سورة الزمر للشيخ خالد الجليل

MultiHoster

الردود على الافتراءات المثارة عن زواج سيدنا محمد من أمنا عائشة

بسم الله الرحمن الرحيم

و الصلاة و السلام على سيدنا محمد خير خلق الله

بفضل الله تم الانتهاء من الفيلم الوثائقي القصير * قصة زواج * ويعتبر من أقوي الردود على الافتراءات المثارة عن زواج سيدنا محمد من أمنا عائشة

 

فيا أنصار رسول الله فلنتعاون جميعا على الدفاع عن رسول الله و ننشر الفيديو على أوسع نطاق

 

 

 

قناة موقع نصرة رسول الله على اليوتيوب

To say that something is wrong or not, you have to say it is wrong because of what; because it is violating what.

Please check this video to know the truth about Prophet Mohammad & Aisha's Marriage.

 

If you want to read the perfect love story, I recommend that you don't read "Romeo and Juliet" but Read the story of Muhammad and Aisha, in the very words of Aisha herself explaining how beautiful this relationship was between her and Prophet Muhammad (PBUH)

 

            

Sponsored by 
Khalifa Al Hammadi
 
لمن يريد رعاية انتاج الأفلام الوثائقية بموقع نصرة رسول الله  الرجاء مراسلة
 

الأحد، 4 سبتمبر 2011

نتائج بحوث وإجتماعات معهد ويستار حول صحة الإنجيل



صورة لشعار ويستار
إعداد الدكتورة زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسي في الجامعات المصرية
خلاصة المقالة :
في عام 1985 أي قبل حوالي 25 سنة تم تأسيس معهد لدراسة الأناجيل دراسة محايدة من خلال علماء اللاهوت بغض النظر عن النتائج التي سوف يصلون وسمي هذا المعهد بـ (ويستار) وخلال هذه السنوات تم عقد مؤتمر و تم التصويت على صحة أسفار الأناجيل من خلال أعضاء الذي يضمن أكثر من 200 عالم لاهوت وكانت النتائج التالية:
  •  82% من الأقوال المنسوبة إلى يسوع (المسيح) لم يقلها.
  • 84% من الإعمال المنسوبة إلى يسوع له لم يقوم بها
  • أن يسوع لم يقل ان يؤمن أحدا بأن موته كان تكفيرا عن خطايا البشر
  • ويسوع لم يقل أنه المسيح
  • ويسوع لم يقل أنه الأقنوم الثاني من الثالوث
  •  و يسوع لم يطالب الأتباع بعملية الاعتراف الدوري، والندم، أو الصيام
  •  ولم يهدد أحداً بالجحيم كما لم يَعِد احداً بالسماء
  • ولم يقل يسوع أنه سيصحو من بين الموتى
  •  ولم يقل أنه وُلد من عذراء ولم يطالب أحداً بالإيمان بذلك
المقالة بالتفصيل:
يمثل عام 2007، وخاصة شهر فبراير منه، مرحلة من أهم مراحل أعمال "ندوة عيسى" الأربع، إذ سيخرج بعدها العلماء العاملين بها برؤية جديدة حول تاريخ "أصول المسيحية"،
ليقدموا بناء على كل هذه الأبحاث والمراجعات تراثا مسيحيا جديدا، يعتمد على مراجعة الوثائق و الحقائق التاريخية التى يمكن إثباتها وليس إعتمادا على الأغراض السياسية والكنسية أو على فرض الإيمان بها قهراً..
فقد قام معهد ويسْتار( 
Westar Institute ) وموقعه بالولايات المتحدة الأمريكيةwww.westarinstitute.orgبتنظيم حلقة بحثية ممتدة الأجل، اشتهرت في العالم الغربي باسم "ندوة عيسى" (Jesus Seminar)، حتى وان اختلفت موضوعات الأبحاث، وذلك لتجديد فتح ملف البحث عن يسوع التاريخي، بمعنى : البحث عن حقيقة ما يكون قد قاله وعمله فعلا، في الواقع، وليس كما تقدمه المؤسسة الكنسية منذ القرن الرابع الميلادي، ولتقديم نتائج هذه الأبحاث إلى اكبر قدر من القراء، بدلا من حجبها أو بدلا من أن تظل بين أيدي قلة من العلماء الباحثين في اللاهوت وتاريخه..
وقد بدأت هذه الفكرة عندما قرر ثلاثون عالما، سنة 1985، قبول مهمة القيام بهذا العمل الضخم وكل ما يتضمنه من تحدٍ وعقبات. وسرعان ما انضم إليهم العديد من العلماء المتطلعين إلى معرفة الحقيقة في هذا الموضوع التاريخي، من مختلف أنحاء العالم، ليصل عددهم إلى أكثر من مائتين من المتخصصين في مختلف مجالات العلوم المسيحية. وذلك بسبب تزايد الأبحاث التي بدأت تؤكد، في القرنين الماضيين، أن المسيح كما تقدمه الكنيسة لا سند تاريخي له..
وتتواصل هذه الحلقات البحثية منذ شهر مارس 1985 في معهد ويسْتار، إلى جانب تبنّيه عدة مشاريع أخرى فى نفس هذا المجال، ومنها ندوة بولس، وندوة النصوص المعتمدة أو القانونية، وندوة أعمال الرسل.
ومعهد ويسْتار ليس مؤسسة مناهضة للدين المسيحي وإنما هو مؤسسة غير ربحية للأبحاث الخاصة بالعلوم والنصوص المسيحية للتعريف بها وللحد من تواصل إنهيار البنيان العتيد للمؤسسة الكنسية في الغرب. فذلك بات أمراً واقعاً لا يمكن إغفاله و يهز أركانها.. أي إن فكرة العاملين بالمعهد ليست إلغاء المسيحية، وإنما محاولة نزع ما تراكم عليها من فريات وتناقضات عبر المجامع على مر العصور.. وذلك لأنه حتى عهد قريب كانت الأبحاث الأكاديمية تظل حبيسة الجامعات والمعاهد، وعادة ما كانت تُمنع من النشر، بزعم أنها شديدة التخصص ولن يفهمها عامة الناس! كما كان البعض يخشى بطش المؤسسة الكنسية وما يتبعها من لجان تأديبية باترة صارمة، فكانوا يتناقلون المعلومات فيما بينهم، لكثرة الأساتذة ورجال الدين الذين تم نسفهم لمجرد الاقتراب من محاولة الفهم أو التغيير من الأوضاع القائمة ونشر آرائهم بناء على الاكتشافات الحديثة.
وعلى الرغم مما فرضته المؤسسة الكنسية من سياج أشبه ما تكون بأيام محاكم التفتيش وظلماتها، وتعرُّض العديد من العلماء والباحثين إلى مؤاخذات و محاكمات على أنهم هراطقة وفقدوا مناصبهم الجامعية أو اللاهوتية، الأمر الذي أدى بالعديد منهم أن يؤثر الاحتفاظ بمعلوماته وانتقاداته.. إلا أن روح البحث العلمي والتدفق الفكري قد تألقت وازدهرت في أبحاث الكليات والجامعات والندوات رغم القمع. وما أن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى ترأس علماء النقد والبحث العلمي المراكز القيادية على المسرح الأكاديمي في أوروبا وأمريكا.
ولا ينتمي معهد ويسْتار إلى أية مؤسسة دينية ولا يدافع عن وجهة نظر بعينها، وإنما كل ما يتطلع إليه العاملون به هو البحث عن الحقيقة والتوصل إليها و نشرها على العالم..
ويلتقي أعضاء الندوة مرتين في السنة لمناقشة الأبحاث العلمية التي توصلوا إليها ويكونوا قد تبادلوها للدراسة قبل انعقاد الاجتماع الدوري. وتعتمد الركيزة الأولى في هذا المبحث على أقوال عيسى، أي على تجميع أكثر من ألف وخمسمائة صياغة لما يقارب خمسمائة مقولة ليسوع، مسندة إليه في مختلف الأناجيل المعتمدة والمحتجبة، ودراسة درجة إمكانية نسبها إليه لغويا وتاريخيا إضافة إلى ما تمثله من مضمون.
صورة لمقر معهد  ويستار في أمريكيا
المرحلة الأولى : 1985 - 1991 
بدأت أعمال الندوة بالبحث عن الأقوال الصادقة ليسوع أو عن كل ما تم نسبه إليه، في كافة الوثائق التي تمتد من القرن الأول حتى عهد قسطنطين، و إلى عام 313 م تحديداً، عندما تم إعلان الاعتراف بالمسيحية كديانة رسمية ضمن الديانات الأخرى الممارسة في الإمبراطورية واعتبروا ذلك التاريخ حداً فاصلاً. وكان أعضاء الندوة يلتقون كل ستة أشهر لمناقشة الأبحاث لكي يتوصلوا إلي النتائج أولا بأول. وعند نهاية لقائهم كانوا يقومون بالتصويت على كل نقطة من النقاط التي تدارسوها، مستخدمين علامات ملونة لتحديد درجة مصداقية هذا القول أو ذاك.
وقد بدأ روبرت فانك 
R. Funk، رئيس " ندوة عيسى" و التي انعقدت أولى دوراتها فيما بين 21 و24 مارس 1985، في مدينة بيركلى بكاليفورنيا، موضحا أن كل ما يعنيهم هو البحث عن حقيقة يسوع، عما قاله فعلا، وعدم الإكتراث بما سوف ينتج عن ذلك العمل من عداوات أو إهانات من جانب المعترضين أو من أولئك الذين يحافظون بإصرار وشراسة على كل ما تم في المسيحية من تحريف متراكم عبر العصور، وكل ما لا تزال تواصل وسائل الإعلام الموجّه كنسيا من فرضه على الأتباع وعلى العالم، موضحا أن هذا العمل الذي سيقومون به سوف يخدم ملايين الأتباع الذين يجهلون حقائق الدين الذي ينتمون إليه. وهو ما وصفه روبرت فانك قائلا : " أنه جهل يصل إلى درجة الأمّية ".. ويالها من حقيقة جد مريرة مهينة صادرة عن عالِم مؤمن ويدرك معنى ما يقوله !.
ومن ناحية أخرى طالب كافة الزملاء العاملين في هذه الندوة بمتابعة أهم المؤلفات التي صدرت قديما وحديثا في هذا المجال ، وتلخيص أهم النقاط الواردة بها، حتى يكونوا على بيّنة بكل ما يتعلق بالموضوع الأساس. وذلك إضافة إلى عمل جرد شامل لكل ما يتعلق بتراث يسوع وتقييمه حتى يأتي هذا العمل الجماعي كبنيان مشيّد على أسس علمية بأقصى درجة من درجات الدقة والموضوعية و العلانية.
الدافع إلى البحث عن يسوع التاريخي :
يرجع الدافع إلى البحث عن يسوع التاريخي، إلى أن صورته الحقيقية أو ما يبدو منها من الوثائق و الأبحاث، يختلف تماما عما تقدمه المؤسسة الكنسية ونصوصها، و إلى أن تناقل أخباره أو كل ما يتعلق به في المراحل الأولى لنشأة المسيحية قد تم شفاهة لمدة عقود بأسرها. وهو ما يسمح بالحيد عن الخط الرئيسي والغوص في منحنيات غير دقيقة أو غير أمينة. كما أن لغة يسوع كانت الآرامية والأناجيل الحالية تمت كتابتها باليونانية. والتراث الشفهي لا أهمية بحثية أو تاريخية له إذا قورن بالمعطيات الناجمة عن الأبحاث العلمية الموثقة.
كما تلاحظ نفس المآخذ من الناحية الزمانية أو التقويمية، إذ هناك فترة تمتد ما بين 20 إلى 40 عاما من "وفاته" إلى بداية صياغة أول نص. وكان أول هذه النصوص هو الإنجيل وفقا لمرقس، والثابت أنه لم يكتبه كشاهد عيان، فمن كتب صياغة ذلك الإنجيل الأول لم ير يسوع ولم يتبعه، والأناجيل الثلاثة وفقا لمرقس ومتّى ولوقا تختلف وتتناقض مع ما يقدمه الإنجيل وفقا ليوحنا. وقد نقل جميعم عن بعض وعمّا يُعرف باسم " الإنجيل الأصل " (و ليس الأصلي، لكن الأصل الذي تم النقل منه) ويشار إليه بعبارة "كويللى" (
Quelle ) أى الأصل باللغة الألمانية ويختصرونها إلى حرف Q.
وبخلاف هذه الملاحظة العامة، فإن نصوص الأناجيل مكونة من طبقات زمانية مختلفة ومتراكمة فوق بعضها بعضا عبر تطور التراث كنسيا وسياسيا. أي أنها ليست صياغة متصلة دفعة واحدة.وما توصل إليه الباحثون على اختلاف مشاربهم هو أن الإنجيل الذي يشار إليه بحرف 
Q مكون هو نفسه من ثلاث طبقات زمانية مختلفة، معروفة بين جميع المهتمين بهذا المجال بمسميات: Q1 و Q2 و Q3..
أما الملاحظة التي تدين ذلك التراث الكنسي في نصوصه التي تمت صياغتها وفقا للأغراض الدينية واالسياسية، فهي أن المخطوطات الأصلية بكلها قد اختفت أو تم إخفاؤها عمدا، وإن أول فُتات باقية منها ترجع إلى عام 125 م، وأول أجزاء يمكن اعتبارها جزء من نصٍ يمكن الاعتماد عليه ترجع إلى حوالي سنة 200 م، و أول نسخة كاملة من الأناجيل ترجع إلى حوالي سنة 300م !
كما لا توجد نسختان متشابهتان من الأناجيل، من بين كل تلك النسخ التي وصلت إلى عصرنا، إلا ابتداء من سنة 1454 م.. وما يؤكده جميع العاملين بالندوة وغيرهم، أنه إثناء عمليات النقل، التي كانت تتم بمعرفة القساوسة والرهبان، فهم وحدهم الذين كان من حقهم ان يتعلموا القراءة والكتابة طوال عصر الظلمات ومحاكم التفتيش، فكانت تقع أخطاء إملائية من الناسخين إضافة إلى تعديل النص وتحريفه وفقا للأهواء. ولا يمكن لأي عالم من العلماء أياً كان توجهه، أن يجزم بأن النص اليوناني يُعد ترجمة أمينة للنصوص الأولى.. ويكفى ما كتبه القديس جيروم حول تغييره وتبديله في النص عند صياغته للأناجيل الأربعة الحالية ! وهو ما كتبه بوضوح شديد في المقدمة-الخطاب الذي وجهه للبابا داماز، الذي كان قد طلب منه القيام بهذه المهمة، وهو ما ينزع يقينا أية مصداقية عن هذه النصوص..
وأكثر ما يميّز أعمال "ندوة عيسى " أنها تتم بأسلوب جماعي علني قائم على التعاون فيما بينهم، وليس على تسلط أحد الأفراد وتحكّمه في الآخرين، كما أن المعهد يسمح بحضور زوار من خارج الأعضاء الرسميين ويتابعون المناقشات ومن حقهم الإسهام فيها في ورش العمل التي تقام حولها .
أما عن تقييم النصوص المكتوبة في حد ذاتها، فيمكن تلخيص ما خرجوا به فيما يلي : 
أن من كتبوا الأناجيل قاموا بالتجميع وفقا لهواهم، وأحيانا كانوا يرتجلون أو يؤلفون ما لم يقله يسوع أو يضيفون إليه تعليقاتهم ليجعلوها تتمشى مع وجهة نظرهم الشخصية وبأسلوبهم. فمن الملاحظ مثلا أن نقدٍ ما يخص يسوع أو موجه ضده في النصوص الأولى، سرعان ما يتحول إلى نقد ضد الحواريين في النسخ التالية، كما أن الإستشهادات كثيرا ما تخون النص لتكشف عن الخلافات والصراعات المسيحية في أوائل تكوينها. و صياغة بعض الوقائع بأسلوب " مسيحي" تؤكد أنها إضافات لاحقة.. فالمسيحية لم توجد أيام يسوع، ويسوع لم يكن مسيحيا وإنما يهوديا ! وهو ما بدأت الأبحاث الجديدة – حتى خارج "ندوة عيسى" تشير إليه بما في ذلك المؤسسة الفاتيكانية، خاصة بعد المجمع الفاتيكاني الثاني سنة 1965 الذي برأت فيه اليهود من دم المسيح !..
كلمات يسوع و الإقتراع عليها :
تركزت أعمال المرحلة الأولى من " ندوة عيسى" حول مختلف الصيغ التى وردت بها الأقوال المنسوبة إليه، عليه السلام، لتحديد قوة احتمال أن يكون قد قالها فعلا. وكانت عملية التصويت تتم من جميع المشاركين على كل مقولة من المقولات بعد دراستها وتقييمها من كافة الأوجه البحثية. مدركين حقيقة أن الإجماع لا يعنى تحديد الحقيقة البحتة أو الحاسمة، وإنما يوضح أفضل حكم عليها أو أفضل تقييم لها من حيث المنطق والسند العلمي و التاريخي.
وكانت أولى الخطوات تعتمد أولا على جرد وتبويب الكلمات والأقوال المنسوبة إلى يسوع في القرون الثلاثة الأولى. وتم تقسيم الأقوال إلى أمثال وتشبيهات وحوارات وقصص تدخل فيها عبارات منسوبة إليه.
وقد استبعد أعضاء الندوة كافة الحدود اللاهوتية التي فرضتها الكنيسة على مختلف مجالات البحث حول أية معلومات عن يسوع. كما رفضوا تقييم الكنيسة لإنجيلٍ بعينه أو استبعادها لآخر، مكتفين بتحكيم العلوم وأدواتها. كما اعتمدوا في عملية التقييم على الاقتراع لتحديد مدى إمكانية المصداقية على أربع درجات، حدّدوها في أربعة ألوان التزموا بها حتى في الطباعة النهائية لكل ندوة، و معناها كالآتي :
• الأحمر : يشير إلى أن يسوع قد قال هذه العبارة
• البمبى : من المحتمل أن يكون قد قالها
• الرمادى : لم يقل يسوع هذه العبارة وإن كانت الفكرة بها قريبة مما قاله
• الأسود : لم يقل يسوع هذه العبارة إطلاقا وإن كانت شبيهة بتراث مغاير
من مقدمة كتاب " الأناجيل الخمسة" :
تم جمع نتائج الأبحاث الخاصة بأقوال يسوع والتي امتدت من عام 1985 إلى 1991، في كتاب بعنوان : "الأناجيل الخمسة " 
The five Gospels، صدر سنة 1993، بعد أن أضافوا إنجيل توما الذي كان قد عثر عليه في نجع حمادي بصعيد مصر سنة 1945. إذ رأوا فيه ملامح شديدة الشبه بما يسمى بالإنجيل الأصل أو النبع، و الذي يرمز إليه بحرف Q. على أن النصين قد كتبا خلال فترة الأربعين عاما التي تقع بين "وفاة " يسوع وهدم المعبد سنة 70م. ونص "كويللى" من النصوص الأولى أو الأقدم والتي لا تتضمن عملية صلب السيد المسيح ولا بعثه.. مما يدل على أنها إضافة من الإضافات اللاحقة التي تمت لأغراض بعينها..
صورة لغلاف الاناجيل الخمسة من إصدارات مركز ويستار
ويتضمّن إنجيل توما 114 مقولة بلا تدخل أي سرد روائي. وهو يمثل مرحلة سابقة لما تم طرحه في الأناجيل المعتمدة، لذلك اعتبروه يمثل شهادة مستقلة وغير منحازة لتراث يسوع في صياغاته القديمة. و هو يُعد من الأناجيل الغنوصية، لذلك استبعدته المؤسسة الكنسية.
وهنا لا بد من وقفة نوضح فيها أن إنجيل توما هو مخطوطة من المخطوطات التي تم اكتشافها في نجع حمادي سنة 1945. وهى مجموعة من النصوص الدينية والفلسفية تم تجميعها وترجمتها إلى اللغة القبطية في القرن الرابع الميلادي بمعرفة بعض المسيحيين الغنوصيين، ثم قام بترجمتها في العصر الحديث نخبة من مشاهير العلماء في الغرب. وصدرت الطبعة الأولى عام 1978، ثم طبعة منقحة مزودة بمقدمة لكل مخطوطة، عام 1988.
والمقصود بكلمة غنوصية هو : التوصل الفوري إلى المعرفة الروحية ، أو بقول آخر : إرتقاء الإنسان إلى أن يصل إلى المعرفة الإلهية. وهو عكس ما تفرضه المؤسسة الكنسية من "أن الله قد نزل وتجسد بشرا " وتفرض هذا القول اعتمادا على ضرورة الإيمان الأعمى بها، بغض الطرف عن مردوده، وليس اعتمادا على العقل و المنطق. لذلك قامت بمحاصرة الغنوصية واقتلاع أتباعها. إلا ان الغنوصية قد تواصلت خافتة معتّم عليها وعلى أتباعها إلى أن تم اكتشاف مخطوطات نجع حمادي ليُلقى عليها الضوء من جديد.. ويفهم من المقدمة التي كتبها جيمس روبنصن كيفية تواصلها عبر الأحقاب المختلفة، ومدى تأثيرها في العصور الوسطى ثم في عصر النهضة ثم في عصر التنوير و حتى أيامنا، بل و مدى أثرها في الفلسفة وعلم اللاهوت والثقافة والفنون..
ويمثل كتاب 
"الأناجيل الخمسة" مخرجا دراميا بابتعاده عن الدراسات المعتمدة، التي لا منفذ منها ولا مخرج إلى الحقيقة. كما يمثل بداية عصر جديد من الأبحاث حول الأناجيل. فقد قرر المشتركون في "ندوة عيسى" تحديث كل ما تم من دراسات وعمل تراث مسيحى جديد قائم على الدراسات النقدية التي تمت في المائتين عاما الماضية.
فبعد نشر أبحاث داروين عن أصل الأجناس عام 1859، وما تلاها من معارك وانزواء للعلماء العاملين في الأبحاث الإنجيلية، خاصة في أمريكا، سادت عقلية ولّدت مناخا أشبه ما يكون بمحاكم التفتيش، مع فارق المسميات والأساليب، واتُهمت آراء وأبحاث العلماء بالخطورة، وتعرض العديد منهم إلى المحاكمة، و اتُهموا بالهرطقة وعانوا من ضياع مناصبهم الأكاديمية.. إلا أن التحرر الفكري الذي ساد في القرن العشرين سرعان ما سمح بأن أعاد العلماء تنظيم أنفسهم في الكليات والجامعات والندوات.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية عاد العلماء إلى تقلد مراكز القيادة في الكليات والجامعات بطول القارة وعرضها. مما اضطر المؤسسة الكنسية إلى إنشاء معاهدها الخاصة بالدراسات الإنجيلية كمحاولة للتصدي لهذه الأبحاث الجديدة و لمواصلة نشر ما تفرضه بدأب وجبروت منذ القرن الرابع..
ومن أهم الصراعات الدائرة بين الجانبين، محاولة العلماء المنتقدين للأحداث والوقائع التاريخية وإصرارهم على مواصلة البحث بلا كلل ولا حرج، أي أياً كانت النتيجة، للتوصل إلى معرفة ما قد يكون يسوع قد قاله وعمله فعلا من كل ما نسب إليه في الأناجيل المعتمدة والوثائق الأخرى، والتي يبدو فيها معارضا للتقاليد الدينية السائدة، كعدم مراعاة يوم السبت، أو إظهاره على عداء مع أسرته أو اتهامها إياه بالجنون.. بل حتى تلاميذه يبدون وكأنهم غير قادرين على فهم رسالته.. وذلك على سبيل المثال لا الحصر، فما أكثر النقاط التي لا تزال غامضة حتى يومنا هذا، الأمر الذي وضع يسوع علناً و بلا تردد على مائدة الخلاف بين العلماء من الجانبين.
وقد نجم هذا الوضع من واقع أن يسوع المعتقادات والعقائد، الذي تم فرض صورته هذه بشراسة في القرون الوسطى بالسلطة الكنسية العاتية وبالسيف، لم يعد بوسعها أن تتحكم في عقليات أولئك الذين أصبحوا يتبنّون نظريات جاليليو وكيبلير و كوبرنيكوس، إذ أنهم قد أزاحوا الآلهة القديمة من عروشها بفضل ما أبدعوه من معدات وإنجازات..
وكانت الطفرة الشديدة التي تمت في علم الفلك تمثل جزءا من الصحوة العلمية التجريبية، التي رأت إخضاع كل المعارف للعلم والتجريب. وفى مواكبة لهذه الطفرة العلمية أعيد النظر في المعطيات التاريخية القديمة للتفريق بين ما هو واقعي وما هو من نسج الخيال.. وفى المجال الإنجيلي كان لا بد للعلماء من البحث في العلاقة بين الإيمان و التاريخ والفصل بينهما. وهو ما تم فيما يتعلق بالبحث عن يسوع التاريخي.
وبذلك أصبحت الوثائق والمعطيات التاريخية عبارة عن أدوات لا غنى عنها، في العصر الحديث، للبحث والتفريق بين العالَم المتخيّل والعالَم الواقعي للتجربة الإنسانية. ولمعرفة الحقيقة حول يسوع، يسوع الإنسان الحقيقي، كان لا بد من العثور أولا على يسوع التاريخي الذي عاش في الواقع، والبحث عما قاله وعما فعله فعلا وليس تلبيساً..
وما توصلت إليه أعمال الندوة بأبحاثها ومناقشاتها كان ما يلي : 
• أن يسوع لم يقل ان يؤمن أحدا بأن موته كان تكفيرا عن خطايا البشر
• ويسوع لم يقل أنه المسيح
• ويسوع لم يقل أنه الأقنوم الثاني من الثالوث
• و يسوع لم يطالب الأتباع بعملية الاعتراف الدوري، والندم، أو الصيام
• ولم يهدد أحداً بالجحيم كما لم يَعِد احداً بالسماء
• ولم يقل يسوع أنه سيصحو من بين الموتى
• ولم يقل أنه وُلد من عذراء ولم يطالب أحداً بالإيمان بذلك
• ولم ينظر يسوع إلى النصوص على أنها معصومة من الخطأ أو أنها ملهمة من الله !
وهو ما أعلنه رسميا روبرت فانك رئيس الندوة في صيف 1994.. 
المرحلة الثانية : 1991 – 1996 
تركزت أعمال المرحلة الثانية لدراسة ما قد يكون يسوع قد عمله فعلا من خلال ما هو وارد بالأناجيل. و في هذه المرحلة تمت دراسة 387 تقريراً يتناول 176 حدثا أو واقعة يُعد فيها يسوع الشخصية الرئيسية حتى وإن ورد فيها أسماء يوحنا المعمدان أو سمعان/بطرس أو شقيقه يعقوب الذي تولى كنيسة القدس من بعده.

