الروم , وهذا النصر كان فاتحة انتصارات الروم علي الفرس , فتحققت بشري القرآن .
وثمة حدث ثالث يفهم من سياق هذه الآيات الشريفة كان مبعث فرح المسلمين وهو انتصارهم علي مشركي قريش في غزوة بدر التي وقعت في يوم الجمعة17 رمضان من العام الثاني الهجري (أي سنة624 م) .وجاء في صفوة التفاسير ما نصه : (غلبت الروم في أدنى الأرض) أي هزم جيش الروم في أقرب أرضهم إلي فارس (وهم من بعد غلبهم سيغلبون) أي وهم من بعد انهزامهم وغلبة فارس لهم سيغلبون الفرس , وينتصرون عليهم (في بضع سنين) أي في فترة لا تتجاوز بضعة أعوام; والبضع ما بين الثلاث والتسع .وأشار صاحب صفوة التفاسير (جزاه الله خيرا) إلي أقوال المفسرين السابقين وعلق علي قوله (تعالى): (وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) ما نصه: وقد التقي الجيشان في السنة السابعة من الحرب , وغلبت الروم فارس وهزمتهم , وفرح المسلمون بذلك; قال أبو السعود : وهذه الآيات من البينات الباهرة , الشاهدة بصحة النبوة , وكون القرآن من عند الله عز وجل حيث أخبر عن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله العليم الخبير , ووقع كما أخبر , وقال البيضاوي: والآية من دلائل النبوة لأنها إخبار عن الغيب .وأضاف صاحب صفوة التفاسير في شرح قول الحق (تبارك وتعالى) : " وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللَّهِ " (الروم:1-5) ما نصه : وقد صادف ذلك اليوم يوم غزوة بدر; قال ابن عباس: كان يوم بدر هزيمة عبدة الأوثان , وعبدة النيران .ويوم بدر وقع في السنة الثانية من الهجرة (الموافق سنة 624م) , وعلي ذلك فإن هزيمة الروم علي أيدي الفرس لابد وأنها كانت قد وقعت في حدود سنة 614م إلى 615م .
وجاء في أطلس تاريخ الإسلام (علي واضعه رحمة الله) ما نصه:وعندما تولي هرقل عرش الروم سنة 610م (وهي سنة البعثة المحمدية) كان الفرس قد اجتاحوا بلاد الشام ومصر وهزموا البيزنطيين سنة 613م عند أنطاكية , واستولوا علي فلسطين والقدس سنة 614م , وغزوا مصر ودخلوا الإسكندرية سنة 618م أو 619م , وبعد أن أقام هرقل دولته بدأ قتال الفرس سنة 622م , وفي سنة 627م أنزل بهم هزيمة قاصمة قرب نينوى , واسترد منهم أراضي الدولة البيزنطية في أرمينيا والشام وفلسطين ومصر , وفي سنة 630م استعاد بيت المقدس .
ومن استقراء كل هذه التواريخ السابقة يتضح أن هزيمة الروم الحقيقية علي أيدي جيوش الفرس كانت في حدود سنة 614م إل615م , وأن استعادتهم النصر علي الفرس كانت في حدود سنة624 م , واستمر تقدم الروم علي أرض الفرس حتى تم لهم استعادة بيت المقدس .وواضح من شروح المفسرين أن المقصود بالتعبير القرآني في أدني الأرض الذي يصف أرض المعركة التي تمت فيها هزيمة الروم أمام جحافل جيش الفرس هو أقرب الأرض إلي مكة المكرمة أو إلي الجزيرة العربية أو إلي أرض الفرس . . ولكن الدراسات الحديثة تؤكد أن منطقة حوض البحر الميت , بالإضافة إلي كونها أقرب الأراضي التي كان الروم يحتلونها إلي الجزيرة العربية هي أيضا أكثر أجزاء اليابسة انخفاضا , حيث يصل منسوب سطح الأرض فيها إلي حوالي الأربعمائة متر تحت متوسط مستوي سطح البحر , وان هذه المنطقة كانت من مناطق الصراع بين إمبراطوريتي الفرس والروم , وأن المعركة الحاسمة التي أظهرت جيوش الفرس علي جيوش إمبراطورية روما الشرقية (الإمبراطورية البيزنطية) لابد أنها وقعت في حوض البحر الميت , وأن الوصف بأدنى الأرض هنا كما يعني أقربها للجزيرة العربية , يعني أيضا أنها أكثر أجزاء اليابسة انخفاضا , وهذه الإشارة القرآنية العابرة تعتبر من السبق العلمي في كتاب الله , لأن أحدا لم يكن يعلم هذه الحقيقة في زمن الوحي بالقرآن الكريم , ولا لقرون متطاولة من بعده .
