عِمَاد حَسَن أَبُو العَيْنَيْنِ
بسم الله الرحمن الرحيم
كان اختيار النَّبِـيّ صلى الله عليه وسلم للعاملين له على الولايات اختيارًا دقيقًا، فالملاحظ في عُمَّالِهِ أنه كانت تتوافر فيهم بعض الشروط؛ أهمها شرْطَان أساسيَّان:
أولهما أن يكون خبيرًا في العمل المكلَّف به.
والثاني أن يكون أمينًا.
والأولى صفة مكتسبة بالتجارب والمران، والثانية صفة ذاتيَّة، دون نظر إلى صلة أو قرابة أو نسب، وقد ظهر ذلك جليًّا في أعوانه من النُّقَبَاء والكُتَّاب في إدارة شئُون الدّولة الإسلاميَّة في عهدها النَّبوي.
وكان فهم النَّبِـيّ صلى الله عليه وسلم نابعًا من التوجيهات الرّبانيَّة في القرآن الكريم من مثل قوله تبارك وتعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة247] والعِلْمُ من الصّفات المكتسبة، والجسم من الصِّفات الذاتيَّة، وهذا يعني القدرة على القيام بهذه المهمة من الناحية الفنيَّة، ومن ناحية الأمانة والخلق فيكفي اختيار الله له.
والجلاء والوضوح الأكبر لهذه الصفات كان في قول ابنة الشيخ الكبير صاحب مَدْيّن لِمُوسَى عليه السَّلام: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[القصص26] فالقوَّة على الأداء والتمكُّن منه هي بعينها الخبرة وهي الصِّفة المكتسبة، والأمانة من الصِّفات الذاتيَّة والتي تنبع من روح الإنسان وتديُّنه.
وكذا قول عزيز مصر ليوسف: {ِإنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}[يوسف54] وقال تعالى في صفة جبريل عليه السلام: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير19:21].
وعلى هذا النّحو كان اختيار النَّبِـيّ صلى الله عليه وسلم لعُمَّالِهِ، فكان يستعمل خالد بن الوليد على الحرب، منذ أسلم، وقال: "إنَّ خالدًا سيفٌ سلَّهُ الله على المشركين" وكان أبو ذر رضي الله عنه، أصلح منه في الأمانة والصدق، فقد قال صلى الله عليه وسلم : «مَا أَظَلَّتْ الْخَضْرَاءُ وَلا أَقَلَّتْ الْغَبْرَاءُ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ»([1]) لكنَّ أبا ذر لم يستكمل شرطي الولاية فمعه شرطٌ واحدٌ وهو الأمانة، ومع خالد شرْطَانِ: الأمانة والكفاءة في الحرب؛ وإن كانت أمانة خالد أقل من أمانة أبي ذر، إلا إنه أكفأ منه، فقد قال صلى الله عليه وسلم : «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي لا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ»([2]).
فكان صلى الله عليه وسلم يتخير عماله بدقة متناهية لدرجة أن الواحد منهم كان يخاف من غضب النَّبِـيّ صلى الله عليه وسلم أو وجده عليه، فعَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: «سِرْتُ مَعَ مُصَدِّقِ النَّبِـيّ صلى الله عليه وسلم فَعَمَدَ رَجُلٌ مِنَ المُتَصَدِقِينَ إِلَى نَاقَةٍ كَوْمَاءَ -عَظِيمَةُ السَّنَامِ- قَالَ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا قَالَ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْخُذَ خَيْرَ إِبِلِي قَالَ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا قَالَ فَخَطَمَ لَهُ أُخْرَى دُونَهَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا ثُمَّ خَطَمَ لَهُ أُخْرَى دُونَهَا فَقَبِلَهَا وَقَالَ إِنِّي آخِذُهَا وَأَخَافُ أَنْ يَجِدَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِي عَمَدْتَ إِلَى رَجُلٍ فَتَخَيَّرْتَ عَلَيْهِ إِبِلَهُ»([3])
وكان قد نهاهم النَّبِـيّ صلى الله عليه وسلم عن أن يأخذوا كرائم أموال الناس.
وعندما كان يحيد أحدهم عما كُلِّف به كان عتاب النَّبِـيّ له، بل زجره في بعض الأحيان، ففي يومٍ أرسل صلى الله عليه وسلم أحد صحابته عاملاً على الصَّدقة فجاء حين فرغ من عمله فقال: يا رسول الله هذا لكم وهذا أُهْدِيَ لي، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن صعد المنبر عشيَّةً بعد الصَّلاة وقال: «أَمَّا بَعْدُ فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي فَهَلاَّ قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ....» ([4]).