ومن بين الوقائع التي يبلغ عددها 176 الواردة بالأناجيل، تم الاتفاق على أن عشرة منها فقط هي التي تحتمل نسبة عالية من المصداقية. وثلاثون واقعة أخرى حصلت على درجة احتمالية بعيدة الحدوث. وتم استبعاد باقي الأعمال المنسوبة إلى يسوع على أنها غير واقعية أو غير محتملة الوقوع. وبجمع المجموعتين توصلوا إلى رقم 29 واقعة واردة بالإناجيل هي التي تحتمل المصداقية من العدد الإجمالي لها وهو 176، أي بنسبة 16 % من الأعمال المنسوبة إلى يسوع. وهى نسبة تقل قليلا عن نسبة ال 18 % من الأقوال التي حصلت على احتمال المصداقية. 

ويقول روبرت فانك إلى من لا يزالوا يؤمنون بأن الكتاب المقدس كلام الله،
" أن نسبة ال 16 % من المصداقية تعد جد ساخرة أو مثيرة للسخرية "!
 والسبب في استبعاد 84 % من الأعمال المسندة ليسوع في الأناجيل ترجع إلى أصل تلك الأناجيل، التي يصل عددها إلى قرابة عشرين إنجيلا، وصلت من القرون الثلاثة الأولى سواء كاملة أو مجرد أجزاء، اعتمدت المؤسسة الكنسية منها أربعة فحسب وكوّنت منها ما يسمى بالعهد الجديد وأعدمت أو استبعدت العدد الباقي.وهذه الهشاشة التاريخية للأصول الكنسية أو المسيحية ترجع إلى أن أول جزء ضئيل معروف من الأناجيل عبارة عن جزء منقول من نص آخر، أي أن أول أثر باق من تلك النصوص ليس نصاً أصلياً وإنما هو نص منقول يرجع إلى أكثر من مائة عام بعد "وفاة" يسوع. وأول أثر مادي يمكن الاعتماد عليه نسبيا يرجع إلى آخر القرن الميلادي الثاني، أي إلى حوالي 170 عاما بعد يسوع.. لذلك أجمع العلماء في معهد ويسْتار أنه في غياب أية معلومات مؤكدة فإن من صاغ بدايات هذه النُسخ أشخاص يرجعون إلى الجيل الثالث في الربع الأخير من القرن الأول، اعتمادا على ذكريات سمعية تُحكى شفاهة متناقلة بين الأجيال، مؤكدين أن هذه النصوص قد تمت صياغتها وإعادة صياغتها وتغيير حكاياتها وأحداثها بالزيادة والنقصان لأكثر من قرن قبل أن تصل تقريبا إلى شكلها الأخير- ولا يعنى ذلك شكلها النهائي.
والمحصلة الناجمة عن هذه الأبحاث هي أن ما بقى من أعمال يسوع يمثل آثاراً لصورة جد باهتة ليسوع، زادت الخرافات والأساطير من التعتيم عليها، وهى صورة تتطلب عقلا متفتحا وصبراً شديداً لتلمس تلك الحقائق الخافتة.. على حد قول ما نطالعه في المقدمة المرفقة بطبعة هذا المجلد الثاني والمعنون : 
"أعمال يسوع " الصادر سنة 1998.
وبعد أكثر من عشر سنوات من الأبحاث التي قام بها ذلك الفريق الدولي للكشف عن حقيقة حياة ووفاة يسوع التاريخي، انتهوا إلى أن صورته التاريخية تختلف تماما عما في الصورة التقليدية التي تقدمها المؤسسة الكنسية.
إذ يرون أن يسوع لم يمش على الماء، ولم يطعم الآلاف من البشر، ولم يحوّل الماء إلى نبيذ، وأنه تم إعدامه كشخص يثير الشغب وليس لقوله أنه ابن الله ! وأن الذين أعدموه هم الرومان وليس اليهود.. أما عملية البعث فهي قائمة على تصورات لكل من بطرس وبولس ومريم المجدلية، في نصوص تتناقض فيما بينها في كل تفاصيلها، لذلك لم يعتدوا بها.
المرحلة الثالثة : 1996 – 1998 
ضمّت المرحلة الثالثة خطين متوازيين من الأبحاث، أحدهما يتناول 
" ملامح يسوع"، كما تبدو صوره المختلفة في كل الأبحاث التي سبقت أعمال الندوة، من جهة، ومن جهة أخرى اعتمادا على النتائج التي تم التوصل إليها في المرحلتين السابقتين، والتي كانت الأولى منها عن " أقوال يسوع " والثانية عن " أعمال يسوع ".
وقد تولى هذه المهمة خمسة عشر عالماً في معهد ويسْتار، لاستخلاص أكبر قدر ممكن من الملامح المقنعة والتي من الممكن تصورها من مختلف الجوانب. وتم نشر هذه الأبحاث المستقلة في كتاب جماعي تحت عنوان 
"ملامح يسوع "، سنة 2002، يطالع فيه القارئ ملامح مختلفة تماما غير تلك التي اعتادت ترويجها النصوص الرسمية المنسوجة عبر المجامع على مر العصور..
والسؤال الذي يطرح نفسه هو : هل يمكن لأقوال يسوع وأعماله كما خرجت بها الندوة أن تقدم قاعدة كافية لتصورات يمكن إضفاء المصداقية عليها لملامح يسوع ؟ ذلك هو التحدي الذي تولى القيام به نخبة من المساهمين في هذا الكتاب..
أما الخط الثاني فكان متعلقا بالبحث فيما تتضمنه " أعمال الرسل" من حقائق يمكن الاعتماد عليها تاريخيا، و ما هي نسبة ما بها من حقائق ونسبة ما يستوجب استبعاده منها مما هو وارد في الأناجيل. وتم نشر أعمال هذه المرحلة الثالثة من الدراسات في سنة 1999.
والغرض من هذه الدراسة هو عمل طبعة ملونة مثل الكتابين السابقين لأقوال يسوع وأعماله. وبذلك سيمكن لدارسى الكتاب المقدس أن يكونوا على دراية بأصول دينهم بصورة أكثر دقة، وأكثر مصداقية، اعتمادا على ما أمكن التوصل إليه من حقائق ثبتت صحتها.
ومن المفترض أن" أعمال الرسل" تاريخيا هي المحاولة الأولى لسرد أصول المسيحية، وكان من المنطقي أن يبدأ بها العهد الجديد ولا يأتي وضعها بعد الأناجيل. وقد أتى هذا الترتيب لتثبيت صورة بعينها. وهى قصة مكتوبة بحيث يستمر أثرها – وإن كانت في يومنا هذا قد فقد الكثير من معطياتها المصداقية التاريخية.
ويرجع فقدان المصداقية هذا إلى إدراك و ثبوت تنوع أصول المسيحية في بداية مشوارها. وما هو وارد بالأناجيل لا يعكس هذا التنوع وإنما يغفله عمدا ليفرض وجهة نظر مغايرة. ودراسة أعمال الرسل اليوم تؤكد أنها من آداب أعمال الخيال الديني، لاستعراض مميزات تلك الحقبة وترسيخها، وهى معطيات لا يمكنها الصمود لآليات البحث العلمي والتاريخي، ولا يمكنها أن تظل في المكانة التي تصدرتها لقرابة ألفى عام. 
ويمكن تقسيم أبحاث " ندوة عيسى " حول أعمال الرسل إلى أربع فئات، هي :
1 ) - تصنيف نوعيتها، وقد تم ذلك على أنها كتابات تاريخية، إلا أن الأبحاث كشفت قرابة شديدة بينها وبين أعمال رسل أخرى استبعدتها المؤسسة الكنسية في المسيحية الأولى. وهذا الأمر وحده يحتّم إعادة دراستها كما يحتّم اعتبارها جدّيا كأدبيات خيالية.
2 ) - تختص الفئة الثانية من التحليل باللاهوت وبأهداف أعمال لوقا. وقد تم إثبات أنه تمت صياغتها بدافع من التوجهات اللاهوتية. أي أنها جميعها تتبع جدولا لاهوتيا من أجل ترسيخ لاهوت بعينه وترسيخ معطياته التاريخية الموجّهة.
3 ) - تتناول الفئة الثالثة مصادر أعمال الرسل واستخدامها لأصول سابقة كمصدر لها، خاصة مصدر 
Q إضافة إلى مصادر أخرى.
4 ) - أما الفئة الرابعة فتأخذ المصادر السابقة إلى خطوات أعمق في دراستها وتحليلها. وحتى إن تم التوصل إلى هذه الأصول، فالسؤال هو : إلى أي مدى يمكن اعتبارها مصادر تاريخية حقيقية وليست مختلقة ؟.. وهو ما يتطلب مزيدا من البحث والتدقيق لكل معطى من معطياتها، خاصة وإن أعمال الرسل ظلت لفترة طويلة بعيدة عن مجهر الباحثين..
ومن الواضح أن ما توصلت إليه 
" ندوة عيسى " يختلف تماما عما آمن ويؤمن به المسيحيون على مر التاريخ، كما أنها في تناقض واضح مع المعتقدات السائدة، إذ أنها استبعدت تماما فكرة أن تكون الأناجيل منزّلة من عند الله – وهو ما كان مجمع الفاتيكان الثاني قد أقرّه بالفعل، وإن كان بعبارات ملتوية، كما استبعدت الندوة أن يكون من كتبوها من الملهمين، أو حتى الأسماء التي هي معروفة بها. وإنما يعتبرونها وثائق آدمية ألفها كتبة ضمّنوها معتقداتهم الشخصية أو معتقدات من يوجهونهم. وذلك لكل ما بهذه النصوص من تناقضات فيما بينها من جهة، وفيما بينها وبين العقل والمنطق من جهة أخرى..
وإن كان هناك من لا يزال يؤمن بأن هذه النصوص منزّلة، فإن علماء
 "ندوة عيسى " ينظرون إليها من زاوية أخرى، موجزها : إن رسالة يسوع وكل ما يتعلق به قد مرت عبر فترة ممتدة من التراث الشفهي تصل إلى ما بين ثلاثين إلى خمسين عاما، وهو ما يسمح بتعديل وتبديل ملامح أية وقائع تاريخية أو حقيقية، فما من إنسان يحكى نفس الحدث بنفس الأسلوب، ولا بنفس الانفعال، والأدهى من ذلك حين تتدخل الأغراض والأهواء..
المرحلة الرابعة : 2006 -.... 
بدأ العاملون في 
" ندوة عيسى" المرحلة الرابعة من أبحاثهم بندوة حول " الأصول المسيحية "، يقومون فيها بكتابة تاريخ جديد للمسيحيات الأولى والكتابات المسيحية، مستعينين فيها بنفس الوسائل ونفس الأساليب العلمية المتّبعة في الندوات السابقة.
وتهدف ندوة دراسة 
" الأصول المسيحية " إلى الكشف عن التراث والتقاليد المتعلقة بيسوع من خلال رؤية أوسع للثقافة اليونانية - الرومانية، والمرحلة التالية لبناء المعبد وبداية ظهور اليهودية الحخامية، والتنوع الشديد بين أتباع يسوع وتطويرهم للتراث المسيحي حتى تم بتره تماما عن جذوره اليهودية، تلك الجذور التي فتح مجمع الفاتيكان الثاني سنة 1965 الباب على مصراعيه للتراجع عن كل ما قام بنسجه عبر التاريخ، و ذلك بتبرئته اليهود من دم السيد المسيح، وهو ما يخالف الأناجيل مخالفة أقل ما يقال عنها أنها من الأسباب الرئيسية التي دفعت بالآلاف من الأتباع لمغادرة المؤسسة الكنسية، وإلى انتشار الإلحاد بينهم بصورة لا تغفلها عين.
ومن المناطق المزمع البحث فيها على أرض الواقع، تسالونيكا، والجليل، و القدس، وإنطاقيا، وأديسا، والإسكندرية، وأفسوس، وفيليبّى، وكورنثيا وروما. إضافة إلى دراسة مجالات أخرى تعد مساندة، ومنها : دور المرأة، اليهود والوثنيين، والمسيحية اليهودية، والغنوصية، والمسيحية والإمبراطورية الرومانية.
وقد بدأت هذه اللقاءات ببلدة تسالونيكا لتدارس أربعة محاور حول المسيحية لمعرفة هل هي بدأت مع يسوع، أو مع ابتداع فكرة البعث، أو مع ابتداع فكرة عيد الفصح، أو مع عمليات التبشير التي تولاها بولس وخرج بها جذريا عن تعاليم يسوع كما هي واردة في الأناجيل..
ويشهد عام 2007 العديد من النشاطات البحثية والندوات والمحاضرات العامة إلى جانب الموضوع الرئيسي وهو : 
"أصول المسيحية ". وتدور موضوعات هذه المحاضرات العامة حول الحياة والموت أيام يسوع، الأخلاق، التطور والمستقبل، بدايات المسيحية : تنوع وليست أصول، يسوع والقرن الواحد والعشرين، الحركات الدينية وكيف بدأت المسيحية، يسوع التاريخي ومستقبل الكنيسة. وكل هذه المحاضرات والندوات تمثل برنامجا مستقلا يعرف باسم : "ندوة عيسى على الطريق ". وذلك لأن العديد من الناس هناك لا يمكنهم حضور اللقاءين الدوريين السنويين لبُعد المسافة، فقرر معهد ويسْتار أن يخرج عن نطاق جدرانه ويتجه إلى الجماهير في مختلف البلدان الأمريكية لإشراكها في أحدث ما توصلوا إليه. على هامش " ندوة عيسى "
صورة لغلاف انجيل توامس جفرسون الرئيس الأمريكي السابق
إن جهود " ندوة عيسى " من أجل استبعاد ما علق برسالته على مر العصور، أو من أجل محاولة استعادة الأتباع إلى الديانة التي فرّوا منها لسبب أو آخر، ليست بجديدة، فهناك العديد من المحاولات التي تمت نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : واحدة ترجع إلى مطلع القرن الثامن عشر، والأخرى إلى سنة 2005..
فقد سبق أن قام 
توماس جيفرصن، المواطن الوطني – كما يطلقون عليه، ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق، بنفس العمل سنة 1700، حينما أمسك بالمقص وراح يستبعد كل ما لا يقبله العقل والمنطق أو كل ما يتنافى مع قانون الطبيعة من نصوص الكتاب المقدس، ثم قام بلصق الأجزاء الباقية ليخرج بكتاب مقدس يمكن قراءته والأخذ بما به من حكايات وتعاليم..
وعندما انتهى من مشروعه بقى معه 82 عمودا فحسب من 700 عمود تمثل طبعة الكتاب المقدس المعروفة باسم الملك جيمس ( 
King James Version)، أى انه قد استبعد قرابة 90% من محتويات الكتاب المقدس الأصلي، وأطلق على اختياراته تلك عنوان : "حياة وأخلاق يسوع "..
أما المحاولة الأخرى فقد قام بها 
القس مايكل هينتون بانجلترا، في كاتدرائية كانتربرى. ففي 21 سبتمبر 2005 أعلنت محطة ال بى بى سى البريطانية عن صدور طبعة جديدة للكتاب المقدس، يقول صاحبها القس مايكل هينتونأنه يمكن قراءتها قي أقل من ساعتين أو بالتحديد في مائة دقيقة ! وأوضح أنه قام بالتركيز على يسوع، باعتباره الشخصية الرئيسية في الكتاب المقدس. وقد قام القس جون بريتشارد أسقف جارّو بالإشراف العام على الكتاب قائلا : لا اعتقد ان أغلب الناس يعرفون الكتاب المقدس جيدا، وهذه المحاولة مقصود بها لفت نظر القارىء قائلين : أنظر، لدينا قصة عظيمة هنا، دعنا نتوغل فيها وألا نتوقف عند الطرّهات، ولنقدم لك أهم ما بها ! وقد استغرق العمل من القس هينتون أكثر من عامين لاستبعاد ما بالإصحاحات الست وستين التي تكون الكتاب المقدس، ليصل إلى نص متماسك، به أشهر
صورة للقس مايكل هينتون يحمل إنجيله المختصر
القصص أو أكثرها انتشارا إضافة إلى ما يتعلق بيسوع.
وكلها محاولات تتم من أجل إضفاء مصداقية جديدة على تلك النصوص التي يتباعد عنها الأتباع ، في الغرب المسيحي، يوما بعد يوم، لتشجيعهم على القراءة دون أن ينفّرهم منها كل مالا يتمشى مع العقل و المنطق. محاصرة ندوة عيسى !
وكالمعتاد، لم تنجو 
"ندوة عيسى" من المحاصرة التقليدية للمؤسسة الكنسية الفاتيكانية، التي سرعان ما راحت تستكتب فرقها من العلماء التابعين لها، ونشر مواقع إلكترونية متعددة، إضافة إلى الاستعانة بكافة وسائل الإعلام للحد من آثار أبحاثها على الأتباع..
ومن بين الانتقادات التي صدرت من هذه الفرق ضد أعمال 
"ندوة عيسى" استبعادها للرسائل الأخروية من أقوال عيسى وأعماله، ومحاولة إضفاء ملامح مختلفة قد حطّت من القيمة البحثية لما يقومون به، وإن النتائج التي توصلوا إليها خاصة بآراء العلماء المشاركين في الندوة، وإن الآراء التي طرحوها مرتبطة بميولهم الشخصية وهى عبارة عن آراء مسبّقة ! وإن أربعة عشرة فقط من العلماء المشاركين في الندوة يعتبرهم المعارضون من العلماء الضالعين في مجال العهد الجديد أما باقي المائتين فيرون أنه لا ثقل علمي لهم !.. بل لقد تمادى البعض في انتقاده للندوة على أن عملها عبارة عن " نقد هدّام " ، على حد قول دانييل آكين، في جريدة "معمدانية الجنوب"، أما الجمعية التبشيرية الأصولية، وجمعية الحارس المفسّر، وجمعية الترسانة المسيحية، فقد اتهمت جميعها ندوة عيسى بأنها "أداة في يد الشيطان لهدم المعتقدات المسيحية"! ولقد علّق جيمس هوايت قائلا : " لإعادة بناء المسيحية، كما يقولون، فإنه يتعيّن على العاملين في الندوة التخلص من الأشياء الأساسية التي تقف أمامهم، وهى : الكنيسة، بكل ما بها من عقائد ومعتقدات، وخاصة ما تقدمه من معلومات حول المسيح. وبغض الطرف عن ضئالة ما تقدمه الصحافة من معلومات حول "ندوة عيسى" فإنها تقوم بحرب صليبية لبتر سلطة النصوص وتاريخية يسوع المسيح وأسس العقيدة المسيحية "!
صورة لغلاف شيفرة دافنشي
وأطرف ما يلفت النظر في هذه المقولة الأخيرة هي عبارة الإشارة إلى " ضئالة " ما تقدمه الصحافة من معلومات حول ندوة عيسى ! فمن الواضح إن هذه "الضآلة " بلا شك هي نتاج ما تقوم به الفرق التابعة للمؤسسة الكنسية من قبيل منظمة " أوبس داى " (عمل الرب ) والعديد غيرها، من ضغوط لعدم التعريف بهذه الأعمال.
و من مجرد تصفّح أسماء الجبهة المعارضة ووهن انتقاداتها يدرك القارئ مستوى ذلك النقد ودوافعه، خاصة وأنهم قد تفادوا أية مواجهة علمية أو مناقشة علمية، وإنما مجرد انتقادات
وتجريحات.. وهى جهود لا تأتى نتائجها عادة إلا فى البلدان النامية وتلك التي بها أقليات مسيحية متحكمة بصورة أو بأخرى..
وقد عاصرنا في العامين الماضيين (2005-2006 ) نموذجا من تلك النماذج في محاصرة 
" شفرة دافنشى " لكل من الرواية والفيلم المأخوذ عنها. ورأينا كيف لم تنجح الجهود المضنية التي قامت بها الفرق الفاتيكانية المعارضة إلا في بلدان العالم الثالث وتلك التي بها أقليات مسيحية (أوردنا تفاصيلها في مقال سابق ).. والسبب الرئيسي الذي يدفع تلك المؤسسة الكنسية لمحاربة واقتلاع كل من يخالفها هو : أن نشر هذه المعلومات بين الجماهير يضر بعمليات التبشير التي أصبحت تتم بجسارة متزايدة، بفضل مظلات سياسية وقوانين ردعية صيغت، بكل أسف، خصيصا لحمايتها..
وتكفى الإشارة هنا إلى أن كل ذلك الجهد العلمي الذي يقوم به معهد ويسْتار منذ عام 1985 وحتى يومنا هذا، لم تشر إليه وسائل الإعلام في مصر، على اتساع مجالاتها وتنوعها، إلا في مقال يتيم صدر بجريدة "الدستور" في 12 / 10 / 2005 ضمن موضوع آخر وكأن المسألة عرضية وليس الغرض منها التعريف بها تفصيلا ! وهو ما يعد، في حد ذاته، في مثل هذا المناخ المتواطئ، فى ميزان حسنات من كتبه.
ولا يبقى بعد هذا العرض الخاطف لأعمال "ندوة عيسى " بمعهد ويسْتار، بالولايات الأمريكية، إلا أن ننتظر صدور نتائج آخر أبحاثها لا فيما يتعلق بأصول المسيحية فحسب وإنما بكل مكوناتها التى تمت صياغتها عبر المجامع على مر العصور.. وهو ما يمكن مراجعته و التأكد منه بقراءة الأناجيل المعتمدة، خاصة فى طبعاتها القديمة، قبل ان يتم تعديل الكثير بها من طبعة إلى أخرى، من أجل إضفاء شىء من المنطق عليها أو من أجل عمليات التبشير..