أدنى الأرض في العلوم الحديثة :ثبت علميا بقياسات عديدة أن أكثر أجزاء اليابسة انخفاضا هو غور البحر الميت , ويقع البحر الميت في أكثر أجزاء الغور انخفاضا , حيث يصل مستوي منسوب سطحه إلي حوالي أربعمائة متر تحت مستوي سطح البحر , ويصل منسوب قاعه في أعمق أجزائه إلي قرابة الثمانمائة متر تحت مستوي سطح البحر , وهو بحيرة داخلية بمعني أن قاعها يعتبر في الحقيقة جزءا من اليابسة .وغور البحر الميت هو جزء من خسف أرضي عظيم يمتد من منطقة البحيرات في شرقي إفريقيا إلي بحيرة طبريا , فالحدود الجنوبية لتركيا , مرورا بالبحر الأحمر , وخليج العقبة , ويرتبط بالخسف العميق في قاع كل من المحيط الهندي , وبحر العرب وخليج عدن , ويبلغ طول أغوار وادي عربة ـ البحر الميت ـ الأردن حوالي الستمائة كيلومتر , ممتدة من خليج العقبة في الجنوب إلي بحيرة طبريا في الشمال , ويتراوح عرضها بين العشرة والعشرين كيلومترا .ويعتبر منسوب سطح الأرض فيها أكثر أجزاء اليابسة انخفاضا حيث يصل منسوب سطح الماء في البحر الميت إلي402 مترا تحت المستوي المتوسط لمنسوب المياه في البحرين المجاورين: الأحمر والأبيض المتوسط , وهو أخفض منسوب أرضي علي سطح اليابسة كما يتضح من الأرقام التالية : منسوب سطح الأرض في وادي عربة=355 ـ400 م تحت مستوي سطح البحر .منسوب أعمق نقاط قاع البحر الميت=794 م تحت مستوي سطح البحر .منسوب سطح الماء في البحر الميت=402 تحت مستوي سطح البحر .مستوى سطح الأرض في غور الأردن=212 ـ400 م تحت مستوي سطح البحر .منسوب سطح الماء في بحيرة طبريا=209 م تحت مستوي سطح البحر .منسوب قاع بحيرة طبريا=252 م تحت مستوي سطح البحر .منسوب سطح الأرض في قاع منخفض القطارة في شمال صحراء مصر الغربية=133م تحت مستوي سطح البحر .منسوب سطح الأرض في قاع وادي الموت/ كاليفورنيا=86 م تحت مستوي سطح البحر .
منسوب سطح الأرض في قاع منخفض الفيوم/مصر=45 م تحت مستوي سطح البحر .ويتراوح عمق الماء في الحوض الجنوبي من البحر الميت بين الستة والعشرة أمتار , وهو بذلك في طريقه إلي الجفاف , ويعتقد انه كان جافا إلي عهد غير بعيد من تاريخه , وكان عامرا بالسكان , وأن منطقة الأغوار كلها من وادي عربة في الجنوب إلي بحيرة طبريا في الشمال كانت كذلك عامرة بالسكان منذ القدم حيث عرف البحر الميت في الكتابات التاريخية القديمة , ووصف بأسماء عديدة من مثل بحر سدوم بحيرة لوط بحيرة زغر , البحر النتن , بحر عربة , بحر الأسفلت والبحر الميت , وذلك لأن المنطقة اشتهرت بخصوبة تربتها , ووفرة مياهها فعمرتها القبائل العربية منذ القدم , واندفعت إليها من كل من العراق والجزيرة العربية وبلاد الشام ومنهم قوم لوط (عليه السلام) الذين عمروا خمس مدن في أرض الحوض الجنوبي من البحر الميت هي: سدوم , وعمورة , وأدمة , وصوبييم , وزغر , وقد ازدهرت فيها الحياة إلي أواخر القرن العشرين قبل الميلاد ودمرت بالكامل في عقاب إلهي أنزل بها وجاء خبر عقابها في القرآن الكريم بقول الحق (تبارك وتعالى) : " فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ "(هود:82) .والأرض في حوض البحر الميت ـ بصفة عامة ـ وفي الجزء الجنوبي منه بصفة خاصة والتي تعرف باسم الأرض المقلوبة تتميز بالحرارة الشديدة , وبتفجر كل من العيون المائية , والأبخرة الكبريتية الحارة فيها , وبتناثر كتل الأسفلت التي كثيرا ما كانت تطفو علي سطح مياه البحر الميت إلي عهد غير بعيد .