فهذا العامل من صحابته الكرام، وقد توافرت فيه الصّفات الذاتيّة والمكتسبة من الأمانة والكفاءة؛ ولكنه حاد عن الطريق الصحيح لبعض الأطماع الزائلة، وقد يكبو الجواد وينبو السيف ولكنَّ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحَدُّ وأقطَعُ في الوقت المناسب!.
بمثل هؤلاء الولاة صلحت دولة النَّبِـيّ صلى الله عليه وسلم واستقرَّت على قواعد متينة وأسس راسخة، وقد ألمح اللَّيث بن سعد المصري إلى أن صلاح البلاد بصلاح الوالي، حين سأله الرشيد فقال: ما صلاح بلدكم؟ قال: بصلاح أميرها، ومن رأس العين يأتي الكدر، فإن صفت العين، صفت السواقي. قال الرشيد: صدقت. ([5])
وقد سار أبو بكر الصّديق رضي الله عنه الخليفة الراشد على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فتولى بنفسه تعيين الولاة والعُمَّال، وإن ترك لهم اختيار القضاة، ثم وسع سلطات قادته في العراق والشام، وأوكل إليهم تولية عمالهم، وما زال يستعمل خالدًا في حرب أهل الردة، وفي فتوح العراق والشام.
ولم يخالف الخليفة عمر الفاروق رضي الله عنه سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد اتخذ الكفاية للعمل ولخدمة الرعية أساسًا للتعيين، فالعامل يجب أن يكون كُفؤًا، قويًّا، مهابًا، أمينًا، وكان شديد المراقبة لعماله وولاته، ومن أمانة ولاته أنه لما أرسل سعدٌ الخُمُسُ من غنيمة كسرى إليه في المدينة وكان فيها لباس كسرى فنظر عمر إليه ثم قال: إنَّ قومًا أدّوا هذا لأُمَنَاء.
وقد تنبه رضي الله عنه لأمرٍ خطيرٍ وهو أنَّه قد يوجد الكُفء ولكنه لا يكون أمينًا، وقد يوجد الأمين ولكنه لا يكون كُفؤًا، فقال رضي الله عنه في عبارة بليغة: (اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثِّقة)، فاجتماع القوَّة والأمانة في النَّاس قليل، لهذا كان رضي الله عنه يسأل عنهم ويتفقد أحوالهم، فقد روى الذهبي: أن عمر سأل جريرًا عن عمار فقال: هو غير كاف ولا عالم بالسياسة([6]).
وكان يعزل من يراه داهية ويخشى على الناس منه، فإنه لما عزل المغيرة بن شعبة عن كتابة أبي موسى قال له: أعن عجز أم خيانة يا أمير المؤمنين قال: لا عن واحدة منهما ولكني أكره أن أحمل فضل عقلك على العامة([7]).
وبناءً على هذا يجب على القائمين على مصالح المسلمين من الحكام والقادة والرؤساء أن يتخلّوا عن النَّهج الذي يُعمل به في شئون البلاد وفي المصالح الحكوميَّة من تولية واستعمال الأكبر سنًّا أو القريب أو النَّسيب أو صاحب الجاه أو غيرها من الاعتبارات التي لا تعود على المسلمين بالنَّفع، ناهيك عن المبالغ الطائلة التي قد يحصل عليها إذا كان في منصب رئيس الشركة أو الهيئة أو المنظمة والتي ليس لها مسوغ البتة، ولا تتناسب مع رواتب العاملين فقد تصل إلى ما يوازي راتب ألفي عامل من العاملين بالهيئة نفسها! ([8]).
فهذا وأمثاله يُعَدُّ خيانة وغشًّا للمسلمين سوف يُسأل عنها بين يدي الله عز وجل، فقد قال النَّبِـيّ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ المُسْلِمينَ شَيْئًا فَغَشَّهُمْ فَهُوَ في النَّارِ»([9])
وقال صلى الله عليه وسلم : «إِذَا ضُيِّعَتْ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا قَالَ إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ»([10])
ومن مظاهر توسيد الأمور إلى غير أهلها؛ ما يحدث في بعض بلاد المسلمين من طلب الرياسة والانتخاب للمجالس النيابية من قِبل الجهلة بالدين والسياسة والاقتصاد، وغيرها من المرجعيَّات التي لا بُدَّ أن تتوافر لشخصيَّة ستتكلم في أمر العامة.