قال الله تعالى في كتابه العزيز : {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ}[البقرة:79].
مع تحيات الدكتورة زينب عبد العزيز
يمكن مراسلة المؤلفة :

المراجع العلمية:
 موقع ويستار
Robert Funk & the Jesus Seminar :
The Five Gospels : the search for the authentic words of Jesus, 1993
Acts of Jesus : What Jesus really do ? 1998
The Gospel of Jesus, according to the Jesus Seminar, 1999
Jean-Yves Leloup :
L'évangile de Thomas, Albin Michel, 1986
L'évangile de Marie, " " 1997
L'évangile de Philippe, " " 2003
John Dominic Crossan :
Four other Gospels : Shadows on the Contours of Canon
Robert J. Miller, editor :
The Complete Gospels : all twenty of the known Gospels

حقيقة الحياة الدنيا


 بقلم هارون يحيى
تأمل صورة هذه الرجل  يقدر عمره بسبعين عاما. ترى ماذا يدور في خلده حول الأيام التي مضت من عمره؟
هذا وغيره من الناس من الذين عاشوا قرابة سبعين أو ثمانين عاما يصابون بالدهشة والاستغراب ويتساءلون في أنفسهم: كيف مرت كل هذه الأعوام الطويلة بهذه السرعة دون أن يشعروا بها؟ بل سيقولون لك :"لم أفهم شيئا يذكر من هذه الحياة التي مرت في لمح البصر"!.
وعندما كانت هذه الرجل في العشرين من عمره وفي ريعان شبابه لم يكن يتصور أبدا أن يد الشيخوخة سوف تطاله في يوم من الأيام  ولم يدر ذلك في خياله.
ولو طلبنا من هذه الرجل أن يلخص لنا كتابة حياته التي عاشها فسوف يقول لك: "أجل!… لقد مرت كل هذه الأعوام في لمح البصر و إذا أردت مني أن أدونها لك فلا أستطيع سوى كتابة خمسة أو ستة أسطر, أو  إذا أردت فيمكن أن أتكلم عنها لمدة ست ساعات. . . هذا كل ما في الأمر"!.
إن الشخص الذي عاش في خضم كل هذه الأعوام ستتبادر إلى ذهنه بعض الأسئلة المهمة:
- ما غاية هذه الحياة التي مرت كلمح البصر؟
- لأي غاية عشت هذه الأعوام السبعين؟
- حسنا!. . . ماذا سيحدث بعد الآن؟
لاشك بأننا سنسمع رأيين مختلفين لو طرحنا هذا السؤال على مجموعتين من الناس. المجموعة الأولى هي المجموعة غير المؤمنة بالله والمجموعة الثانية هم الأشخاص الذين يؤمنون إيمانا صادقاً لا يعتريه الشك بوجود الله. إن إجابة أي شخص من المجموعة الأولى -على الأغلب - ستكون كالأتي:
" لقد مرت معظم سنين حياتي لغايات تافهة وفارغة, فلم أفهم بوضوح لأي غاية عشت هذه السنين السبعين. بداية كنت أعيش من أجل أمي وأبي ومن ثم من أجل زوجتي ومن ثم لأجل أولادي. . . أما الآن فإن الموت بدأ يقترب مني وسأرحل قريبا عن هذه الدنيا. . . وماذا بعد ذلك؟. . . ماذا سيحدث بعد ذلك؟ لا أدري. . . ولكن بالتأكيد سينتهي كل شيء. "
إن أسباب هذا الفراغ الذي يقع فيه أمثال هؤلاء هي عدم إدراكهم غاية خلق جميع الموجودات والأحياء, وهذه الغاية هي وراء خلق جميع هذه الكائنات. إن الإنسان العاقل الذي  إذا ألقى نظرة من حوله سيدرك أن هذا النظام المدهش والفريد من نوعه الذي يحيط به قد أوجده وصوره خالق ينفرد بعلم لانهائي وبقدرة غير محدودة. إن عدم ظهور هذه الموجودات والكائنات بشكل اعتباطي أو عشوائي أو نتيجة مصادفات، بل ضمن مخطط زمني منظم غاية النظام يجسد الغاية التي خلقت من أجلها. وإن هذه الغاية قد دلنا عليها رب العالمين من خلال كتابه العزيز وهو القرآن الكريم المرسل هدى للناس أجمعين.
إن الشخص المؤمن بالله عز وجل والذي يضع نصب عينيه هذه الحقائق سيجيب على هذه الأسئلة السابقة بصورة صحيحة وسيقول:
" لقد خلقني الله رب العالمين وأرسلني إلى هذه الدنيا, وكلفني أن أقضي هذه المدة في العبودية له وبأحسن وجه, وقد أختبرني لهذا الغرض وأمتحنني. وكنت أعلم مسبقا بأن هذه الحياة قصيرة وزائلة وستمر في لمح البصر, لذا بذلت جهدي لكي أكون عبداً مطيعاً لا ينخدع بمباهج هذه الحياة الفانية وبملذاتها.
ثم تسألني: ماذا بعد ذلك؟… لقد حاولت طوال حياتي أن أكون عبدا صالحا أقوم بجميع ما أمرني الله به على أكمل وجه، لأن طموحي وأملي كان هو الفوز بالسعادة الأبدية بالدخول إلى الجنة، والفوز بها. وأنا انتظر بفارغ الصبر اليوم الذي أمثل فيه أمام رب العالمين".
ولاستعراض الفرق بشكل أفضل بين هاتين المجموعتين التي ورد ذكرهما أعلاه يستحسن أن نركز على هاتين النقطتين:
إن إيمان أكثرهم بوجود الله لا يمثل الإيمان الحقيقي, فكثير منهم يؤمنون بوجوده ولكنهم لا يدركون الأهمية  الكبرى لهذه الحقيقة العظمى, فالفكرة الباطلة والسائدة بين أغلبية الناس هي أن الله خلقهم وتركهم يتصرفون كما يحلو لهم، وترك حبلهم على غاربهم. وقد نبه القرآن المنزل لإرشاد الإنسانية إلى أنه عندما يطرح سؤال من خلق السماوات والأرض على الناس لأجابوا: الله. ولكنهم مع هذا لا يستفيدون من هذا ولا يعتبرون.
 وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (لقمان 25)

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فأنّى يُؤْفَكُون وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (زخرف 87)

 لهذا فإننا نرى في حياتنا اليومية أن انقياد هؤلاء البشر إلى هذا التفكير الخاطئ قد أدى إلى انعدام تواصلهم الروحي مع الله تعالى، وهم يحسبون أنهم قد تحلوا بصفات حميدة في الحياة الدنيا ستكون كفيلة بأن تأخذ  بأيديهم إلى الجنة بعد أن يقضوا فترة قصيرة من الزمان في عذاب جهنم. وبجانب هذا فإن هناك قسماً كبيراً يعتقدون بأن الله خلق لهم هذه النعم وأنه يجب أن يتنعموا بها إلى أقصى حد ممكن دون أي اعتبارات أخرى. وبمثل هذا المنطق الناقص والتفكير الساذج يستمرون في ممارسة حياتهم اليومية بشكل عادي دون الالتفاف إلى حكمة وغاية هذه النعم الربانية. ولكن الحقيقة عكس هذا بالتأكيد، لأن هؤلاء الذين نسوا الله يعيشون في الحقيقة في غفلة كبيرة وعميقة وهذا ما أشار إليه الله في كتابه العزيز:  
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ (الروم 7)
فمثل هؤلاء البشر الذين يعيشون في غفلة تامة لا يدركون حقيقة هذه الحياة، ولا ماهيتها حق الإدراك, ولا يخطر على بالهم بأن هذه الحياة قصيرة جداً لدرجة إنها تمر كلمح البصر. ويمكن أن ندرك هذه الحقيقة إن أجلنا طرفنا فيما حوالينا. ومن المفارقات الغريبة أننا كثيرا ما نسمع من الذين يتندرون بإطلاق بعض الأمثال الشعبية المعروفة والتي تشير إلى تفاهة هذه الحياة وزوالها منها:
(دنيا فانية ). . . أو ( آه من هذه الدنيا الزائلة ). . . . أو (ماحدش واخد منها حاجة) !!. . . . إلخ
ولكن عندما نمعن النظر في هذه العبارات نرى أنها ليست في الحقيقة سوى عبارات وشعارات جوفاء لا تعكس وجهة نظرهم الحقيقية. لأن مثل هذه العبارات ما هي إلا عبارات شعبية مأثورة يتداولها الناس فيما بينهم دون فهم صحيح لمدلولاتها ولا لمعانيها الحقيقية. والغريب أنه بعد طرح عبارات مثل: "دنيا فإنية" أو "كم مرة يعيش الإنسان؟". . . . نرى تكملة لهذه العبارات إجابات تنم عن منطق ضحل مثل: "لذا علينا أن نعيش هذه الحياة بشكل مكثف ولا نهدر هذه الفرصة".
ولكن كون هذه الحياة قصيرة وفانية والموت هو نهايتها الحتمية، والإنسان يأتي إليها لمرة واحدة فقط.  كان من المفروض أن يعد هذا الأمر من أهم الحقائق بالنسبة إلى الإنسان. قد لا ينتبه معظم الناس إلى هذه الحقيقة إلا بعد أن يصلوا إلى عمر متقدم. ولكن ما أن ينتبهوا إليها عليهم أن يراجعوا أنفسهم ويعيدوا النظر في طراز حياتهم فينظمونها من جديد وحسب مرضاة الله وما يريده منهم. إن الحياة قصيرة ولكن الروح يظل بمشيئة الله -خالدا إلى الأبد. وماذا تعني حياة قصيرة أمدها بين ستين إلى سبعين عاما بجانب الحياة الأبدية التي ليست لها حدود؟!!.
أليست من الحماقة أن يضحي الإنسان بكل شيء من أجل متعة قصيرة وفانية؟.
ولكننا نرى أن المنكرين يسعون طوال حياتهم من أجل غايات فارغة وتافهة ويستنفدونها في سبيل هذه الأهداف الفارغة ناسين الله تعالى. وعلى الرغم من كل هذا فإنهم لا ينجحون– في الغالب- في تحقيق هذه الغايات الفارغة رغم كل هذا الجري واللهاث لأن نفوسهم لا تشبع بل هي جائعة على الدوام. لأنهم وببساطة يطلبون المزيد ثم المزيد ولا يكتفون ولا تشبع نفوسهم أبداًَ. فإذا وصلوا إلى غاية ما تراهم يحاولون الوصول إلى غاية أكبر منها. ولأنهم  إن حصلوا على وضع أو مرتبة ما يحاولون الوصول إلى مرتبة أعلى، ثم مرتبة أعلى. . . وهكذا يقضون حياتهم في الجري لإشباع رغباتهم التي لاتعرف الشبع حتى يدركهم الموت. إنّ رغباتهم في الحصول على الشهرة والمال والمتعة تظل ناقصة بالمعايير الدنيوية, لأنه ستظهر أمامهم بالتأكيد أشياء أحسن مما موجود لديهم.
فعلى سبيل المثال نرى أحدهم يحلم دوما باقتناء إحدى السيارات ذات الطراز الرياضي الحديث, فنراه بعد محاولات كثيرة وصعبة يحصل على هذه السيارة الغالية ويحقق حلمه هذا الذي طالما سعى لتحقيقه. ولكن ماذا نرى؟ لقد ظهرت وستظهر أنواع أخرى من هذه السيارات التي تحتوي على ميزات أحسن وأفضل وأحدث. أو لنفكر في شخص قد قضى زمنا طويلا في جمع النقود اللازمة لشراء بيت طالما حلم أن يقتنيه ويعيش فيه. ولكننا نراه بعد تحقيقه لحلمه واقتنائه ذلك البيت بعد كل هذا التعب والعناء- يصادف بيتا آخر أجمل بكثير من بيته, فنراه وقد تملكه الإحباط والحزن، وبدأ بيته يفقد في نظره جاذبيته السابقة. بالإضافة إلى الألم الذي ينتاب الذين يرون ما يعتري ممتلكاتهم من اندثار بسبب القدم وما تجريه السنوات عليها من آثار سلبية.
إن التقدم العلمي المدهش يقدم للإنسان دوما أجهزة أحدث وأجمل وأحسن، فتفقد ما لدى هؤلاء من هذه الممتلكات رونقها وجاذبيتها وتبدو قديمة في أعينهم. ويستمرون طوال حياتهم في الدوران في هذه الدائرة المفرغة فلا تسكن نفوسهم أبدا ويظلون في لهاث دائم للحصول على الأجمل وعلى الأحسن. .  وبعد الحصول عليه يعتق هذا الشيء عنده ويفقد قيمته فيبدأ البحث عن الجديد مرة أخرى، وعن الأجمل. . . هذه هي الدائرة المفرغة التي عاش فيها الإنسان طوال التاريخ. لذا فإن الإنسان العاقل يجب أن يقف وأن يراجع نفسه في هذا الأمر ويعلم أن هذا الجري الأعمى لن يؤدي إلى نتيجة وان يقول لنفسه:
 " لا بد وأن هناك خطأ كبيراً في هذا الطراز من التفكير".
لكن نرى مع الأسف أن أغلبية الناس لا يملكون مثل هذا المنطق ويظلون يجرون وراء أحلام وخيالات لا يمكن أن تتحقق, بينما لا يستطيع أحد منا أن يضمن حياته حتى لبضع دقائق قادمة فالتعرض إلى حادثة سيارة، والتحول إلى شخص معاق، أو التعرض حتى للموت من الأمور السهلة والاعتيادية. والشخص الذي يتذكر الموت للحظة واحدة يدرك تمام الإدراك أنه عندما يثوى في قبره فلن يجديه نفعاً لا المال ولا الأولاد ولا المنصب أو الجاه ولا أي شخص من الأشخاص الذين كانوا موجودين حواليه. وسواء أكان غنياً أم فقيراً, جميلاً أم قبيحاً، فكل إنسان سيلف ببضعة أمتار من الكفن ويدفن في القبر.