وقرى قوم لوط التي كانت تشغل أرض الحوض الجنوبي من البحر الميت , والتي دمرت بالكامل بأمر من ربنا (تبارك وتعالى) لا علاقة لها بالحركات الأرضية التي شكلت تلك الأغوار من قبل حوالي25 مليون سنة مضت , ولكن بعد تدميرها بالعقاب الإلهي دخلت المنطقة برحمة من الله (تعالى) في دورة مطيرة غسلت مياهها ذنوب الآثمين من قوم لوط , وغمرت منطقة قراهم لتحولها إلي الحوض الجنوبي من البحر الميت , والذي يتجه اليوم إلي الجفاف مرة أخري ليصير أرضا يابسة .وخلاصة القول إن منطقة أغوار وادي عربة ـ البحر الميت ـ الأردن تحوي اخفض أجزاء اليابسة علي الإطلاق , والمنطقة كانت محتلة من قبل الروم البيزنطيين في عصر البعثة النبوية الخاتمة , وكانت هذه الإمبراطورية الرومانية يقابلها ويحدها من الشرق الإمبراطورية الفارسية الساسانية , وكان الصراع بين هاتين الإمبراطوريتين الكبيرتين في هذا الزمن علي أشده , ولابد أن كثيرا من معاركهما الحاسمة قد وقعت في أرض الأغوار , وهي أخفض أجزاء اليابسة علي الإطلاق , ووصف القرآن الكريم لأرض تلك المعركة الفاصلة التي تغلب فيها الفرس علي الروم ـ في أول الأمر بأدنى الأرض ـ وصف معجز للغاية لأن أحدا من الناس لم يكن يدرك تلك الحقيقة في زمن الوحي , ولا لقرون متطاولة من بعده , وورودها بهذا الوضوح في مطلع سورة الروم يضيف بعدا آخر إلى الإعجاز التنبؤي في الآيات الأربع التي استهلت بها تلك السورة المباركة ألا وهو الإعجاز العلمي فبالإضافة إلي ما جاء بتلك الآيات من إعجاز تنبؤي شمل الأخبار بالغيب , وحدد لوقوعه بضع سنين , فوقع كما وصفته وكما حددت له زمنه تلك الآيات فكانت من دلائل النبوة , فان وصف ارض المعركة بالتعبير القرآني أدني الأرض يضيف إعجازا علميا جديدا , يؤكد أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق وأن النبي الخاتم الذي تلقاه كان موصولا بالوحي , ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض .
وكما كانت هذه الآيات الكريمة من دلائل النبوة في زمن الوحي لإخبارها بالغيب فيتحقق , فهي لا تزال من دلائل النبوة في زماننا بالتأكيد على أن المعركة الفاصلة قد تمت في أخفض أجزاء اليابسة علي الإطلاق , وهي أغوار البحر الميت وما حولها من أغوار ويأتي العلم التجريبي ليؤكد تلك الحقيقة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين .
وعلي كتاب التاريخ الذين تأرجحوا في وضع المعركة الفاصلة في هزيمة الروم علي أرض القسطنطينية , أو علي الأرض بين مدينتي أذرعات وبصرى من أرض الشام , أو علي أرض أنطاكية , أو علي أرض دمشق , أو أرض بيت المقدس , أو أرض مصر (الإسكندرية) أن يعيدوا النظر في استنتاجاتهم , لأن القرآن الكريم يقرر أن هزيمة الروم علي أيدي الفرس كانت علي الأرض الواقعة بين شرقي الأردن وفلسطين وهي أغوار وادي عربة ـ البحر الميت ـ الأردن التي أثبت العلم أنها أكثر أجزاء اليابسة انخفاضا , والتي ينطبق عليها الوصف القرآني بأدنى الأرض انطباقا تاما ودقيقا .
وعلى الذين قالوا إن معنى أدنى الأرض هو أقرب الأرض من بلاد فارس , أو من بلاد العرب , أو هي أطراف بلاد الشام , أو بلاد الشام , أو أنطاكية , أو دمشق , أو بيت المقدس أو غيرها أن يعيدوا النظر في ذلك , لأن حدود الإمبراطوريتين كانت متلاحمة مع بعضهما بعضا من جهة ومع بلاد العرب من جهة أخري , وعليه فلا يعقل أن يكون المقصود بتعبير أدني الأرض في هذه الآيات الكريمة هو القرب من بلاد فارس أو بلاد العرب , فقط , وان كانت أرض الأغوار هي أقرب الأرض إلي بلاد العرب , بل هي في الحقيقة جزء من أرض شبه الجزيرة العربية . فسبحان الذي أنزل هذا التعبير المعجز أدنى الأرض ليحدد أرض المعركة ثم ليثبت العلم التجريبي بعد أكثر من اثني عشر قرنا أن الأغوار الفاصلة بين أرض فلسطين المباركة والأردن هي أكثر أجزاء اليابسة انخفاضا ومن هنا كانت جديرة بالوصف القرآني أدنى الأرض , وجديرة بأن تكون أرض المعركة التي هزم فيها الروم , وذلك لقول الحق (عز من قائل ) :" الـم .غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ " (الروم:1 ـ5) .
0 التعليقات:
إرسال تعليق