بالإضافة إلى مخالفته الصريحة لقول النَّبِـيّ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّا وَاللَّهِ لاَ نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ وَلاَ أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ»([11]).
وقوله صلى الله عليه وسلم لعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: «لا تَسْأَلْ الإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا»([12]).
ومع مخالفة المجالس النيابية لمنهاج الدولة الإسلامية -من حيث المبدأ- فإنك تجد العجب العجاب من إعلان السَّوقة في المجتمع عن أنفسهم طالبين من العامَّة انتخابهم لهذه المجالس بدعوى أنَّهم قادرُون على الدُّخول في غمار السياسة والاقتصاد وتسيير دفَّة الأمور بالبلاد، وبعد أن كنا نرى رجلين أو عدة رجال لا يتجوز عددهم أصابع اليد الواحدة يتنافسون على مقاعد المجالس النيابية في دائرة من الدوائر نجد الآن عددهم يتجاوز الخمسمئة حتى أصبح هذا الأمر صراعًا متأججًا بين الناس، وغرقت البلاد في الوحل من جراء تعدِّي هؤلاء الجهلة على أمر ليسُوا له بأهل، ورضا وليِّ الأمر بالمنظومة (الديمقراطية) المخالفة للكتاب والسنة، ومنهاج الدولة الإسلاميَّة القائم على الشُّورى.
ولكن ابن كثير -رحمه الله- يُهدئ من روعنا ويُلخص لنا الموقف قائلاً: "الناس على دين مليكهم، إن كان خَمَّارًا كثر الخمر. وإن كان لُوطيًّا فكذلك، وإن كان شحيحًا حريصًا كان الناس كذلك، وإن كان جوادًا كريمًا شجاعًا كان الناس كذلك، وإن كان طمَّاعًا ظلومًا غشومًا فكذلك، وإن كان ذا دين وتقوى وبرٍّ وإحسان كان الناس كذلك، وهذا يوجد في بعض الأزمان وبعض الأشخاص".([13])
فنفهم من ذلك أنه إن كان جاهلاً، كان طالبو الرياسة من الجهلاء، وإن كان عميلاً منافقًا، كثر العملاء والمنافقون في البلاد، وإن كان محبًّا لشرع غير شرع الله، زهد الناس في دين الله.
فلا يسعنا في وصف فوضى الانتخابات وفوضى تصدر الجهلاء والدَّهماء والعمياء وفوضى الحكم بغير ما أنزل الله إلا أن نقول: (حشفًا وسوء كيلة!).
وعلى هذا نرى أن دعاء الناس: (اللهم ولي من يُصلح) لن نجد له أثرًا في حياتنا طالما أن من نوليه يكون وفقًا لمعايير مخالفة للكتاب والسنة، ونرى أن مطالب الجماهير من العلماء برفع راية الجهاد لتحرير فلسطين والتي ظهر آخرها في حرب إسرائيل على غزة حيث حمل أناس كثير العلماء مسئولية ما يتعرض له إخواننا في غزة، نرى أن هذا من الظلم بمكان، فإن العلماء لا يملكون دولة أو جيشًا، بل قد يكونوا محاربين في بلادهم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن العلماء عندما يطالبون بإقامة دولة على منهاج الإسلام ترى كثيرًا من الناس يرفضون ذلك رفضًا قاطعًا ويفضلون العلمانيين على الإسلاميين فأنى لهم استجابة دعاء!
فأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرد المسلمين إلى دين نبيهم ردًّا جميلاً، وأن يعصمنا من الزَّلل إنه على كلِّ شيء قدير.
--------------------------
([1]) رواه الترمذي 3801، ابن ماجة 156.
([2]) رواه مسلم 1826.
([3]) رواه أبو داود 1579، النسائي 2457، ابن ماجة 1801.
([4]) رواه البخاري 6636، مسلم 1832، أبو داود 2946.
([5]) سير النبلاء 8/158.
([6]) سير النبلاء 1/423.
([7]) العقد الفريد لابن عبد الربه.
([8]) في اليابان التي يتغنون بذكرها لا يتعدي الفرق بين أعلى وأقل راتب بالدولة الثلاثون بالمئة!.
([9]) صحيح الترغيب والترهيب 2206.
([10]) رواه البخاري 59.
([11]) رواه البخاري 4345، مسلم 1733، أبو داود 4354، النسائي 4066.
([12]) رواه البخاري 6622، مسلم 1652، أبو داود 2929، الترمذي 1529، النسائي 3782.
([13]) البداية والنهاية 9/172، بتصرف.
0 التعليقات:
إرسال تعليق