لهذا فإن هذا الكتاب سيتناول عدم أمان هذه الدنيا الفانية التي لا تعطي الضمان لأي إنسان، والتي تمر كلمح البصر، مشيرا إلى أنها حياة خادعة تغر الإنسان، وذلك بنشر جميع أسرارها أمام أعينكم. لهذا فإن الله أو صى المؤمنين أن يحذروا الناس جميعا وينذروهم وأن يطرحوا أمامهم هذه الحقائق. كذلك فقد أمر الله جميع البشر ألا ينخدعوا بهذه الحياة الدنيا وأن يطيعوا أوامره, وهو في هذه الآية  يحذر الناس:
يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(فاطر 5)

الحياة الدنيا

إن الكون من حولنا موجود ضمن نظام دقيق، وتناغم فريد. وهو يضم 300 مليار مجرة وكل مجرة منها تحتوي في المعدل على 300 مليار نجمة. ويتجلى النظام المدهش الموجود في الكون في أن هذه المجرات والنجوم والكواكب والأقمار تدور حول نفسها من جهة، وتدور ضمن نظامه الفلكي في مدارات معينة من جهة أخرى. ولا يمكن بأي حال من الأحوال تفسير نشوء كل هذا النظام الرائع والترتيب المذهل، والحساب الدقيق عن طريق المصادفة.
وبالإضافة إلى هذا فإن أخذنا بنظر الاعتبار سرعة الكون فإن أمر النظام والتصميم البديع يأخذ  أبعادا لا يصدقه العقل البشري, فأوزان النجوم, والكواكب, والمجرات وعناقيد المجرات والتي تصل أوزانها إلى البلايين وملايين البلايين من الأطنان تتحرك في الفضاء بسرعات مدهشة. فالأرض مثلاً تدور حول محورها بسرعة تصل إلى 1670 كم /ساعة وتدور حول الشمس بسرعة 108000 كم/ساعة, بينما تدور المجموعة الشمسية حول مركز المجرة بسرعة تصل إلى 720000 كم/ساعة. كذلك تتحرك مجرة درب التبانة- أي مجرتنا- في الفضاء بسرعة تصل إلى 950000كم/ساعة.
إن استمرار هذه الحركة والتي لا تعرف السكون وبهذه السرعة تجعل كلا من الأرض والشمس تبتعد كل سنة عن موقعهما في السنة الماضية بنحو500 مليون كم! لذلك فنحن نعيش فوق أحد هذه الأجرام السماوية التي تتحرك بسرعة فلكية مخيفة. وبالإضافة إلى هذا فإن كوكبنا يعد كوكباً صغيراً وعادياً فيما  إذا قورن مع بقية الكواكب الموجودة في هذا الكون الواسع المترامي الأطراف.
إن هذه الدرجة التي لا تصدق من الدقة في التوازن الموجود في نظام الكون تشير إلى حقيقة لا مفر منها وهي, أن حياتنا على كوكبنا الأرضي مرتبطة بقيد شعرة!. لأن الأجرام السماوية  إذا تزحزحت أو تحركت أو انحرفت ببضع ميليمترات فقط خارج أفلاكها فإنه من الممكن أن تتولد نتائج وخيمة تجعل الحياة فوق كوكبنا مستحيلة. لقد كان من الممكن حدوث حوادث اصطدامات مروعة ضمن هذا القدر الكبير من السرعات المختلفة وهذا القدر الكبير من التوازن الموجود داخل هذا النظام, ولكن الحياة لا تزال مستمرة على كوكبنا، ولا زلنا مستمرين في العيش مما يشير إلى أن احتمال وقوع الكوارث فيه أمر نادر, فالنظام فيه مستمر ويسير دون أي خلل أو اضطراب. ونحن البشر نعيش على هذا الكوكب ونستمر في هذا العيش بأمان من دون أي قلق دون أن نشعر حتى بسرعة دوران الأرض.
أكثر الناس لا يفكرون كثيرا في كيفية استمرار هذه الحياة على الأرض، ونظرا لأنهم لا يفكرون، فهم لا يدركون أن حياتهم مرتبطة في الحقيقة بتوفر شروط غير اعتيادية تفوق الخيال. ولا ينتبهون إلى هذه الحقائق, لذا نرى أن أغلبية الناس الذين يعيشون على هذا الكوكب لا يدركون لأي غاية محددة خلق هذا الكون, فهم يستمرون في حياتهم دون أن يعبئوا كثيرا بسبب ولا بغاية وجودهم على هذا الكوكب ولا يعيرون أي اهتمام إلى هذه الدرجة العالية من التوازن والنظام العجيب الموجود في كل زاوية من زوايا هذا الكون العظيم. بينما العقل و التأمل هو الذي يجعل الإنسان إنساناً ويميزه عن باقي المخلوقات وهو أثمن العطايا التي منحها الله لبني البشر. والإنسان الذي لا يفكر ولا يستخدم ملكة العقل عنده لا يمكن أن يصل إلى الحقائق حول العديد من الأمور مثل: لماذا ولأي سبب يعيش الإنسان؟ لماذا خلقت الدنيا؟. ومن قبل من وضع كل هذا النظام الرائع في الكون. إن الشخص الذي  إذا فكر واستوعب ما استعرضناه آنفا سيصل إلى الحقيقة التي ستسطع أمامه كالنور ومفادها:
أن الكون الذي نعيش فيه والذي يحوي كل هذا التوازن الحساس قد أو جده خالق يملك علما لا حد له, وأن كرتنا الأرضية رغم صغرها مقارنة مع بقية الكواكب قد خلقت لغايات كبرى, ولا يوجد أي عبث في شأن من شؤون الإنسان. ولو تأملنا الكون من حولنا بدقة لوجدنا أن في كل ركن من أركانه دليلا قوياً على وجود خالق يمتلك قوة ً وعلماً لا نهائيين قد خلق الإنسان لغايات معينة ولم يتركه على هواه يفعل ما يشاء, وقد ذكر الله في كتابه المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلّم الغاية من وجود الإنسان على الأرض، فيقول: 
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ  ( سورة الملك 2)
إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا  (سورة الإنسان 2)
وقد أخبرنا القرآن الكريم بأن الله لم يخلق أي شيء على الأرض عبثا من دون غاية.
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَأتخذنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ   (سورة الأنبياء 16-17)
كل شيء في الطبيعة يتعرض إلى التلف مع الزمن. وهذه هي حقيقة الحياة الدنيا.
ماهية الدنيا
لقد خلق الله حياة الدنيا ليختبر فيها الإنسان ويمتحنه ولكي يرى أيهم سيتحلى بالأخلاق الحميدة ويبدي له إخلاصاً حقيقياً وعبودية كاملة. بمعنى آخر, فإن هذه الدنيا هي دار امتحان للتمييز بين الإنسان الذي يجتنب معصية الله وبين من يجحد به. ففي دار الامتحان هذه والتي تحوي القبح والجمال, الكمال والنقصان معا يمتحن العبد ضمن نظام لا يعتريه أي نقص. فالإنسان يمكن أن يظهر إيمانه بأن يسلك طرقا متنوعة في هذه السبيل, وفي النهاية فالذين يؤمنون بالله إيمانا لا يعتريه الشك أو التردد سيتميزون عن الملحدين والمنكرين وسيصلون إلى بر النجاة. وقد بين القرآن الكريم هذه الحقيقة في قوله:
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُون وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فليعلمن اللَّهُ الَّذِينَ   صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين ( سورة العنكبوت 2-3)
ولكي نفهم ماهية هذا الامتحان, بداية يجب أن نتعرف بصورة جيدة على خالق ومدبر هذا الكون, فهو الله خالق السماوات والأرض وما بينهما من العدم، والذي يحتاج إليه كل كائن وكل موجود, بينما هو تعالى المنزه عن النقص لا يحتاج إلى أحد, وهو خالق الإنسان من العدم قد أنعم عليه نعماً لا تعد ولا تحصى.
فليس بمقدور الإنسان أن ينظم بنفسه الفعاليات الحيوية العديدة داخل جسمه كعملية السمع والبصر والمشي وعملية التنفس. . . إلخ, ومع أن الإنسان لم يستطيع أن يدرك حق الإدراك كيفية عمل هذه الأعضاء والأجهزة فإن الله قد شكلها وصورها ووضعها في جسمه, ومقابل كل هذه النعم فإن الله لا يطلب من عبده سوى الإخلاص له في العبودية. ولكن وحسب ما تذكر العديد من الآيات نرى أن الكثير من البشر يتميزون بخاصية الجحود والظلم، فبدلاً من أن يشكروا ربهم ويحمدوه ويخضعوا له تراهم ينسون هذا ويتصرفون بكل ظلم وجحود ويتعدون الحدود الموضوعة أمامهم، متوهمين بأنهم يمتلكون قوة كبيرة, وبأنهم لن يفارقوا هذه الدنيا إلا بعد زمن طويل. لهذا السبب فإن غايتهم الوحيدة تكون متوجهة فقط لهذه الحياة الدنيا. فهم يتناسون الموت ولا يقومون بإعداد أنفسهم بأي شكل من الأشكال لما بعده, فشغلهم وشاغلهم هو أن يوفروا لإنفسهم حياة أفضل, وأن يستمتعوا بجميع اللحظات التي يعيشونها إلى أقصى حد ممكن، وأن يشبعوا جميع أهوائهم ورغباتهم.
وقد ذكر الله في آياته الكريمة حول مدى ارتباط الإنسان بهذه الدنيا بقوله:
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا  (سورة الإنسان- 27)
ويغيب عن بال معظم هؤلاء المنكرين والذين يلهثون وراء هذه الدنيا سر في غاية الأهمية, إلا وهو الانقضاء السريع لهذه الدنيا. وهذا موضوع ينساه الوالهون بالدنيا ولا يفكرون فيه ويحاولون تناسيه ما استطاعوه إليه سبيلا ً.
ولكن مهما حاولوا فلن يستطيعوا الفرار من هذه الحقيقة.

بضع ثوانٍِ أم بضع ساعات؟

دعنا نفترض بأنكم في يوم عطلة وأنكم- وبعد رحلة دامت ساعتين- وصلتم إلى القرية السياحية التي طالما حلمتم بالذهاب إليها, حيث المكان يعج بالزوار من حولكم. وفي صالة الانتظار التقيتم ببعض الأصدقاء وبعد تبادل التحيات معهم توجهتم إلى غرفتكم ولكي لا تضيعوا المزيد من الوقت أسرعتم في تغيير ملابسكم وانطلقتم إلى ساحل البحر. و إذا بمياه زرقاء صافية تمتد أمامكم, وساحل رملي يشع مثل الذهب, والجو الحار يدعوكم لكي تستعجلوا في النزول إلى البحر, وبدأتم بالسباحة, وفجأة سمعتم صوتا يقول لكم "انهض ! لقد بلغت الساعة الثامنة صباحا". ولكنكم لم تفهموا شيئا، ولم تعطوا تفسيرا لهذا الصوت. وفي تلك اللحظة ستحاولون أن تجدوا حلقة وصل بين ما تسمعونه وبين المكان الذي أنتم فيه. في النهاية بدأتم تفتحون أعينكم شيئا فشيئا وتستردون وعيكم, و إذا بجدران غرفتكم تتراءى أمام ناظركم. . . آه!. . . لقد كان ذلك حلما إذن!! وفعلا وبعدما أفقتم أدركتم أن كل ما رأيتموه كان عبارة عن حلم جميل. ولكن كيف؟!. . . . يا الهي!. . . لقد كان كل شيء حقيقيا إلى أبعد الحدود!. . . . لقد أمضينا قرابة الساعتين في الطريق إلى القرية السياحية ولقد التقينا العديد من المعارف والأصدقاء في تلك القرية السياحية, وكذلك كان هناك ذلك الساحل الجميل والبحر الجميل, وماذا أقول عن ذلك الجو؟ ذلك الجو الذي كان رائعا بل وما زلت أشعر بحرارته في جسمي على الرغم من الطقس الشتوي السائد حولي وأنا أحاول القيام من الفراش. . . . أنه شيء محير حقاً.
 إذن فعلى الرغم من تخيلكم بأنكم قضيتم فترة طويلة, إلا أن هذا الزمن الطويل المتخيل لم يكن سوى ثوان معدودات مرت بكم في الحلم. ومهما حاولتم إثبات عكس هذا, ففي النهاية يجب القبول بالحقيقة الواقعة.
ومثل هذا الذهول والدهشة هو ما سيصيب المنكرين الذين يأتون إلى الآخرة بعد الانقضاء السريع لحياتهم الدنيوية بعد ما خدعتهم هذه الحياة القصيرة وظنوا بأنهم ماكثون فيها ألف عام. بل إن البعض منهم كان يخيل إليه أنه سيعيش فيها آلاف السنين. ولكن بعد بعثهم وحشرهم بعد الموت سيدركون بأن حياتهم الدنيا كانت قصيرة جدا.
وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله:
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أو بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّين قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إلا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُم ْتعلَمُون أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (سورة المؤمنون 112– 114)
وسيحسب الذين عمروا في الدنيا عشرة أعوام أو مائة عام بأنهم لم يلبثوا فيها سوى يوم واحد فقط. تماما مثل الشخص الذي ينتبه من نومه بعد حلم طويل فيكتشف أن ما رآه من حلم حول عطلة طويلة كان عبارة في الحقيقة عن عدة ثوان فقط. . بل ستبدو هذه الحياة التي عاش سنواتها طولاً وعرضاً وبكل حرص وتشبث بها وتمسك بأهدابها. . . ستبدو له وكأنها كانت عبارة عن ساعة واحدة فقط، وهو مستعد لأن يقسم ويحلف على هذا:
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ  (سورة الروم 55)
فكما هو معلوم لدى الجميع وبصورة أكيدة أن الحياة الدنيا محدودة يمكن أن تمتد إلى بضع ساعات أو إلى يوم واحد أو إلى أسبوع أو إلى ثلاثين عاما أو إلى سبعين عاماً. وككل شيء محدود فإنها ستنتهي في يوم من الأيام  . لذا فإن الشخص الذي يعيش 80 عاما أو حتى 100 عام, فإن كل يوم يمر من عمره هذا يعني اقترابه شيئاً فشيئاً من النهاية المحتومة والتي لا مفر منها على الإطلاق. ويعرف كل واحد منا أمثلة على هذا من حياته. فكم من خطة طويلة الأمد رتبتها في حياتك ثم إذا بك ترى أن المدة الطويلة قد انقضت تماما، وعندها نلتفت إلى الوراء ونقول: " رباه. . . كيف انقضت كل هذه المدة بهذه السرعة ؟ ".
لنأخذ  مثالاً آخر ولنتصور في ماذا يفكر الشاب وهو يخطو خطواته الأولى في مرحلة الثانوية. فعندما كان في الصف الأول ثانوي فإنه يتصور بأن بلوغ المرحلة الأخيرة من الثانوية حلمُ بعيد المنال ولن يأتي, وأن أمامه مشوارا طويلا. ولكننا نراه ينهي الثانوية ويدخل الجامعة ويتخرج حتى يكاد لا يتذكر ما كان يفكر به أيام السنة الأولى من الثانوية لأنه في هذا الوقت لديه خطط أخرى يفكر في إنجازها, فربما يخطط للزواج بعد عدة أشهر وهو يجر تلك الأيام  ويرى إنها لا تنتهي ويستبطئ وصول ذلك اليوم الموعود. ولكن ذلك اليوم سيأتي أيضاً وسينقضي أيضاً وبدون أن يشعر تأخذ ه دوامة الحياة فلا يرى نفسه إلا وقد أصبح أبا وجدا له أبناء وأحفاد، و إذا به قد أصبح رجلا مسناً وشيخاً. . . . إذن فقد أو شك العمر على الأنتهاء، ولم يبق على موعد اللقاء مع ذلك اليوم الكبير سوى بضعة أعوام، وربما بضعة أسابيع بل ربما بضع دقائق. . . من يدري؟.
هذا علماً بأن الله قد وضح لنا منذ فجر التاريخ حقيقة كون هذه الحياة مجرد محطة انتقالية ومؤقتة وقصيرة نمر من خلالها إلى الدار الحقيقية، إلى دار الإقامة الدائمة وهي دار الآخرة التي هي "دار المقام". وشرح لنا عن طريق الوحي جميع التفاصيل المتعلقة بالحياة الخالدة في الجنة وفي جهنم. وعلى الرغم من كل هذا نجد الإنسان يوجه جلّ اهتمامه لهذه الدنيا القصيرة محاولا إشباع نزواته وأهوائه وشهواته. ولكن لو حاول الإنسان أن يستوعب الأمر بجميع تفاصيله وأن يحكم العقل والمنطق لوجد أنه لا وجه للمقارنة بين حياة أبدية ونعم لا تزول وعدنا بها رب العالمين وبين هذه الحياة القصيرة الفانية, وأن عليه أن يعمل من أجل الفوز بالجنة وما تحويها من نعم لا مثيل لها, حيث فيها لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطرت على قلب بشر. وهذا يتم عندما يكون توجهه خالصا إلى الله.
أما الذين لا يفكرون في هذه النهاية ولا يرون بأنها واقعة بهم, فإنهم ولاشك سيستحقون العذاب الذي أعدّه الله لهم, حيث ذكر الله في قرآنه الكريم النهاية المحتومة لهؤلاء البشر الذين يهربون من أداء العبودية لرب العالمين في قوله:                    
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلا سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَد خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين َ ( يونس 45)
 فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أو لُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( الأحقاف 35)
الحرص الذي لا يؤدي إلى نتيجة
لقد استعرضنا فيما سبق قصر هذه الحياة الدنيا, وكيف إنها تمر بنا كلمح البصر. هنا يجب الإشارة إلى نقطة مهمة تغفل عنها عيون الكثير من الذين وضعوا جلّ اهتمامهم هذه الدنيا, وهي أنه لا يمكن لأي شخص مهما امتلك من إمكانيات وقوة وثروة أن يصل إلى الطمأنينة الحقيقية وإلى الراحة النفسية من دون الإيمان بالله.
 إن الإنسان ما إن يبدأ بالوعي وبإدراك الأشياء من حواليه حتى تبدأ وتظهر مطالبه ورغباته التي لا تعرف لها أي نهاية، وهو يحاول تلبية جميع هذه الرغبات وإشباعها. ولكن الإنسان مقابل هذه الرغبات التي لا تنتهي لا يملك الإمكانيات التي تحققها جميعا، لأن إمكانياته محدودة. وحتى لو فرضنا أنه يستطيع ذلك فلا يغير هذا من الأمر شيئا، لأنه حتى وإن أصبح أغنى أغنياء العالم فهذا الغنى زائل، لأنه إن كان متوسط العمر يتراوح بين سبعين إلى ثمانين سنة وما إن تنتهي هذه المدة حتى يفقد كل شيء بالموت.
      لذا فإن الإنسان الذي لا يعرف حدوداً لرغباته يظل يعيش– كجزاء وعقاب من الله– في حالة من "الجوع وعدم الاكتفاء النفسي"، وتتملكه في كل فترة من فترات حياته رغبة عارمة في تملك أشياء معينة. وهو في سبيل تحقيق رغباته تلك نراه يجري ويعمل بكل جهد حتى وإن أدّى به ذلك إلى أن يسلك في هذه السبيل طرقا ملتوية, ويكون مستعدا في هذا الخصوص لكي يعادي أقرب الناس إليه:عائلته وأقرباءه وأصدقاءه إن ظن أنهم سيكونون حجر عثرة أمام تحقيق رغباته, والغريب في الأمر أنه ما إن يحصل على بغيته حتى يبطل سحر ذلك الشيء لديه ويفقد قيمته وينطفئ بريقه مهما كان ذلك الشيء ثمينا. وكأنه لم يبذل في سبيله كل تلك الأشهر والسنوات. ثم إذا بنا نراه يبدأ مجدداً في السعي لإمتلاك شيء آخر وقعت عيناه عليه ويبدأ كما فعل سابقا العمل بكل جهد من أجل ذلك الهدف الجديد. . . وهكذا يستمر في سعيه دون انقطاع.
 إن الشخص المنكر يستمر حتى وفاته في السعي من أجل امتلاك الجاه والمال وكل ما تقع عيناه عليه دون أن يفتر. ولا يسعد أبدا بما تملكه وحصل عليه, فلا يكون قنوعاً بما لديه لأنه لا يوجد في نيته كسب رضى الله بل العكس فهو يسعى من أجل إرضاء روح الأنانية التي تتملّكه, وهذا بالطبع يؤدي إلى أن يكون مختالاً ومغروراً بنفسه ولهذا فإن رب العالمين لا يمنح الطمأنينة الحقيقية وراحة البال لأمثال هؤلاء من الذين أصبحوا عبيدا لشهواتهم ولنزواتهم ولأنانيتهم.
ونجد هنا أن الله ذكر في قرآنه الكريم أن الذين يتوجهون إلى الله ويذكرونه باستمرار هم الذين يعيشون حياةً ملؤها الطمأنينة وراحة البال.
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ إلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد 28)

 الانخداع بالحياة الدنيا

إذا أجال الإنسان بصره فيما حوله رصد الكثير من أنواع ومن صور الجمال التي تبهج النفس والفؤاد وتسر الأعين وهو يراقب كل هذه الأشياء بإعجاب كبير, فالتصميم الدقيق والدقيقة المصممة بكل جمال في جسم الإنسان. . . ملايين الأنواع من النباتات والزهور الجميلة. . . , انتشار قطع الغيوم الكبيرة وتناثرها على مساحات شاسعة في سماء رحب. . . بالإضافة إلى الكثير من المخلوقات والأشياء التي صممت بشكل دقيق تبعث في النفوس البهجة والسرور. بالإضافة إلى ما تشاهده الأعين فإن هناك حواساً أخرى تمنح الإنسان فرصة الاستمتاع بأشياء أخرى. مثلا حاسة التذوق التي تمنحنا فرصة تذوق الأطعمة المختلفة, وحاسة السمع التي تمنحنا فرصة الاستماع إلى مقطوعة موسيقية عذبة تخترق شغاف القلب, وحاسة الشم التي تجعلنا نشم رائحة وردة عطرة. فكم هو جميل ومبهج أن نشاهد منظر فاكهة متدلية من غصن شجرة وأن نشم رائحتها ثم أن نستمتع بطعمها اللذيذ؟. وكذلك ما نراه من اختلاف الألوان وتناغمها في الأزهار وأشكالها وصورها العديدة الجميلة والتي تمنحنا الإحساس بالبهجة والانشراح والمتعة, وكذلك منظر وجه جميل لإنسان، أو منظر بيت جميل أو سيارة حديثة. . . قائمة يطول الحديث عنها وهي تجعل بني البشر يجرون طوال حياتهم من أجل أن يظفروا بها. ولكن ما أن يلتفت إلى هذه الأشياء  بعد مرور فترة من الوقت عليها حتى يقع في حيرة كبيرة لأنه سيرى أن كل هذه الأشياء قد فقدت جاذبيتها وجمالها, وانقلبت إلى حال لا يرغب أحد حتى في إلقاء نظرة عليها.
 فالفاكهة اليانعة التي قطفت حديثا من الشجر والتي كانت نضرة وزاهية تفوح بعطر أخاذ نراها بعد فترة وقد فقدت نضارتها وبدأت علامات التلف تظهر فيها، وتبدأ تدريجيا في التعفن وتنبعث منها روائح كريهة. ثم ما بال تلك الأزهار الحمراء التي قطفناها من الحديقة والتي كانت تضفي على البيت جمالا؟ لقد فقدت رونقها ونضارتها بعد أيام معدودات وبدأت تذبل. . لنتأمل وجه إنسان حسن الطلعة فبعد 60 عاما عندما تتطلع إليه ترى أن التجاعيد والخطوط العميقة قد أخذت مكانها في وجهه واشتعل رأسه شيباً حتى لا نكاد نعرفه. وذلك البيت الذي طالما حلمت به تراه بعد سنين وقد أصبح بيتا بالياً, ونفس المصير سيواجه سيارتكم الحديثة حيث ستفقد جاذبيتها بعد بضع سنين، ويكون الصدأ قد انتشر في أجزائها المختلفة. والنتيجة التي نخلص إليها أن كل شيء موجود حول الإنسان يميل إلى الفساد والتحلل والبلى وإلى فقد جاذبيته وجماله وجدته.
 قد يعتبر معظمنا هذه الأمور " نتيجة طبيعية أو مرحلة طبيعية" لا غرابة فيها. ولكن توجد هنا دون شك عبرة كبيرة ومعنى عميق. , لأن كل شيء عندما يواجه مصيره من العطب والقدم والتآكل يرسل لنا إشارة ورسالة مهمة هي: إن هذه الدنيا ما هي إلا سراب ووهم وخدعة كبيرة! وأن جميع الموجودات الحية من نبات وحيوان وإنسان مصيره إلى الفناء والزوال, وأن السبب الكامن وراء عدم إدراك هذه الحقيقة لدى الكثيرين منا يكمن وراء ولادة أجيال جديدة من الكائنات تأخذ  مكان الذين أدركهم الموت, لذا فإن الإنسان الذي لا يدرك حقيقة الموت نراه يعطي أهمية  كبيرة في هذه الدنيا للأشياء الفانية بينما الله تعالى هو صاحب  كل شيء ومالكه، والأحياء يحيون ويموتون بإرادته وبقدرته وحسب مشيئته.
وقد حذرنا الله من خلال العديد من الأمثلة الموجودة في القرآن الكريم من الانخداع بزيف هذه الحياة ودعانا إلى التفكير بعمق في هذه الحقيقة:
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الأنعَامُ حَتَّى  إذا أخذ تْ الأرض زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أنهم قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أو نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ   (يونس 24)
فكما تذكر الآية الكريمة فإن كل شيء جميل وحسن, سيأتي يوم يفقد فيه نضارته وحسنه بل حتى يفنى ويختفي من الوجود. ولكن معرفة هذا لا تكفي بل يجب التفكير بعمق في هذه الحقيقة الكبيرة, والله يقول بأنه يضرب الأمثال للذين يفكرون ويتأملون ويتعظون. وبما أن الإنسان كائن عاقل إذن عليه أن يفكر وأن يصل إلى نتيجة معينة من تفكيره. لأن الإنسان الذي لا يفكر ولا يتدبر ولا يعقل ولا يحمل مثل هذه الأوصاف المهمة لا يبقى هناك فرق كبير بينه وبين الحيوانات. ولا يميزه شيء عن سائر المخلوقات الأخرى، لأن هذه المخلوقات الأخرى تتوالد وتكبر وتتكاثر أيضاً وتستمر في الحياة ضمن القوانين التي تسيّرها, وطبيعي فهي لا تفكر كيف ولماذا خلقت, وأنها ستموت يوماً ما, وهي لا تكلف نفسها عناء البحث عن حقيقة هذه الحياة الفانية. وهذا شيء طبيعي بالنسبة إلى مثل هذه المخلوقات لأنها لم تخلق ككائنات مدركة أو صاحبة عقل. لأنها ليست مكلفة في البحث عن غاية الخلق وإدراك سر وجود الخالق, لكن الأمر يختلف مع الإنسان لأنه يكون مسؤولاً عن معرفة خالقه والعمل بما أمره به وهو مسؤول بأن يدرك بأن هذه الحياة ليست دار بقاء، بل هي مجرد دار زائلة يعيش فيها لفترة قصيرة قبل أن ينتقل إلى دار الآخرة. واجب عليه أن يدرك هذه الحقيقة ويبدأ بإعداد نفسه بأن يسلك جميع الطرق التي تجعله ينال مرضاة الله قبل أن يتقل إلى دار الآخرة, ولكن أي تصرف عكس هذا سوف يؤدي به لا محالة إلى مواجهة متاعب كبيرة في الدنيا وإلى عذاب شديد في الآخرة ً.
أمثلة من القرآن حول زوال الدنيا
ضرب الله لنا في القرآن أمثلة عديدة على زوال الحياة الدنيا. فقد استعرض العديد من المجتمعات الإنسانية التي عاشت في السابق وما أصابها من كوارث وما صب فوق رؤوسها من صنوف العذاب. كما أو ضحت الآيات القرآنية  الوجه الحقيقي للحياة الدنيا وصاحب الجنة وحواره مع صديقه الوارد ذكرهما في سورة الكهف مثال على هذا:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أكثر مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبدا    وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنْ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أو يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلاية لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا    ( الكهف 32-46)
تشير هذه الآية الكريمة إلى مدى الخطأ الذي يقع فيه الإنسان عندما يغتر بماله وبقوته، وكيف أن الله يستطيع في لحظة واحدة سلب كل شيء عنه. وإلى الحقيقة نفسها تشير آية  أخرى:
إِنَّا بَلَوناهم كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِين وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قال أوسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ   ( القلم 17-33)
فقد يكون الإنسان غنياً ولا يكون سعيدا بغناه. وقد تكون المرأة حسناء ويكون هذا الحسنُ وبالا ً عليها. قد يكون الإنسان مشهوراً ولكن في يوم ما يعيش وحيداً ثم يموت وحيداً في إحدى الغرف دون أنيس ولا قريب. وقد ضرب الله لنا مثالا لهؤلاء قارون وكان من قوم سيدنا موسى عليه السلام, فهنا يشير الله إلى قارون و إلى الذين على شاكلته ممن خدعوا بزينة هذه الدنيا وهم ظاهراً يؤمنون بالله ولكنهم نسوا الله بانخداعهم بسحر هذه الدنيا.
يقول الله تعالى:
 إن قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أو لِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخرة وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرض إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين قَالَ إِنَّمَا أو تِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أو لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أشد مِنْهُ قُوَّةً وأكثر جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُون فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أو تِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيم وَقَالَ الَّذِينَ أوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إلا الصَّابِرُون فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرضٍ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِين وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ تِلْكَ الدَّارُ الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرض وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (القصص 84 – 76)
وكما رأينا فإن الخطأ الذي وقع فيه قارون لا يتعلق بإنكاره وجود الله, ولكن خطئه يكمن في تحركه
بصورة مستقلة عن إرادة الله وبإحساسه بامتلاك قدرة منفصلة ذاتية, وأن هذه القوة التي منحه إياها الله تعالى قد فسرها على أنها حق طبيعي لإحساسه بتفوقه على باقي البشر. لكن يجب معرفة أن الجميع هم عباد الله، ولا يحق لهم المطالبة بأي حق منه, وأن ما منحه الله لعباده هو فقط ناتج عن الكرم الإلهي وعلى الذين يعون هذه الحقيقة أن لا يتمردوا أمام ما أنعم الله عليهم ولا يعصوا ولا يفرحوا بهذا الشكل المبالغ به لما منحهم رب العالمين من نعم, بل عليهم أن يشكروه وأن يفرحوا بهذا الإحساس, وأن هذا السرور الذي يجب أن يعيشوه هو أعظم وأرفع إحساس في الدنيا.
أما الذين أتخذوا قارون وأمثاله قدوة لهم في حياتهم فسوف يواجهون بالخسران والفشل, و إذا استمروا في عدم الاتعاظ بما أصابهم من محن ومصائب جراء سلوكهم هذا عندها سيكون مأواهم الخلود في نار جهنم, وهذه الحقيقة عبرت عنها هذه الآية الكريمة:
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَ الأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (الحديد 20 ) 
قال الله تعالى :(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا)

عجز الإنسان
لقد خلق الله الإنسان على أحسن صورة, ومنحه صفات عليا, وفضله على كثير من مخلوقاته بما وهب له من إمكانية اتخاذ القرارات وإمكانية تطبيق ذلك عمليا، ووضع الخطط واستنباط الحلول إضافة إلى القدرات الذهنية الأخرى.
لكن يا ترى هل فكرتم لماذا يحتاج مثل هذا المخلوق الذي يمتلك كل هذه الصفات العليا إلى بدن خاص لكي يحميه؟ لماذا توجد هناك مخلوقات لا ترى بالعين المجردة بل باستعمال المجاهر الإلكترونية مثل البكتريا والفيروسات التي يمكن أن تسبب ضرراً قاتلا للإنسان؟ لماذا يضطر الإنسان أن يحافظ على نظافة بدنه طوال حياته؟ولماذا يعاني جسم الإنسان من الشيخوخة والهرم؟.
 قد يعتبر البعض كل هذه الأمور أشياء طبيعية, فيما نرى أن هناك غاية خاصة لكل شيء تم إستعراضه حتى الآن وقد أو جد الله جميع التفاصيل التي من خلالها نرى عجز الإنسان وضعفه , ففي سورة النساء الآية  28 يسترعي انتباهنا إلى هذه الحقيقة بقوله( وخلق الإنسان ضعيفاً. . . . ) أي أن كل هذه الأمور موجودة لكي يعلم الإنسان بأنه خلق ضعيفا ً ويدرك مقدار ضعفه وعجزه أمام رب العالمين, وليعرف بأن هذه الدنيا لا يطول الأنتظار فيها.
فالإنسان لا يعرف متى وأين سيولد وأين ومتى سيموت, وهو مهما عاش حياة سعيدة فإن هناك عوامل يمكن أن تؤثر سلبا ً على سير حياته، وهو لا يملك أي آلية تمكنه من السيطرة على هذه السلبيات.
أجل!. . . إن جسم الإنسان يحتاج باستمرار إلى العناية به والمحافظة عليه لأنه لا يستطيع التكهن بما يمكن أن يتعرض له في هذه الدنيا حتى ولو كان يعيش في أي بقعة من بقاع الأرض سواء أكان يعيش في إحدى المدن الصناعية أم على بعد آلاف الكيلومترات من أقرب مدينة حضرية، أو في مكان يخلو من الماء والكهرباء في قرية نائية، فمن الممكن ومن المحتمل أن يتعرض هذا الشخص إلى مصيبة لم تكن في حسبانه أو يتعرض إلى مرض مميت أو إلى حادث يفقد به قوته أو سلطانه أو أحد أعضاء جسمه الذي طالما كان يفتخر به. إ
وهذا الأمر يسري على الجميع وعلى كل شخص مهما اختلف موقع هذا الشخص من الناحية الاجتماعية أو المادية, بمعنى ان كل شخص سواء أكان راعيا يصحب حيواناته إلى المرعى أو نجما مشهوراً على المستوى العالمي فهو معرض للمرور بتجارب وحوادث تغير مجرى حياته بشكل لا يتصوره.
 إن معدل وزن الشخص يتراوح بين 70-80 كغم وهو عبارة عن كتل من لحم وعظم, وهناك طبقة خفيفة من الجلد تغطي هذا اللحم. وهذا الجلد الرقيق  إذا تعرض إلى ضربة ظهرت عليه الكدمات، ويمكن أن يخدش ويجرح بسهولة, وهذا الجلد لا يتحمل التعرض للشمس لفترات طويلة، فإذا تجاوز هذا التعرض الحد الطبيعي احمر في البداية الأمر ثم انتفخ. وبإختصار فإن الشخص الذي يتعرض إلى جو حار يجب أن يتخذ احتياطاته اللازمة لكي يحمي نفسه.
لقد خلق الله الإنسان على أحسن صورة وجهزه بنظام متكامل، ولكن الحكمة الإلهية قضت أن يكون
 جسم الإنسان عبارة عن لحم ودهن، وهي مواد قابلة للتلف بسرعة، وذلك من أجل إبراز حقيقة فناء هذه الدنيا و بأن هذه الحياة ما هي سوى رحلة قصيرة. و إذا تخيلنا أن جسم الإنسان خلق من مادة أخرى قوية شبيهة بالدرع, حينذاك لا يمكن لأي جرثومة أو فيروس أن يخترق بدنه فلا تصيبه مختلف الأمراض المعروفة. فالمكونات الأساسية لجسم الإنسان هي الدهن واللحم وهي مواد قابلة للتلف بسرعة كبيرة. فإذا قمنا بتجربة وتركنا هاتين المادتين في العراء نلاحظ فساد وتلف هاتين المادتين بسرعة كبيرة. إن الحكمة من جعل اللبنات الأساسية لجسم الإنسان من هذه المواد القابلة للتلف هي إثبات عجز هذا الإنسان وضعفه. إن إحساس الإنسان بعجزه بشكل مستمر هو تذكير دائم من الله تعالى للإنسان. مثال على ذلك نلاحظ كيف إن تيارا هوائياً بارداً يترك آثاراً سلبيةً واضحةً على جسم الإنسان والذي يبين عجز جسم الإنسان. حيث بإمكان هذا التيار البارد أن يشل شيئا فشيئا أجهزة مناعة الجسم الفيزيولوجية.
لهذا فإن تثبيت درجة حرارة جسم الإنسان في مثل هذه الظروف وبصورة مستمرة في حدود 37 درجة مئوية ضروري جدا للمحافظة على صحته(1). ولكن في حالة تعرض جسم الإنسان إلى تيار هوائي بارد جدا فهذا سيؤدي إلى الانهيار التدريجي للجسم.
 في البداية تتسارع دقات القلب ويبدأ جسم الإنسان في الارتعاش لكي يدفئ نفسه(2)، فإذا  هبطت درجة حرارة الجسم إلى 35 مئوية فهذه علامة خطرة وستؤدي إلى نتائج وخيمة، إذ تبدأ ضربات القلب بالتباطؤ، وينخفض ضغط الجسم, وتبدأ الشرايين( ولا سيما في كل من الأذرع والأفخاذ والأصابع) في التقلص. والملاحظ أنه عند هبوط درجة الحرارة إلى 35 م يبدأ إحساس الشخص بالتبلد ويعاني أيضاً من عدم الدقة في تعيين الاتجاهات ويغلب عليه النعاس ويتشتت انتباهه, كما يعاني من شرود ذهني. وإذا استمر في تعرضه لموجة البرد هذه فترة أطول تهبط درجة حرارة الجسم إلى 33 درجة مئوية, وهذا يؤدي به إلى فقدانه الذاكرة والوعي. وعندها تهبط حرارة الجسم إلى 24 درجة مئوية يتوقف الجسم عن التنفس. وعند درجة حرارة 20 مئوية يتوقف الدماغ وتقف دقات القلب وهذا يؤدي بالنتيجة إلى وفاة الشخص. المثال المذكور أعلاه إحدى الأمثلة, وسوف نتناول في الصفحات القادمة من هذا الكتاب أمثلة أخرى وبشكل تفصيلي توضح عجز الإنسان وضعفه من الناحية الجسدية. إن غايتنا من هذا العرض هو إظهار أن العجز الذي هو صفة من صفات جسم الإنسان يحول دون وصوله إلى الإشباع الحقيقي في هذه الدنيا ويحول دون الجري الأعمى خلف هذه الرغبات الفانية، ويذكره بالحقيقة الواضحة التي لا جدال فيها وهي أن الجنة هي دار البقاء، لذا عليه أن يوجه جل اهتمامه للظفر بها. وفي الصفحات القادمة سنستعرض كيف أن الجنة هي المكان الذي يخلو من جميع أنواع العجز الجسدي وضعفه، ومن كل أنواع النقص والعيوب، حيث سيجد الإنسان هناك كل ما يطلبه ويشتهيه، ويكون بعيدا عن كل ما يعكر صفو حياته من جوع أو عطش أو مرض أو شيخوخة أو تعب. . . . . . . إلخ. إن هذا يظهر حقيقة أن هناك عظمة تفوق الإنسان وان هناك حقيقة واضحة وهي أن الإنسان بحاجة ماسة إلى الله تعالى في جميع الأوقات. ويؤكد القرآن الكريم هذه الحقيقة من خلال آيات عديدة منها الآية  الكريمة :

 يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إلى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (فاطر 15)  

متطلبات الجسد 

هناك الكثير من النواقص في جسد الإنسان، فالإنسان بداية يضطر لأن يحافظ على نظافة محيطه, ويأخذ  الوقت الذي يصرفه في هذا السبيل نصيبا وافراً من حياته. فالكثير من الاستطلاعات المنشورة تبرز الوقت المبذول في عملية الغسل في الحمام كالحلاقة وغسل اليدين والرجلين والشعر والجلد... الخ. نلاحظ هنا طول المدة الزمنية المستغرقة من عمره وهو يقوم بهذه الأعمال التي نندهش عند القيام بحساب طول المدة الزمنية لها، فهي مدة لا تخطر على بال الإنسان.
 إذا حولنا نظرنا إلى ما يحيط بنا سنرى أناساً من مختلف الصنوف من البشر، سنجد أن الكثير منهم يهتم بنظافة جسمه وملابسه, ونرى السيدات اللائى يضعن المكياج ويصففن شعورهن بشكل دقيق، ويلبسن ملابس مكوية بشكل جيد. ترى هل يفكر أحد من الرجال أو النساء كم يصرف من الوقت لكي يظهر بهذا المنظر المناسب ؟
     كما نعلم فإن المعتاد عند الكثيرين هو القيام بعمليات التنظيف المعتادة عند النهوض صباحا من النوم لحين توجههم إلى النوم مساء، وتشمل غسل جميع أعضاء الجسم. فأول عمل يقوم به الإنسان بعد الاستيقاظ في الصباح هو التوجه إلى الحمام ليقوم بغسل أسنانه نتيجة للترسبات المتراكمة في فمه من الجراثيم التي تتسبب في انبعاث روائح كريهة غير مستحبة. كذلك إلى عمليات أخرى يقوم بها الإنسان عند نهوضه صباحا. فلأن الدهون المتراكمة في وجهه وشعره وتكاثر القشرة بين بصلات شعره وما يفرزه جسمه من عرق كريه الرائحة غير مرغوبة بها، يضطره للإستحمام، وإذا لم يقم بالإستحمام فإن الدهون المتراكمة على جسمه وعلى شعره سيجعل من الصعب عليه أن يخالط الناس. والملاحظ أن كثرة مواد تنظيف الجسم وتنوعها تجعلنا نفكر إلى مدى الحاجة الماسة لهذه العملية. فبالإضافة إلى المواد التقليدية المعروفة كالماء والصابون فإن هناك مواداً أخرى يجب استخدامها لإزالة طبقات الجلد الميتة المتراكمة على جسم الإنسان. وعلاوة على تنظيف الجسم، فإن كل إنسان يخصص وقتا طويلا أيضاً في الاهتمام بنظافة ملابسه ونظافة بيته وبيئته التي تحيط به. وإلا فإنه يصعب الاقتراب من شخص انقضى على لبس ملابسه زمن طويل, أو ترك بيته دون تنظيف. وبإختصار فإن الإنسان يخصص من حياته زمناً مهما للقيام بأعمال التنظيف والصيانة المختلفة وهو يستعين بمعدات ومواد كيماوية مختلفة للقيام بهذه الأعمال.
عندما خلق الله جسم الإنسان ضعيفاً وعاجزا،ً وهب له إمكانية ستر هذا العجز وعدم إظهاره ولو بشكل مؤقت, كما وهبه القدرة على التفكير التي يستطيع من خلالها إخفاء هذا العجز وتنظيف جسده. ولكن البعض ممن لا يفكرون بشكل سليم ولا يستعملون الوسائل التي زودهم الله بها يظهرون بمظهر سيئ أمامنا، ولاسيما عندما لا يستعملون مواد التنظيف اللازمة, لذا يبدون بصورة مزرية ومنفرة جدا. ولكن مهما اجتهد الإنسان في عمليات التنظيف والعناية بجسمه فإنها ستكون مؤقتة. فإذا  قمت بتنظيف أسنانك فبعد مرور ساعة واحدة فقط سيبدو وكأنك لم تقم بغسلها, و إذا أستحم أحدهم في الصيف مثلا، فإنه وبعد ساعة أو ساعتين سيبدو وكأنه لم يستحم, كذلك فكروا في حال امرأة قضت ساعات طويلة أمام المرآة لكي تبدوا بصورة جميلة بعد وضعها المكياج بشكل متقن ودقيق على وجهها، إذ لن يمر وقت طويل حتى لا يبقى أي أثر لهذا المكياج حتى وإن ظلت بقايا من هذه المواد فإنها تأخذ  في الوجه شكلا غير مرغوب به.
أما الرجل الذي يحلق وجهه بعناية كبيرة - وهذا يستدعي أن يخصص زمنا لا باس به من وقته - فسيضطر بعدما ينهض في صباح اليوم التالي أن يعيد مجددا العملية نفسها. !!
المهم هنا هو الإدراك بأن هذا الضعف الجسدي يشير إلى غاية معينة، وان هذا العجز أو النقص قد وضع بصورة خاصة فينا، وهي ليست عيوب جبرية.
دعونا نتأمل هذا المثال : إن الشخص الذي ترتفع درجة حرارة جسمه سيعاني بعد فترة من التعرق وهذا شئ طبيعي وان الرائحة المنبعثة من هذا التعرق ستكون كريهة للغاية. إن كل فرد يعيش على وجه الأرض يواجه باستمرار مثل هذا الوضع.
ولكن الأمر مختلف عند النباتات : فمثلا إن الوردة يمكن أن تنبت في أراض مختلفة، فالزهرة التي تنبت بشكل طبيعي في إحدى الأزقة أو في شارع من الشوارع تكون معرضة لمختلف أنواع التلوث والأوساخ، ولكن هذا لا يؤثر على عدم نشرها لرائحتها الزكية. وهي مهما تعرضت لأي درجة من درجات التلوث والقذارة فهذا لا يجعلها تفوح بروائح كريهة، بل تظل تحتفظ دوماً برائحتها الزكية, وهي لا تحتاج إلى من يقوم يومياً بتنظيفها وبرعايتها. ولكن الأمر مختلف مع الإنسان, فالله تعالى منح الإنسان مختلف صنوف النقص لكي يحس بعجزه وبضعفه، فهو على الرغم من استعماله لمختلف وسائل التنظيف ومواد التجميل والروائح المعطرة لا يستطيع أن يجعل رائحته زكية وفواحة بصورة مستمرة ومن جميع أنحاء جسده. وبالإضافة إلى هذا العجز الجسدي فإنه يحتاج إلى الغذاء لكي يستمر في الحياة، ويجب أن تكون تغذيته هذه على مستوى عال من التنظيم. فجسم الإنسان يحتاج إلى أن يتناول في الوقت نفسه مواد غذائية تحوي فيتامينات وبروتينيات وسكر وكربوهيدرات ومختلف الأنواع من الأملاح. فإذا  حدث وان كانت الكمية المأخوذة من المواد التي ذكرناها غير كافية, فإن الأعضاء الداخلية لجسم الإنسان ستعاني من أضرار كبيرة، وكذلك أنسجة الجلد ستعاني هي الأخرى من أضرار كبيرة، وكذلك ستضعف منظومة المقاومة في جسمه. ولهذا السبب فبقدر اهتمامه بنظافة جسمه عليه أن يبدي نفس الأهتمام بنظام تغذيته. هناك حاجة ملحة أخرى للإنسان حتى إنها تعتبر أهم من الغذاء، لأنه يمكنه العيش لمدة من الزمن دون تناول للطعام، ولكن لا يستطيع العيش أكثر من بضعة أيام دون شرب الماء. لأنه  إذا لم يدخل الماء جسمه بأي شكل من الأشكال خلال هذه الفترة فإنه سيموت لا محالة, لأن جسم الإنسان بحاجة ماسة للماء على الدوام،  فجميع الفعاليات الكيماوية الحياتية التي تتم داخل جسم الإنسان والتي تديم الحياة تتم من خلال الماء الذي يلعب دورا حيويا. أن ما تم استعراضه هنا يمثل النقص والعجز الذي يصاحب كل فرد من بني البشر. ولكن هل جميع البشر يدركون بأن هذا يمثل نقصاً أو عجزا ً؟ هل يستوعب الجميع هذا الأمر؟ أم لكون الجميع مشتركون بهذا العجز والنقص يجعلهم يعتبرون الموضوع شيئا طبيعيا ؟ إن ما تم أستعراضه هنا من أو جه النقص والعجز شاملةً لجميع البشر، ولكن ما يجب تذكره وعدم نسيانه هو أن الله تعالى لو شاء ما جعل هذا النقص والعجز موجوداً عند الإنسان، ولجعله نظيفا يفوح دوما برائحة طيبة مثل الورود.
إذن يجب التذكر بأنه لو شاء الله ما جعل هذا النقص والعجز موجودا لدى الإنسان، ولكن لحكمة معينة خلق الله تعالى الإنسان بكل هذه النواقص. والإنسان الذي يشاهد بجلاء هذا العجز أمام خالقه عليه أن يسير في الطريق الذي رسمه الله تعالى له ودعاه أن يسير فيه وألا يحيد عنه, وألا يربط نفسه بهذه الدنيا الزائلة والناقصة, وان يستعد بكل جد ويتأهب لدار الخلود.
خمسة عشر عاما من عدم الوعي
على كل إنسان أن يأخذ  في كل يوم قسطاً من النوم لفترة زمنية معينة مهما كان مشغولاً أو حتى ولو لم يكن راغبا في النوم, فلا مفر أمامه من قضاء ربع يومه في النوم لكي يريح جسده وعقله، وإلا يصبح من غير الممكن أن يستمر على قيد الحياة. ففي اليوم الواحد نراه يقضي 18 ساعة وهو في أتم وعيه، والمتبقي من الزمن وهو 6 ساعات يكون غائبا عن وعيه تماماً. وإذا نظرنا إلى الموضوع من هذه الناحية نرى نتيجة مثيرة, وهي أننا لو اعتبرنا معدل عمر الفرد 60 عاما وحسبنا أنه يقضي ربع يومه في النوم فهذا معناه إن كل شخص يقضي 15 سنة من عمره وهو غائب عن الوعي. ونحن نلاحظ بجلاء كيف أن عيون الشخص الذي لم ينم لمدة يومين تصبح حمراء كالدم، ويبدو جلده وكأنه قد فقد حيويته وبهت لونه,
وإذا استمر على هذه الحالة فسيفقد وعيه لا محالة.
فالإنسان لا بد له أن يغمض جفنيه ويغيب عن الوعي وينام خلال يومه سواء أراد ذلك أم أبى, فهذه قاعدة لا تتغير ولا مفر منها سواء أكان الشخص غنيا أم فقيراً, جميلاً أم قبيحاً. فإذا أستسلم أحدنا إلى النوم فسيبدو كأنه شخص ميت لا يحس بأي شئ، ولا يقوم بأي رد فعل. فعلى الرغم من سلامة الأذنين (اللتان كانتا تسمعان وتفهمان الأصوات الصادرة قبل قليل) تصبحان عاجزتين عن أداء فعالياتهما المعتادة على الرغم من عدم وجود خلل ما في نظام الجسم الفيسيولوجي، حيث تهبط جميع الفعاليات البدنية إلى أدنى حد ممكن. ونلاحظ أن تركيز نظام الجسم ودقته يهبطان إلى أدنى مستوى لهما, وهذا يعد نوعا من أنواع الموت. لأن الجسد يرقد في الفراش بينما روحه تتجول في أماكن أخرى ويشعر بأنه يعيش حوادث مختلفة, فقد يرى نفسه وهو على شاطئ بحر ويحس بحرارة الجو، ولكن الحقيقة هي أنه مازال راقدا في فراشه ويغط في نوم عميق. ويحدث الموت التأثير نفسه فهو يأخذ  روحنا من بدننا هذا الذي نعيش به في هذه الدنيا وينقلنا إلى عالم جديد. والقرآن الكريم يتطرق إلى هذا التشابه بين الموت والنوم بقوله :
 وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أجل مُسَمًّى ثُمَّ إليه مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ  ( سورة الأنعام 60)
هناك آية أخرى تصف التشابه الموجود بين الموت والنوم بقوله تعالى :
 اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أجل مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ    (سورة الزمر 42 )                                                                     
      وأكثر الناس لا يفكرون أبدا في مفهوم غيابهم عن الوعي والإدراك وعدم قيام أجسامهم بالفعاليات المعتادة لفترة تأخذ  ربع مساحة يومهم وبالتالي ربع سنوات حياتهم الدنيوية, حيث يبدون خلالها وكأنهم موتى، ولا يخطر على بالهم أنهم خلال استغراقهم في نومهم مضطرون لترك كل شيء جانبا مهما كان الأمر عاجلا ً, حيث تصبح بعض الأعمال التي قاموا بها وبعض الفعاليات التي أجروها خلال يومهم هذا لا تحمل أي معنى خلال نومهم وغيابهم عن الوعي, مثل ما ربحوا من نقود, أو دخولهم لإمتحان مهم, أو شرائهم هدية ثمينة, لأنهم دخلوا إلى عالم انقطع من خلاله ارتباطهم بهذه الدنيا.
لقد استعرضنا سابقا من خلال بعض الأمثلة مدى قصر هذه الحياة الدنيا، ومدى انشغال الإنسان لإنجاز هذه الأعمال الضرورية، فإذا تم طرح الزمن الذي تم قضاؤه في هذه الحياة لإنجاز هذه الأعمال الضرورية, فسيجد أن المتبقي من الزمن الذي سيقضيه الإنسان لكي يلهو ويعمل ما يحلو له ويحقق رغباته لكي يستطيع أن يقول لنفسه ``إنني أعيش في هذه الدنيا كما يحلو لي``... سيجد أن هذا الزمن قليل جداً. لأن الزمن الذي يقضيه لإنجاز أعمال ضرورية مثل النظافة والتنظيف والنوم, وكذلك الزمن المهدر في ذهابه إلى عمله وإيابه منه لكي يضمن العيش في ظروف حياتية أحسن. . . كل هذه الفعاليات تأخذ  مساحة واسعة من الزمن المتبقي من حياته.
ومما لاشك فيه فإنّ الحسابات والأرقام المتعلقة بمقدار الزمن الذي يقضيه الإنسان وهو يعيش أوضاعاً وأحوالا مختلفة تدعو إلى الدهشة. فكما نوهنا سابقا بأننا لو فرضنا بأن معدل عمر الإنسان هو 60 عاما فإنه يقضي ما لا يقل من 15 إلى 20 سنة في النوم، والمتبقي هو 40 سنة إلى 45 سنة يقضي منها 5 إلى10 سنوات في مرحلة الطفولة التي لم يتكامل بعد فيها وعيه وشعوره تماما. وهذا يعني أن الإنسان الذي يعيش قرابة 60 عاما يقضي نصف عمره تقريبا في حالة من عدم الوعي. أما المتبقي من عمره فيمكن التطرق إليه من خلال إعطاء بعض الأرقام. مثال ذلك الزمن الطويل الذي يقضيه في إعداده الطعام والأكل، وتنظيف جسمه وبيئته من حوله، والزمن المهدر في الطريق لكي يتنقل من مكان إلى مكان آخر. وطبعا نستطيع أن نزيد من عدد هذه الأمثلة.
وفي النهاية نرى أنه لم يبق من عمره الطويل سوى ما بين ثلاث إلى خمس سنوات لكي يشبع رغباته وحاجاته الطبيعية. حسنا!.... ما هو وجه المقارنة الأن بين حياة أبدية وخالدة وبين هذه الحياة القصيرة جدا؟.
في هذه النقطة الفاصلة يظهر الفرق الكبير بين أصحاب الإيمان الحقيقي وبين المنكرين والعصاة.
 إن الإنسان العاصي والمنكر يحسب أن الحياة هي الفترة الزمنية التي يقضيها على وجه الأرض فقط، وهو يتعب من دون جدوى لكي يستمتع بطعم هذه الحياة الفانية التي تمر كلمح البصر، لأنه كما ذكرنا منذ البداية  فالحياة الدنيا هذه قصيرة جدا وهي تشتمل على نواقص عديدة, ونتيجة لعدم اعتمادهم وتوكلهم على الله فإنهم يجترعون طوال حياتهم الآلام الناتجة عن المصاعب الدنيوية من القلق والتفكير فيما سيحدث في الغد.
أما أصاحب الإيمان الحقيقي فهم يعملون طوال حياتهم لكسب رضا الله تعالى, وهم يعيشون حياتهم بطمأنينة وسكينة، بمنأى عن جميع المخاوف والأحزان نتيجة لانقيادهم لله تعالى، وهو ما يقودهم في النهاية إلى الفوز بدار النعيم الخالد ألا وهي الجنة.
والحقيقة أن غاية وجود الإنسان على وجه الأرض هي إمتحان لتصرفاته وسلوكه. لأن الله جل شأنه وعد الذين يتحلون بالأخلاق الحميدة والصفات الجميلة بالسعادة في الدنيا وفي الآخرة :
 جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهم الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون-َ  (سورة نوح 31 – 30)
  الأمراض والحوادث
الأمراض هي إحدى العلامات التي تذكر بعجز الإنسان، فنلاحظ أن الجسم المحصن والمحمي بشكل جيد يتأثر سلباً وبشكل جدي بالفيروسات والجراثيم التي لا ترى بالعين المجردة. ففي الوهلة الأولى فإنه من الصعب التصديق بأن بدن الإنسان يمكن أن يقع فريسة في أيدي هذه المخلوقات المجهرية بعدما زوده الله تعالى وعلى أكمل وجه بمختلف أنظمة وأجهزة الحماية المدهشة و بالأخص النظام الدفاعي المدهش والمناعة الموجودة في جسم الإنسان.
لكن رغم كل هذه النظم الدفاعية والتحصينات الموجودة في جسم الإنسان نراه يتعرض لمختلف الأمراض والعلل. فالنقطة التي يجب التفكير فيها هنا هي أن الله تعالى الذي منح الإنسان كل هذا النظام المذهل لو شاء ما جعل الإنسان يصاب بمثل هذه الأمراض ولا يتأثر مطلقا بهذه الجراثيم والفيروسات والبكتريا، بل لو شاء ما خلق هذه الجراثيم. لكن الملاحظ أن الإنسان يمكن أن يتعرض لخطر حقيقي من أصغر وأتفه الأسباب. ومثال على ذلك, أنه لو وجد في الجلد جرح صغير فإن فيروساً واحداً يستطيع إختراق الجسم من خلال هذه الفتحة الصغيرة ويتكاثر وينتشر في جميع أنحاء الجسم. فمهما تقدمت التكنولوجيا فإن أبسط جرثومة زكام يمكنها وبكل سهولة أن تسبب إزعاجاً جدياً للإنسان. والتاريخ يقدم لنا شواهد كثيرة على مثل هذه الحوادث, فمثلا نلاحظ كيف أن إحدى أنواع أو بئة الزكام التي انتشرت في إسبانيا عام 1918م قضت على أكثر من 25 مليون إنسان، وفي ألمانيا أنتشر وباء تسبب في وفاة 30 ألف شخص. إن ما ذكرناه ليست إحدى الأخطار البعيدة عنا، بل يمكن أن يتعرض لها كل إنسان وفي أي لحظة. وبالطبع فمن الخطأ المرور على هذا الموضوع دون تفكير فيه، واعتباره أمراً طبيعياً.
 إن الأمراض من ضمن عوامل الضعف الأخرى التي وضعها الله تعالى في الإنسان لكي يدرك المتكبرون منهم مدى ضعفهم وعجزهم، ويجعلهم يستوعبون أيضاً الوجه الحقيقي لهذه الدنيا الفانية.
 بالإضافة إلى الأمراض فإن هناك مخاطر أخرى يواجهها الإنسان في حياته ألا وهي الحوادث المختلفة. فعلى سبيل المثال حوادث المرور التي اعتدنا مشاهدتها في التلفزيونات وقراءتها من الصحف. فالإنسان لا يفكر كثيرا باحتمال تعرضه يوما ما لمثل هذه الحوادث. كما يمكن للإنسان أن يتعرض خلال ساعات يومه إلى حوادث أبسط بكثير من حوادث المرور وما أكثرها. فكثير ما نسمع أن أحدهم كان يمشي في طريق مستو و إذا بقدمه تصطدم بشيء ما فيقع على رأسه فيحصل عنده نزيف دماغي. أو نسمع عن شخص فقد توازنه وهو ينزل من سلم البيت ووقع فانكسرت قدماه ورقد في الفراش أشهر عديدة. أو عن شخص انسد مجرى التنفس عنده عندما كان يتناول الطعام مما أدى إلى حدوث عملية إختناق لديه. فكل هذه الحوادث ما هي إلا نتيجة أسباب بسيطة, ويمكن أن يتعرض لها بكل سهوله الآف الناس في مختلف بقاع الأرض.
وأمام استعراضنا لمثل هذه الحقائق فإنه يجب على الإنسان أن يفكر في معنى عدم الإرتباط بهذه الدنيا. فيجب عليه أن يدرك بأن كل شئ منح له بشكل مؤقت من أجل اختباره، فهو لا يستطيع أن يقاوم جرثومة واحدةً دخلت جسمه وعرضت حياته لخطر حقيقي, كذلك لا يأمن انزلاق قدمه عند عدم دقته في حساب خطواته التي يمشيها، لذا فكيف يجوز له أن يتجاهل كل هذا العجز ويتكبر تجاه خالقه؟
 لا شك أن الله تعالى الذي خلق الإنسان قادر وحده على أن يحميه من جميع المخاطر. ولا يملك الإنسان حماية نفسه من مختلف الأضرار والمخاطر المحيطة به مهما توهم نفسه كبيراً ومهما اغتر بقوته ولا أن ينفع نفسه بعيدا عن قدرة الله تعالى. ولكي يتذكر عجزه فإن الله تعالى قادر على أن يجعل في جسمه مختلف أنواع الأمراض, وإذا شاء الله تعالى جعل في بدنه الكثير من العاهات. وأخيراً - وكما بينا في البداية - فإن الله تعالى خلق الدنيا لكي يمتحن عباده, وكل إنسان مكلف أن يعمل الأعمال الصالحة لكي ينال رضا الله تعالى، وعليه أن يتبع مختلف الطرق لتحقيق هذه الغاية الكبيرة. وستكون الجنة من نصيب الذين يتحلون بهذه الأخلاق الحميدة من الذين يتبعون ما أمرهم به ربهم وينتهون عما نهى عنه.
أما الذين يعاندون ويتكبرون ويطغون ويؤثرون هذه الحياة القصيرة الزائلة فسيتجرعون الكثير من الأحزان والآلام.
 النتائج المتولدة من الأمراض والعاهات
 كما ذكرنا سابقا فإن الأمراض والحوادث ما هي إلا بعض الوسائل التي خلقها الله لكي يختبر بها الإنسان في هذه الدنيا. فالإنسان المؤمن والصادق في إيمانه  إذا ألم به أي حادث لجأ إلى الله بالتضرع والبكاء، لأنه يعلم جيدا بأنه ليست هناك أي قوة على وجه الأرض تستطيع إنقاذه سوى الله تعالى.
وبالطبع فإن الله تعالى الذي يختبر إيمان الإنسان وصبره وتوكله في مثل هذه الحوادث سيمنح هؤلاء المؤمنين مقابل هذا الإحسان سعادة لا نهائية، وكما ذكر القرآن الكريم كان سيدنا إبراهيم عليه السلام نموذجاً مثالياً من خلال حسن تصرفاته وصدقه في توجهه ودعائه إلى الله تعالى. لذا فحري بالمؤمنين أن يحتذوا حذو سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي كان دعاؤه:
وَإذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِي وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (الشعراء 79-81 )
ومثال آخر هو سيدنا أيوب عليه السلام الذي لجأ إلى الله تعالى في كربته, حيث نجاه من الأمراض والآلام الشديدة التي أصيب بها وصبر عليها سنوات طويلة، وبذلك أضحى أنموذجاً للصبر يحتذي به من قبل المؤمنين :
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ( سورة ص 41 )
إن أمثال هذه المعاناة لا تزيد المؤمنين إلا نضجاً وتعد خيراً بالنسبة إليهم, بينما كل كارثة أو مرض يعد للملحد نوعاً من أنواع البلاء, لذا نراه يتقلب بين جوانح الألم لأنه لا يدرك بأنه قد خلق لحكمة معينة,  وأنه في الآخرة سيحصل على مكافأة مقابل هذه الآلام إن توكل على الله تعالى وصبر عليها. وعلاوة على هذه الآلام المادية فهناك بجانبها الآلام المعنوية. لأن القيم السائدة في مجتمع ونظام ينكر الله تعالى هي قيم مادية بحتة. فإذا تعرض شخص معروف ومحبوب لدى الكثير من الناس لحادثة أقعدته عن الحركة وأصبح لا يقوى على مزاولة نشاطه المعتاد نرى بأن معظم أصحابه القدماء يتركونه وحده ولا يبدون الأهتمام السابق به، أو يهملون حتى السؤال عنه، فإذا  كان جميلاً وفقد جماله, أو إذا كان شخصاً قوياً وفقد قوته فإن الاهتمام به يقل عما كان عليه قبل ذلك, والسبب يعود إلى أن المجتمعات التي تعيش بعيدة عن قيم الدين نرى أن الأفراد فيها يقَيمون بعضهم البعض بروابط مادية فقط, لذا فإن حصل لأحدهم ضيق مادي فإن قيمة هذا الإنسان تنتهي.فمثلا نرى زوجة وأقرباءً الشخص الذي يصاب بعاهة جسدية يبدءون بإظهار تذمرهم وضيقهم منه، ويبدأ المصاب بعاهة جسدية بشرح سوء حظه هذا لأصدقائه وأقربائه، فمنهم من يتحسر على شبابه وبأنه مازال في ربيع عمره  وأنه لا يستحق أن يقع في مثل هذه الحال، ويظل نادباً حظه العاثر.
في النهاية فإن عدم إظهار الأهتمام اللازم بهذا الشخص المصاب سيدفعه لكي يطلب المزيد من الأهتمام والرعاية من أفراد عائلته وأقربائه. ويتمنى معظم المحيطين به والقريبين منه أن يتركوا مثل هذا الإنسان العاجز المريض لشأنه ويبتعدوا عنه، ولكنهم لا يجرأون على مثل هذا التصرف خوفاً من الناس ولومهم وخوفاً من تنديد المجتمع بهم وما سيقولونه عنهم إن تصرفوا على ذلك النحو.
والغريب أننا نرى أن الأفكار والأفعال والعبارات التي تنم عن الأنانية والمصالح الشخصية تحل محل كلمات وعبارات الوفاء والثناء عندما كان هذا الإنسان في أتم غناه وصحته. وفي الحقيقة فليس من الغريب على الذين يعيشون ضمن هذا النظام الجاهلي والمادي أن يكون مفهوم الصداقة والوفاء قصيراً بهذا الشكل وغير دائم، فليس من الممكن أن تنتظر من الشخص الذي يخلو قلبه من مخافة الله والذي يقيم جميع علاقاته البشرية على المعايير المادية فقط أن يدرك معنى الصداقة الحقيقية, لأنه يعتبر حسب منطقه أن من الحمق أن يتصرف الإنسان بشكل جيد وقويم مادام لا يؤمن بوجود أي آلية تقوم بمعاقبته إن اقترف أعمالا غير صالحة، كما يرى أنه من العبث قيام أي شخص - حسب المنطق الجاهلي الذي يؤمن به- بأي تضحية لشخص آخر، أو إظهار وفاء غير مبرر مادام يعتقد أنه بعد سنوات سيموت وسيفنى إلى الأبد. ولكون كل فرد في مثل هذا المجتمع الجاهلي يؤمن بنفس المنطق وهو أنه سيذهب إلى ظلمة العدم بالموت، وسينتهي به الأمر إلى عالم الفناء ففي هذه الحالة نجد أن كل فرد منهم يفكر في مصلحته وفي راحته الشخصية فقط.
ولكن الوضع يختلف مع المؤمنين، فالذين يؤمنون بالله ويعترفون بعجزهم وبضعفهم ويخافون الله تعالى ويحبونه، فإنهم يُقيمون علاقاتهم الشخصية ويبنونها على ضوء ما أمرهم الله تعالى به. فأهم الخصال التي يجب أن يمتلكها المؤمن هي التقوى, التي تعني مخافة الله تعالى وخشيته وهذا ما يجعله يمتلك خلقا أصيلا وصفات حسنة وحميدة.
فإذا امتلك شخص ما في هذه الحياة مثل هذه الصفات الحميدة - وإن كان يعاني من بعض العاهات الجسدية – فإن مآله سوف يكون الجنة خالدا في نعيمها. وهذا ما وعده الله تعالى  للمؤمنين به. لذا فإن المؤمنين ومن هذا المنطلق يكونون فيما بينهم على درجة عالية من الوفاء والحب والصداقة الحميمة والستر على عيوب الآخرين ونقائصهم، ومعاملتهم بالرحمة والشفقة. وهذا الاختلاف الكبير ما هو إلا عقاب للمجتمع الجاهلي الذي يعيش بلاءً كبيراً في الحياة الدنيا سلّطه الله على هؤلاء المنكرين وغير المنكرين.
إن الذين عاشوا في هذه الدنيا كما يحلو لهم، وتصرفوا كيفما شاءوا دون محاسبة سيعيشون في الآخرة رعباً كبيراً لأنهم سيحاكمون على ما اقترفوه من أعمال وأفعالِ قبيحة من ظلم ٍ وجحود وأخلاق دنيئة. وتشير الآية الكريمة على إن الكفار الذين تخلقوا بالأخلاق والتصرفات السيئة ستكون وبالا ًعليهم في الحياة الدنيا بقوله:
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِ لأنفسهم إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ   (آل عمران 178 )

الشيخوخة  

نرى بوضوح التأثير السلبي للعامل الزمني في كل شئ. فالسيارة حديثة الطراز بعد مرور بضع سنين ستبدأ بالتعرض لمختلف الأعطال والخدوش, وهذا ما سيؤدي إلى قدمها, وهي نتيجة لا مفر منها. كذلك الحال للبيت الذي  إذا ترك خمس أو عشر سنوات ( من دون القيام بالأهتمام اللازم به ) فإنه سيبدو بمظهر قديم نتيجة لفقدان أصباغ البيت ورونقه, ولكن الأهم من كل هذا هو مشاهدة الإنسان نفسه بصمات الزمن على جسده. فمع تقدم العمر تظهر آثار سلبية على مختلف أنحاء جسمه والتي لا يمكن تلافيها ولا إخفاءها مع أن الإنسان يحاول الحفاظ على جسمه من هذه التأثيرات الخارجية المضرة. ولقد ذكر القرآن الكريم هذه التغيرات التي تطرأ على جسم الإنسان خلال فترة زمنية معينة بقوله :
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ  (سورة الروم 54)
وعند التفكير في وضع الخطط المستقبلية فإن فترة الشيخوخة هي الفترة التي لا تؤخذ في الحسبان في كثير من الأحيان. فالإنسان يحاول بقدر المستطاع الابتعاد عن التفكير في هذه الفترة من عمره التي سيعاني فيها بسبب الشيخوخة من العجز والضعف الجسدي، فنلاحظ الخوف والقلق الذي يعتري الوجوه بين فترة وأخرى عند التكلم حول مثل هذه المواضيع, ولكن سرعان ما ينسون هذه المواضيع وكأن شيئا لم يكن، ويرجعون إلى مزاولة حياتهم الأعتيادية وبشكل طبيعي. ولعل السبب الرئيسي الذي يدفعهم إلى عدم التفكير في شبح الشيخوخة هو أن الشيخوخة تذكرهم بعدم الخلود في هذه الدنيا وبالموت والزوال، ولهذا السبب ومن هذا المنطلق فهم لا يحبذون التفكير كثيراً في مثل هذه المواضيع التي تبدو لهم مزعجة والتي ستواجههم عاجلا ً أم أجلاً. وهم يحسبون بأن العمر أمامهم ما زال طويلاً ولا يزال هناك وقت طويل جداً على الشيخوخة والموت. لقد بين القرآن الكريم وبشكل واضح الوهم الكبير الذي يقع فيه مثل هؤلاء الناس بقوله:
 بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافهَا أَفَهُمْ الْغَالِبُونَ ( الأنبياء 44)
      إن الوهم الذي يقع فيه أمثال هؤلاء وهم كبير, لأن كل إنسان مهما كان عمره إذا رجع إلى الوراء فأنه سيلاحظ وجود ذكريات واضحة وذكريات غير واضحة المعالم. ففي فترة الطفولة والشباب حيث مرت به ذكريات وحوادث مؤلمة وسعيدة, كان البعض منها يبعث على الفرح والغبطة, كذلك مرت عليه أوقات كان عليه اتخاذ قرارات حاسمة, وكانت هناك سنوات وجهود أهدرها عند محاولاته الوصول إلى غاياته وأهدافه. كل هذه الذكريات وإن صعب عليه تذكرها بوضوح ستبدو وكأنها لحظات سريعة جداً مرت به. لذا فإن طلب من أحدهم أن يشرح حياته التي عاشها, فسنرى أنه يحتاج إلى بضع ساعات فقط كي يلخصها لنا. إن الوقوف على هذه الحقيقة واستيعابها لا يحتاج سوى إلى بضع ثوان, فمثلاً الشخص الذي عمره 40 عاماً والذي يأمل بالعيش حتى 65 عاماً عليه أن يدرك جيداً أنه كما مضت الأربعون عاماً بهذه السرعة كذلك فالمتبقي وهو 25 عاماً سيمضي بنفس السرعة التي مرت بها الأعوام الأربعون السابقة.
ويمكن قول الشيء نفسه للشخص الذي سيعيش حوالي 90 عاماً. فليس هناك من فرق, لأنه لو كان المتبقي من عمره سنوات طويلة أو قصيرة فإنه في النهاية ستنقضي وتنتهي لا محالة. إن شيخوخة الإنسان ما هي إلا تنبيه بأن هذه الدنيا ما هي إلا محطة انتظار، وأنه مهما عمل فعليه أن يحزم حقائبه ويرحل من غير رجعة إلى دار البقاء الأبدي. لذا يجب على الإنسان أن يكون أكثر واقعية وأن يترك الأحكام المسبقة جانبا, وعليه أن يدرك أولاً أن الزمن يمر بسرعة كبيرة وأن انقضاء كل يوم من حياة الإنسان لا يجعله أكثر شباباً وقوة, بل على العكس هو خطوة أخرى نحو الشيخوخة.
 وبإختصار فإن الشيخوخة ما هي إلا دلالة واضحة على عجز الإنسان. ومع تقدم عمر الإنسان تتولد أمارات وعلامات العجز البدني حيث تكون واضحة للعيان.
والقرآن الكريم يتناول العجز والضعف الذي يلف الإنسان وهو يتقدم بخطوات إلى فترة الشيخوخة بقوله تعالى:
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌَ  ( سورة النحل 70 )
وبطبيعة الحال فيمكن القول بأن الشيخوخة تمثل فترة الطفولة الثانية، لأن الإنسان في مثل هذه الفترة يحتاج إلى الرعاية والحماية التي يحتاجها الطفل. حيث تظهر في الإنسان في هذه المرحلة صفات بدنية وذهنية تجعله وكأنه عاد إلى فتره الطفولة. فلم يعد يملك تلك القوة والمقدرة على إنجاز الأعمال التي كان يقوى عليها وبكل سهولة في فترة شبابه. وعندما كان شاباً كان يمتلك ذاكرة قوية ومع تقدم العمر سيظهر بشكل طبيعي تراجع وضعف في ذاكرته.
ويمكن الإكثار من سرد هذه الأمثلة وفي كل المواضيع, ولكن كنتيجة نهائية يمكن القول بأن الأنهيار الذهني والجسماني الذي يظهر على الإنسان في فترة زمنية معينة تمثل نوعاً من أنواع الرجوع إلى فترة الطفولة.
وبإختصار يمكن القول بأن الإنسان كما بدأ حياته من فترة الطفولة, فإن حياته تنتهي بعدما يعود كي يمر بهذه الفترة مرة ثانية. ومما لاشك فيه أن هذه الفترة لم تظهر بشكل عشوائي.
إن الله تعالى لو شاء لجعل الإنسان يتمتع بشبابه حتى يدركه الموت، وما جعله يعاني من أي مرض أو عجز جسماني, ولكن الحكمة الإلهية قضت أن يتذكر الإنسان بأن هذه الدنيا فانية وزائلة، وذلك من خلال خلق سلسلة من الأمراض والمشاكل الصحية له.
 وفي الوقت نفسه فإن الغاية من إظهار هذه النواقص في الحياة الدنيا هو من أجل زيادة ولعه وشغفه بالآخرة دار البقاء الحقيقية. وقد بينت الآية  الكريمة أدناه وبشكل واضح للعيان الحكمة من وصول الإنسان لفترة الشيخوخة وجعل الدنيا زائلة فانية بقوله تعالى :
يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إلى أجل مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أشدكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فإذا  أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ  (سورة الحج 5 )

 العوارض البدنية المتأتية من الشيخوخة

مهما كان الإنسان غنيا ومشهورا ً وقوياً فأنه لا يستطيع إن ينقذ جسده من العوارض السلبية التي ستواجهه مع تقدم العمر. حيث يمكن استعراض قسمً من هذه العوارض على النحو التالي:
إن جلد الإنسان يلعب دورا مهما جدا في جماله، فإذا رفعت هذه الطبقة التي يقدر سمكها ببضع ملليمترات سنلاحظ مشهداً غير مفزعا، وبعيداً كل البعد عن أي مقياس من مقاييس الحسن والجمال، وهذا الأمر يشمل كل الكائنات الحية. بل يصل إلى درجة أنه يصعب حتى النظر إلى هذا المنظر، لأن الجلد علاوة على قيامه بوظيفة الحفاظ والحماية لجسم الإنسان فهو يعطي منظراً مستوياً وخالياً من النتوءات والتعرجات, لذا فهو يقوم بوظيفة جمالية مهمة جداً.
وهنا يمكن القول بأن حسن الإنسان الذي طالما يتفاخر به بين أقرانه ما هو إلا كيلوغرامين من الجلد الذي يغطي كل جزء من أجزاء جسده، ويمكن القول بأنه ولحكمة ما فإن أكثر المناطق التي تعاني من التشوه مع تقدم العمر هي جلد الإنسان.
     ومع تقدم العمر يبدأ الجلد تدريجيا بفقدان مرونته ويقل سُمكه نتيجة لإنهيار طبقة البروتينيات التي تشكل النواة الرئيسة لتركيبة الجلد، حيث تزداد هشاشته مع تقدم العمر، وهذا يؤدي بالنتيجة إلى ترهل الجلد. لذا فتقدم العمر يؤدي عند الكثير إلى زيادة المخاوف من ظهور التجاعيد والخطوط على الوجه الذي يحدث لنفس الأسباب التي ذكرناها. كذلك ونتيجة لقلة الإفرازات الدهنية - التي تغطي الطبقة الخارجية من الجلد وتمنحها نعومة وطراوة طبيعية - يبدأ الجلد بالتيبس والتقشر, ومع زيادة التيبس يزداد تساقط الطبقة الخارجية من الجلد والذي يؤدي في النهاية إلى سهولة تأثر الجلد بالعوامل الخارجية المحيطة به حيث يسهل اختراقه.
وبالاستناد إلى هذا فإن من الأعراض التي تظهر على الشخص في فترة الشيخوخة هي حكة الجلد، جروح في الأظافر، الأرق. . . الخ, وبنفس الشكل يحدث هدم كبير في الطبقات الداخلية للجلد كما أن آلية تجديد ونقل المواد داخل أنسجة الجلد عند كبار السن تشهد تراجعاً ملحوظاً، ولهذا السبب نلاحظ نشوء الأورام الخبيثة وبشكل مستمر عند كبار السن.
 إن متانة العظام تحمل أهمية  قصوى من كل النواحي لجسم الإنسان, فكما أنه من السهولة للإنسان الشاب أن يمشي وهو منتصب القامة فإن هذا الشيء يبدو صعباً من الناحية البدنية للشخص المسن. فمع تقدم العمر تبدأ أعراض حدوث إنحناء طبيعي في العمود الفقري, وهذا يحمل في طياته رسالة مفادها أنه حان الوقت لترك جميع أشكال الكبرياء والتعالي جانباً. لأنه من الطبيعي لشخص لا يملك القدرة على الوقوف على قدميه أن يفقد جميع صفات التكبر والتعالي على باقي البشر. فهو لا يستطيع مهما حاول أن يخفي عمن حوله عجزه وضعفه. وفي هذه الأثناء ومع تقدم العمر فإن أعضاء الحواس المختلفة ستبدأ بفقدان فعالياتها تدريجياً لعدم تجدد خلايا الأجهزة العصبية, حيث ينشأ ضعف في أعضاء هذه الحواس. فمع تقدم العمر تفقد العين القدرة على تعيير شدة الضوء مما يقلل قابلية الرؤية وصفاء ووضوح رؤية الألوان، ووضوح شكل الأجسام وأوضاعها. وقوة الإبصار تعد شيئاً في غاية الأهمية ، ولكنها تنخفض مع تقدم العمر. وهذا يعد من الأشياء الصعبة التي يجب أن يتعود عليها كبار السن.
إن مرور الإنسان بفترة الشيخوخة يؤدي إلى فقدان الكثير من المهارات البدنية والذهنية عنده وهذا أمر يسترعي الوقوف عنده وتأمله جلياً. فكما ذكرنا سابقا انه لو شاء الله ما جعل الإنسان يخلق مع هذا العجز والضعف. وقد كان من الممكن إن تتقوى قابلية أعضائه بشكل أكبر وأحسن وكان من الممكن أن تضيف السنين التي قضاها الإنسان في الحياة الدنيا إلى صحته صحة ً أكثر وعلى قوته قوةً أكبر. وكان من الممكن أن تسير الحياة على الدوام مع تقدم السن على نمط التجديد وليس على نمط الهدم والتخريب, إلا إن الحكمة الإلهية اقتضت أن يعيٌر جسم الإنسان ضمن نظام يضعف ويشيخ. فكما إن كل شئ على وجه الأرض مصيره الفناء والاضمحلال فإن المصير نفسه سيلاقي الإنسان على وجه الأرض.
وهكذا يتضح مرة أخرى عدم فائدة هذه الدنيا وعدم استمرارها وسرعة زوالها, وستبدو حياة الدنيا شيئاً تافهاً لا يحمل أي قيمة مقارنة مع حياة الآخرة. ومن الجدير بالذكر أن الله تعالى أكد على هذه الحقيقة وأخبرنا مراراً أن هذه الحياة الدنيا تتسم بالصفات التي تجعلها مؤقتة وغير دائمة، وأمر الإنسان أن يفكر ويتدبر هذا الموضوع، ويستخرج منه الدروس والعبر اللازمة.
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الأنعَامُ حَتَّى  إذا أخذ تْ الأرض زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أنهم قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أو نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ( سورة يونس 24 )
 مما تم استعراضه حتى الأن يمكن ملاحظة أن الإنسان بعد ولادته ينمو ويصل إلى عمر معين, وبعد فترة سيصل إلى مرحلة يكون في أوج قوته, عندها يخالجه إحساس بأن هذا الجسم ملك له ويرى نفسه محط أنظار الجميع، ولكن بعد فترة زمنية يفاجأ بأن جميع ما أوتي من قوة وجمال ينتهي ويضمحل لتحل الشيخوخة محلها, وهو حيال هذا الأمر لا يملك أن يفعل أي شئ. لأن الله قد خلق هذه الدنيا على أساس أنها دار فناء, لذلك خلق الإنسان ومعه كل صفات وعلامات الضعف والعجز لكي يجعله يستعد لشد الرحال إلى دار الآخرة. 
  أمثلة عن الشيخوخة ذات عبر
ذكرنا حقيقة أن الشيخوخة هي مصير الجميع دون استثناء، ولا مفر منها, ولكن الشيخوخة التي تصيب المشهورين الذين يملكون المال والجمال والجاه لها دلالات خاصة, حيث تترك على بقية الناس أثراً كبيراً. ففي المجتمع الجاهلي هناك الكثير ممن يتخذ مثل هؤلاء الناس كقدوة لهم إما لشهرتهم أو مالهم أو لحسنهم, وشيخوخة ومثل هؤلاء الناس وعجزهم يرمز بشكل مهم جداً إلى مدى تفاهة وقصر هذه الدنيا. ويمكن مشاهدة المئات من هذه الأمثلة من حولنا. فيمكن مشاهدة أحد هؤلاء الأشخاص إما في التلفزيون أو في إحدى صفحات الجرائد وهو يعاني من عجز جسدي وذهني فاقدا لحيويته وقوته بعدما كان في يوم ما يتمتع بكامل ذكائه، وكان صاحب بدن صحيح وجميل بحيث أو صله إلى عالم الشهرة والأضواء. طبعا إن مثل هذا الشيء هو مصير جميع البشر، ولكن الأمر هنا يختلف لكون مثل هؤلاء الناس لهم مكانة خاصة جدا في عقول الناس وان مشاهدتهم بهذه الصورة من العجز والشيخوخة سوف تترك أثراً لا يمحى في ذاكرة الناس.

وفي الصفحات  الآتية سنقدم أمثلة على مثل هؤلاء الناس وسنرى بأنهم مهما كانوا مشهورين، ومهما اتصفوا بالحسن والشباب في يوم من الأيام  فإن مصيرهم هو الشيخوخة التي لا مفر منها.

  موت الإنسان

هل انتم تدركون بأنكم في كل يوم تقتربون شيئاً فشيئاً من الموت ؟

هل تعلمون بأن الموت قريب جدا منكم كباقي البشر ؟ 

 كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ   ( سورة العنكبوت 57 )

هذه الآية التي تذكر بأن الذين عاشوا على وجه الأرض والذين يعيشون الآن والذين سيعيشون في الغد  دون استثناء قد ماتوا أو سيموتون. ولكن رغم هذه الحقيقة الواضحة، فالغريب أن أكثر الناس يرون أنفسهم بمنأى عن هذه الحقيقة الثابتة.
دعونا نتأمل هذا المثال لشخصين:الأول يولد ويفتح عينيه ويستقبل الدنيا، والثاني يغمض عينيه للمرة الأخيرة ليودع هذه الدنيا. فلا الوليد الذي ولد استطاع أن يتدخل في ولادته، ولا الشخص الذي مات استطاع التدخل في موته. لأن الله وحده الذي يملك هذه المقدرة والقوة، يخلق من يشاء ويقبض روح من يشاء. فكل البشر خلقوا ليعيشوا لزمن معين، وبعدها سيموتون. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله:
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فإنه ملَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(سورة الجمعة 8 )
فأكثر من الناس لا يرغبون في التفكير في الموت كثيراً، في نفس الوقت نرى انشغال الإنسان بأعماله اليومية يلهيه ويدفعه للتفكير بأشياء أخرى. فأمور مثل: في أي مدرسة سيدرس، وفي أي عمل سيشتغل، ماذا سيلبس، ماذا سيأكل. . . الخ. كل هذه الأشياء تعتبر من أهم القضايا عند معظم الناس، لأنهم يحسبون أن الحياة عبارة عن مثل هذه الأشياء فقط، وعند ذكر الموت أمامهم يحاولون التهرب والاختباء خلف كلمات لا تحمل أي معنى ولا تستطيع منع الموت أو تأخيره فيقولون مثلا: ( ما هذا ؟.. لماذا لا تبدأ كلامك بالخير؟) وهم يقدرون أنهم لن يموتوا إلا بعد وقت طويل من الشيخوخة، أي يحسبون أن هناك مدة لا تقل عن خمسين أو ستين سنة أو حتى أكثر، لذا نراهم لا يشغلون أنفسهم بمثل هذه المواضيع الكئيبة التي تنفر منها نفوسهم، بينما لا يملك أي أحد أي ضمان بأنه سيعيش بعد ثانية واحدة فقط.
في كل يوم يمكن لكل شخص أن يقرأ كل شخص في الصحف ويرى من خلال شاشات التلفزيون العديد من حوادث الموت وبشكل كثيف, ويشاهد وفاة الأقرباء, ولكنه لا يفكر أنه في يوم ما سيشهد الناس موته ونهاية حياته. وعندما يواجه الإنسان الموت فإن جميع الحقائق والأمور المرتبطة بالحياة ستنهار، ولا يبقى منها شيء. فكروا الآن في حالكم. . . . فتح وغلق أعينكم، القدرة على الحركة في أجسامكم، تكلمكم، ضحككم وبإختصار كل فعالياتكم الحيوية، ولكن حاولوا أن تجسدوا أمام أعينكم منظركم وبأي حال ستكونون عقب وفاتكم.
ستكونون في وضع لا تقدرون فيه على الحركة حيث ستتمددون وانتم لا تدركون ماذا يجري من حولكم، أما جسدكم الذي هو عبارة عن كتلة من اللحم والعظم فسيحمل من قبل أشخاص آخرين. فبينما يقوم أحدهم بغسل جسدكم لكي يكفن بالكفن الأبيض فإن المقبرة التي سيوضع فيها تابوتكم يتم حفرها وإعدادها لكم، حيث يوضع جسدكم في تابوت خشبي, وبعد الانتهاء من المراسيم في الجامع سيذهبون بكم إلى المقبرة، وسيكتب على لوح حجري أسمكم وتاريخ ولادتكم ووفاتكم، بعدها تخرجون من التابوت وتوضعون مع الكفن داخل تلك الحفرة، وبعدها ينهال التراب على الحفرة وتنتهي المراسيم بعدما يغطيكم التراب بشكل كامل. في البداية تكون الزيارات متعددة لقبركم, ثم تصبح زيارة واحدة في السنة، ومن بعدها ستنقطع هذه الزيارات. وعلاوة على هذا لن يكون لديكم خبرٌ أو أي علم عن هذه الزيارات.
 سيغدو فراشكم وغرفتكم التي استعملتموها لسنين عديدة فارغة، وكذلك سيتم توزيع ممتلكاتكم الشخصية والخاصة لجهات مختلفة. سيذهب أقرباؤكم إلى دائرة الأحوال المدنية للتبليغ عن وفاتكم، وبالتالي مسح أسمكم من هذه الدنيا. سيكون هناك من سيبكي من خلفكم وستكونون في ذاكرتهم، ولكن مع تقدم الأيام  والسنين فإن عامل النسيان يزداد تأثيره, لذلك فبعد مرور عشر سنين فلن يظل هناك من يتذكركم على الرغم من هذه السنين الطويلة التي عشتموها معاً. ومع هذا يجب إدراك حقيقة أن الذين تركتموهم من ورائكم من أقرباء وأصدقاء سيبدأون في ترك هذه الدنيا تدريجيا, لهذا فإن بقاء ذكراكم أو عدم بقائه لا يشكل أي معنى أو أي أهمية .
وبينما يتم كل هذا في الدنيا، فإن جسدكم سيمر وبشكل سريع بمرحلة التفسخ والانحلال. فعند دفنكم في التراب تبدأ البكتيريا والحشرات الأرضية مباشرة بمهامها. وتؤدي الغازات المتراكمة في البطن إلى انتفاخ الجسم، وينتشر هذا الانتفاخ إلى سائر أجزاء الجسم حتى يصل الجسم إلى حالة يصعب معها التعرف عليه. ونتيجة للضغط المتولد من هذه الغازات سيندفع الدم من فمك وأنفك بشكل رغوة دموية, ومع تقدم عملية تفسخ الجسد فإن كلا من الأظافر والشعر وراحة اليد وباطن القدم ينفصلون شيئا فشيئا عن أماكنهم. وبالإضافة إلى التغيرات التي تطرأ على المظهر الخارجي للجسد فإن الأعضاء الداخلية تمر أيضاً بعملية التفسخ و الانحلال.
     نأتي الآن إلى النقطة التي تعتبر أفظع حادثة: إن البطن سينفجر من إحدى المناطق الأكثر ضعفاً نتيجة لامتلائه بالغازات، حيث ستنبعث رائحة كريهة يصعب تحملها. وخلال هذه الفترة أيضاً تبدأ عملية انفصال أجزاء الجسم الأخرى ابتداءًً من منطقة الرأس، حيث تبدأ العضلات بالانفصال من أماكنها، ويبدأ الجلد والمناطق الهشة من الجسد بالتساقط, ونتيجة لهذا يبدأ الهيكل العظمي بالظهور تدريجياً, ويأخذ  الدماغ بعد تفسخه تماما منظر التراب أو الصلصال، وتبدأ مناطق اتصال العظام بالتفكك والانفصال, ويتبعها انفصال أجزاء الهيكل العظمي, وهكذا تستمر هذه العملياث حيث يتحول الجسد بكامله إلى كومة من العظام والتراب. وهكذا لا يمكن الرجوع ولو لثانية واحدة للحياة قبل الموت ومشاهدة العائلة، أو أي لقاء مع الأصدقاء والأحبة من أجل التسامر. ولن يبقى أمامه فرصة اعتلاء المناصب العليا، لأن جسده سيتفسخ ويتحول إلى هيكل عظمي. والخلاصة أن الجسد الذي نحسب أنه هو جوهرنا  ينتظره مصير مرعب وهو الفناء، ولكن الروح يبقى، وهذا الروح سيكون قد ترك ورحل عن هذا الجسد. أما هذا الجسد الذي تركته وراءك فسيتحلل ويتفسخ بشكل مخيف.
حسنا!. . . ما سبب كل هذا ؟
لو أراد الله ما جعل جسد الإنسان بعد موته يصل إلى هذه الحالة المزرية, ولكن هناك معنى كبيرا ومغزى عميقا لهذا الأمر. قبل كل شي على الإنسان أن يعلم أنه ليس عبارة عن جسد فقط, وأن هذا الجسد قد أعطى له كهيكل خارجي, فعليه أن يفهم هذا عندما ينظر إلى هذا المصير المرعب, ويعلم أن له وجوداً يتجاوز هذا البدن. وأن ينظر الإنسان ويتدبر مصير موت جسده الذي طالما انحنى أمام شهواته ونزواته، وكأنه سيعيش ببدنه هذا إلى الأبد. وأن هذا الجسد لا بد له في يوم ما أن يدفن تحت التراب، ويتفسخ ويتحلل، وتأكله الديدان، ويتحول إلى هيكل عظمي, ولربما لا يكون هذا اليوم ببعيد، بل قد يكون على بعد خطوة واحدة قادمة فقط.
على الرغم من كل هذه الحقائق فإن هناك ميلا في روح الإنسان للرفض وعدم التفكير في القضايا التي تنفر منها نفسه ولاتميل إليها. وتتوضح هذه الحقيقة بصورة جلية عندما يتعلق الأمر في موضوع الموت. وكما ذكرنا سابقا فإن الموت يتذكر عند مرور الذكرى السنوية الأولى لأحدهم إن كان من الأقرباء أو الأصدقاء، ولكن الأغلبية من الناس ترى الموت شيئاً بعيداً عنهم على الدوام. فهل للإنسان الذي يستبعد الموت وضع يختلف عن الذي يموت وهو يمشي في الطريق؟ أو من الذي يموت وهو نائم في فراشه ؟ أم يحسب نفسه أكثر شباباً وأنه سيعيش لسنين طويلة ؟ نفس هذه الأفكار نفسها ستكون قد وردت إلى ذهن أحدهم وهو يمشي في الطريق لكي يصل إلى مدرسته, أو شخص تأخر في الوصول إلى اجتماع مهم في شركة فاضطر إلى قيادة السيارة بسرعة عالية مما تسبب في وقوع حادث مروري له, أو شخص أصيب بمرض لم يكن ينتظره وفي وقت غير متوقع. وسيصاب قراء الجرائد بذهول وهم يطالعون خبر وفاة شخص كان بالأمس فقط برفقتهم. ومن الغريب أنه قد لا يخطر على بال أحدهم احتمال تعرضه للموت بعد فترة قصيرة من قراءته هذا الخبر على الرغم من وجود الكثير من الأعمال التي يجب إنجازها وإكمالها من قبله والتي بسببها قد يعتقد أن الموت مازال مبكرا ولم يحن وقته بعد. قد يكون نمط تفكيرهم هذا هو السبب. ولكن هذا يعني الهروب من الحقيقة. ويذكر الله تعالى عدم جدوى هذا الهروب :
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أو الْقَتْلِ وَ إذا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا  (سورة الأحزاب 16)
ويجب ألا يغيب عن بالنا بأن الإنسان جاء إلى الدنيا عارياً وسيغادرها عارياً، ولكن بعد ولادته فإنه من أجل قضاء حاجاته يقوم باستعمال هذه النعم المسخّرة له بشكل مسرف وجاهل، وينقلب موضوع الظفر بهذه الحاجات إلى أهم غاية في حياته. بينما من المعروف أنه لا يأخذ  معه عند موته ما كان يملكه من ثروات ونقود، بل مجرد قطعة قماش بيضاء طولها بضعة أمتار حتى يدفن فيها.
( ولد الإنسان عاريا وسيغادرها عاريا)، فالشيء الوحيد الذي سيرافقه في الآخرة هو عمله وإيمانه أو عدم إيمانه.
بعد الموت مباشرة
صورة لجسم الإنسان قبل تفت أجزاء جسده
صورة توضح تآكل وجه إنسان ميت من قبل الحشرات الأرضية في القبر

زينة الحياة الدنيا

يسعى الإنسان طوال حياته لتحقيق أهداف وغايات منها ماهو مادي ومنها ماهو معنوي. مثل الغنى والمال والمركز الاجتماعي وزوجة وأولاد. وهي تعتبر من الزينات التي لا يستطيع الإنسان التخلي عنها في هذه الحياة, فجميع الطاقات والجهود توجه من أجل الحصول على هذه الأشياء.
وعلى الرغم من معرفة الإنسان أن كل هذه الأشياء تأتى وتذهب، وأن كل شئ على وجه الأرض يفقد قيمته ويبلى مع الزمن، بل ويفنى. . . على الرغم من كل هذا فإن الإنسان يظل مرتبطاً بشدة بهذه الأشياء، ولا يستطيع التخلي عنها بسهولة. فعلى الرغم من معرفتهم إن أغراضهم وممتلكاتهم ستبلى وأن مزارعهم لن تبقى دائما بنفس الخصوبة, وأن زوجته التي طالما كأن يوليها كل الاهتمام سيأتي يوم تفقد فيه جمالها وحسنها، والأهم من كل هذا وعلى الرغم من كل هذا فهو يعرف أنه سيأتي يوم يترك فيه كل ما كان يملكه وسيرحل إلى غير رجعة،. . . مع كل هذا فإنه يظل مرتبطاً بزينة الحياة بهذا الشكل القوي.
سيدرك هؤلاء بعد موتهم أنهم قضوا حياتهم في سبيل الحصول على شئ واحد فقط, وأنهم خدعوا بهذه الدنيا التي سحرتهم وبهرتهم بزينتها وجاذبيتها الزائلة, وأنهم قد أعطوا للأشياء الفانية قيمةً أكبر مما تستحق. وسيدركون أن ما كان يجب عليهم أن يعملوه في الدنيا هو إظهار العبودية لله تعالى وليس الانشغال عنه واللهث وراء ماكانوا يظنونه ملكا وحاجة من حاجاتهم, بينما الله تعالى هو المالك الحقيقي لهذه الأشياء, والقرآن الكريم يشير إلى هذه الرغبة الملحة في تملك زينة الحياة الدنيا بقوله :
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الأنعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران 14 )
فجميع القيم الدنيوية من ثروة وزوجة وأولاد وتجارة تحاول أن تلهي الإنسان عن الله عز وجل وعن الآخرة, وتغريه كي يعيش فقط من أجل الدنيا. لكن الذين يدركون عظمة الله ويقدرونها حق قدرها يعلمون أن كل شيء في الدنيا متاع زائل، وما هو إلا وسيلة امتحان للإنسان وأختبار له, ويعلمون بأن واجبهم هو القيام بوظيفة العبودية والحمد والشكر لربهم الذي وهب لهم جميع هذه النعم والخيرات, بينما الذين لا يؤمنون بالله حق الإيمان يتعلقون بأهداب الدنيا تعلقاً شديداً يؤدي بهم إلى ضعف إدراكهم وتمييزهم للأمور، وهذا يؤدي بهم إلى اعتبار أن هذه الدنيا -بكل ما فيها من نواقص - وكل القيم المتعلقة بها أشياء مهمة, رغم أن الله تعالى وعد الإنسان بإعطائه أشياء أفضل وأثمن وأجمل وأحسن في دار الآخرة, ونبهه إلى أنه لكي يحصل على هذه النعم والعطايا الأخروية فما عليه سوى القيام بوظيفة العبودية كما يجب والعمل على كسب رضاه. لكن الغريب أن الإنسان يحول نظره إلى الدنيا ويركز اهتمامه عليها قانعاً بما تحويها من نعم زائلة! وحتى لو كان ذلك الشخص لا يؤمن بتاتاً بأي دين, وحتى لو كان ملحداً فإن عليه -على الأقل- أن يضع في حسبانه احتمال أن يبعث بعد الموت, وهذا الأمر ينبغي أن يدفعه كي يتصرف بطريقة عقلانية أكثر. أمّا المؤمنون فهم على قناعة كاملة بأن ذلك البعث ليس مجرد احتمال، بل هو حقيقة ثابتة لا شك فيها. ولكونهم يعُون هذه الحقيقة ويدركونها حق الإدراك فهم يجتهدون طوال حياتهم للابتعاد عن الأعمال التي توصلهم إلى جهنم, وفي الوقت نفسه يسعون بكل جهدهم في سبيل الظفر بالجنة. فهم يعلمون بأن الذين يقضون حياتهم في سبيل مصالحهم ومتعهم الدنيوية ويضعون جل جهدهم في هذا السبيل سوف يصابون يوم القيامة بخيبة أمل شديدة تبعث على ندم كبير وحسرة أليمة.
فما جمعه من مال وما كنزه من ذهب ونقود في البنوك, وما اشتراه من بيوت وأراض وسيارات لن تكون له طوق نجاة يوم القيامة, ولن تحميه ولن تحمي عائلته ولا عشيرته التي كانت دوما مصدر ثقته, بل إن جميع هؤلاء سوف يديرون وجوههم عنه. لكن ورغم كل هذه الحقائق يظل الكثير من البشر يرون أنه لا بديل عن هذا النّوع من الحياة، ويستمرون في ارتباطهم الأعمى بالدنيا متجاهلين الآخرة. ولقد بين القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله تعالى:
أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُر حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ  (سورة التكاثر 1 – 2)
     ما تم استعراضه حتى الآن من وسائل الزينة والإغراء ما هي إلا إحدى خفايا الامتحان, فلقد خلق الله الإنسان ومنحه جميع الخيرات التي يحتاج إليها، وهي خيرات مغرية وجذابة. ولكن هذه الحياة الدنيا مؤقتة وقصيرة في الآن نفسه، وهي تمكن الإنسان من عقد مقارنة بين الحياتين (بين حياة الدنيا وبين حياة الجنة)، وهنا يكمن السر. فالحقيقة أن حياة الدنيا جميلة جداً، وعظيمة ومتنوعة تليق بعظمة الله. فالعيش فيها والتمتع بها من النعم التي ترجى من الله, لكنها لن تكون بحال من الأحوال أهم من الآخرة وأهمّ من كسب رضى الله تعالى, ولهذا يجب على البشر ألا ينسوا الغاية من هذه النعم وهم يتمتعون بها, والله تعالى يحذر الإنسان في القرآن الكريم بقوله:
وَمَا أوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ
 ( سورة القصاص 60 )
أجل!… نرى البشر متعلقين بالقيم الدنيوية وغافلين عن الآخرة، ولكن ثمة حقيقة أخرى مهمة يتناسونها وهي أن ارتباطهم بالمباهج الدّنوية وسعيهم المستمر من أجل الحصول على هذه المتع لا يمنحهم في هذه الدنيا السعادة الحقيقية. ويرجع السبب في هذا إلى النفس البشرية التي لا تقنع بما لديها أبدا، بل تحاول باستمرار وبمختلف الوسائل الحصول على الأفضل والأحسن, فالإنسان يحاول باستمرار أن يحصل على الأفضل، ولكنه لا يمكن أن يحصل على جميع مايريد نظراً لطبيعة هذه الدنيا. لأنه مهما امتلك من أشياء, فإن هناك بالتأكيد أشياء أفضل وأحسن وأجمل مما يملكه، لذا فالإنسان  في هذه الدنيا لا يستطيع الحصول على الطمأنينة وراحة البال التامة.

 هل الغنى الحقيقي في هذه الدنيا؟

يعتقد الكثير من الناس بأنه يمكنهم أن يؤمنوا لأنفسهم حياةً مثالية رائعة خالية من النواقص، تلبي احتياجاتهم إذا صرفوا جهداً أكبر، وحاولوا تحقيق أهدافهم بشكل جدي، وهم يتصورون أن الثروات والإمكانيات المادية تلعب دوراً رئيسياً في تحقيق هذا, وبذلك يمكنهم أن ينشئوا عائلة سعيدة، ويعيشوا حياة مريحة, ويكسبوا مركزاً اجتماعياً جيداً ومكانة عالية بين الناس. وفي الحقيقة فإن إهدار الإنسان لعمره، وصرفه أكثر وقته في سبيل تحقيق هذه الأهداف هو خطاً كبير. فالناس يتناسون تماماً الحياة الأبدية الحقيقية ألا وهي الآخرة، لأنهم قضوا أعمارهم في هذه الحياة الدنيا وهم يفكرون فقط في راحتهم وسعادتهم.
فعلى الرغم من أن أهم وظائفهم هي العبودية التامة لله تعالى, نراهم وقد أنشغلوا بهذه الدنيا,  ونراهم  يغفلون عن شكر الله تعالى -الذي خلقهم ومنحهم هذا الغنى والمال - على هذه النعم ويجعلون جل هدفهم كسب رضى الآخرين واستحسانهم. بينما بيٌن الله في قرآنه الكريم بأن القيم الدنيوية زائلة وخادعة وليست لها أهمية  كبيرة:
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَ الأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(سورة الحديد 20)
فالخطأ الذي يقع فيه الكثير من البشر هو اعتقادهم بأن الآخرة شيء بعيد, أو عدم إيمانهم أصلاً بوجودها مما يجعلهم يعتبرون أنّ الدنيا "أرفع مكانة ً وأسمى من الآخرة, وهؤلاء الأشخاص يتوهّمون عدم فناء الثراء الذي حصلوا عليه, وهم بذلك يعرضون صورة واضحة للجهل والتكبر عند تحويل وجوههم عن النعم التي وعدها الله تعالى لهم في الآخرة مكتفين بما لديهم من متاع زائل. ولقد عرفّ الله تعالى في قرآنه الكريم أحوال مثل هؤلاء الناس ومصيرهم بقوله :
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ  أولئك مَأْوَاهم النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(سورة يونس 7-8 )
لقد ظهرت أمثال هذه الحالة النفسية طوال التاريخ، فمنذ القدم كان الملوك و الأمراء والحكام والفراعنة يحسبون بأن الغنى سيجعلهم يعيشون مخلدين، حتى أن البعض منهم كان يدفن جزءً من ماله في قبره، وذلك لعدم إعطائهم أي احتمال لوجود قيمة أعلى من قيمة النقود والأموال التي يملكونها, وقد توهّم بعض الناس بأن هؤلاء الأشخاص هم في الطريق الصحيح وظنوا بأنهم هم الفائزون.
والحقيقة أن أمثال هؤلاء الناس الذين يبدو أنهم قضوا حياتهم وهم يتمتعون بها قد واجهتهم نهاية غير النهاية التي كانوا يتوقعونها, والقرآن الكريم يخبرنا عن أمثال هؤلاء فيقول:
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ  (سورة المؤمنون 55-56)
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أنفسهم وَهُمْ كَافِرُونَ (سورة توبة 55 )
     لكن هناك شيئا مهما يجب ألا يغيب في أي وقت عن أذهان هؤلاء الأشخاص، وهي أن الغنى كله ملك لله تعالى وحده، وأن صاحب الملك الحقيقي هو الله تعالى وهو يوزع حصصاً من ملكه على من يشاء من عباده. وفي مقابل هذه النعم يريد من عباده أن يشكروه، وأن يؤدوا له فروض العبودية على الوجه الصحيح, لذا فإن الشخص الذي منحه الله الغنى لا يستطيع أحد أن يسلبه منه, كما لا يستطيع أي أحد أن يعاونه ويساعده على استعادة ثروته إلا هو، وكل هذا عبارة عن جزء من طبيعة الابتلاء الذي جعله الله للعباد في هذه الدنيا. والمؤمن الواعي والعاقل يدرك هذا الأمر، بينما الشخص الغافل هو الذي ينسى أنه سيأتي يوم يقدم فيه حسابه للذي خلقه :
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخرة إِلَّا مَتَاعٌ  (سورة الرعد 26 )

مركز تحميل الصور الاسلامية

تحدي بين مدرس يهودي وطالب مسلم

su-34

أركان الإسلام

a7dathalnihaya